الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حسن التوجيه
ذكر عبد الله بن عمر بخير، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم الرجل هو، لو كان يقوم الليل، فما ترك بعدها قيام الليل، فكانت هذه الكلمة، خير توجيه له، وكانت كالمشعل القوي الذي أنار له الطريق السوي.
وذكرت- عندما كتبت فصلا عن (عبد الحميد الموجه) بمناسبة ذكراه - أنه جمعي به أول مجلس، فبادرني بسؤاله: ماذا طالعت من الكتب؟ فأخذت أسرد له- لسوء حظي أو لحسنه قائمة حافلة بمختلف القصص والروايات، فنظر إلي نظرة عاتبة غاضبة وقال: هلا طالعت (العقد الفريد) لابن عبد ربه؟
هلا طالعت (الكامل) للمبرد بشرح المرصفي؟ واستمر في سرد قائمة من الكتب النافعة المكونة، فكانت تلك الكلمة القيمة خير توجيه لي في هذا الباب.
ولما ختم درس التفسير وأخذ الناس يلهجون بالثناء عليه نهض قائما، ثم قال: قولوا: رحم الله الشيخ حمدان، فقد قال لي: يا عبد الحميد إياك والوظيف، - يريد الشيخ- رحمه الله أن حسن التوجيه هو صاحب الفضل في ذلك وأن كلمة شيخه- هذه- هي التي أوجدت عبد الحميد العظيم- ويريد من وراء ذلك ومن إيراد هذه الكلمة، أن يوجه بها- هو الآخر- تلاميذه ومريديه، بأن يسد في وجوههم هذا الباب، الذي من دخله خرج من كل ما كان له، ولم يبق له إلا أن يأكل ويشرب (شأن الأنعام)، ولو أن عبد الحميد كان موظفا لربما كان كأكثر الموظفين، الذين لا تهمهم إلا أنفسهم ولا يشعرون بما تعانيه أمتهم، وإننا لنتسامح في التعبير إذ نقول:
لا تهمهم إلا أنفسهم، إذ ليس مما يهم النفس أن تعيش عيش العبيد، وتحيا حياة الأسرى وتتجرد من كل خصائص الأحياء إلا من الطعام والشراب واللباس، فإن كان هذا اللون من الحياة يهم مخلوقا فلا يكون إلا من تلك المخلوقات التي ليس لها ضمير ولا عقل ولا شرف.
إن حسن التوجيه- إذن- هو كل شيء في بناء الشعوب، هو مقود السيارة الذي ما أصابه العطب إلا وأصاب العطب السيارة ومن فيها.
وإن حسن التوجيه، هو الذي ينقصنا اليوم، فلا جرم كانت حركتنا من الاضطراب والفوضى كزورق في بحر لجي مزقت العواصف شراعه حطمت الأمواج مجدافه.
وإن حسن التوجيه لا يعتمد على العلم وحده، وإنما يعتمد- أكثر من ذلك- على نور الحكمة الذي يقذفه الله في قلب من أحبه من عباده كما قال تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} .
وإن الله- لذلك- يجعل هذه الحكمة، أداة التوجيه الصحيح، والدعوة الرشيدة إذ يقول:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} ، ثم يفسر جانبا من هذه الحكمة، إذ يقول بعد ذلك:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، والتي هي أحسن، هي الكلمة الرقيقة الندية الموجهة التي تنزل على القلب كما تنزل قطرة الندى على برعم الزهرة فيتفتح ويبتسم للحياة، وإذا بهذا القلب المغلق على ظلمته، المنطوي على تنكره للحق، المصطلى بنار حقده وعداوته، قد انتفض من هجعته، وانقلب للحق حليفا بعد عداوته، كما تصرح بذلك الآية الأخرى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} .
يجب- إذن- أن نكون حكماء، إذا أردنا أن نكون موجهين، فليس معنى التوجيه إلا أن نكون حكماء، ولتجلية هذا المعنى أعرض بعض الأمثلة:
كثيرا ما أسمع الوعاظ والمرشدين، يخصون الشبان في- دروسهم- بإعلان إعجابهم وتنويرهم- وحلقات الدروس مزيج من الشبان والشيوخ- وعندي أن هذا التخصيص ليس من الحكمة في شيء، إذ ربما أدى إلى خلو الميدان من ذوي الخبرة والرأي والتجربة، وهم الشيوخ.
وإن الشعب لا يسير أهدافه إلا على قدمين قويتين من قوة إدراك الشيوخ، وقوة عزم الشباب، وإذا كان الشباب يمتازون بقوة عضلاتهم، فإن الشيوخ يمتازون برصيد ضخم من التجارب، وقدرة بلا عقل يوجهها ربما تضر أكثر مما تنفع، وعقل بلا قدرة تنفذ خططه وبرامجه لا يفيد صاحبه، ومن هنا يقول أحد شعرائنا:
آهان لو عرف الشبا
…
ب وآه لو قدر المشيب
ويقول توفيق الحكيم.: " في الشباب يثمر الخيال والشعور والعاطفة، وفي الكهولة ينضج العقل والحكمة والتجارب، فلكل فصل من فصول العمر فاكهته".
هذا في الدروس، وفي المطالعة لاحظت عيبا آخر، فقلما رأيت من يسجل في مذكرته ما يصادفه أثناء مطالعته مما يحتاج إليه في درس أو محاضرة أو مقال، ليجده وقت الحاجة إليه ولا يضطر إلى إنفاق وقت طويل في البحث عنه في ثنايا الكتب المطولة، وربما لا يظفر به، وهذا بالنسبة للذين يطالعون الكتب القيمة، ولكن كثيرا جدا يقضون حياتهم في مطالعات لا تسمن ولا تغني من جوع، وأكثر منهم من لا يطالع بالمرة، فيعيش في جدب عقلي لا يطيقه إلا موتى القلوب.
وأرى أن من أهم الأسباب في ذلك كله، هو أن الطبقة المثقفة ليس لها وحدة تربطها وتجمع أفرادها للتعاون والتشاور وتبادل وجهات النظر.
ولعل الله يعيننا على تحقيق ذلك قريبا إن شاء الله.