الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عيادة
أيقظ في نفسي وخز هذا الزمهرير، خواطر كانت هاجعة، وأعاد إلى ذاكرتي صورا كانت شاردة، وعرض أمام عيني دنيا فسيحة تموج بشتى المشاعر والأحاسيس، دفع بي مفعولها إلى أن أضيف هذه الكلمة إلى الفصل السابق. يروي التاريخ أن أحد العارفين بالله دخل عليه بعض إخوانه في يوم شديد البرد كهذه الأيام فوجده عاريا من ثيابه فقال له: إن الناس في هذه الأيام تضاعف اللباس وأنت هكذا تتعرى من الضروري منه، فقال: تذكرت الفقراء وما يقاسونه من لذع هذا البرد، ففكرت فيما أواسيهم به فلم أجد، فقلت: لا أقل من أن أتعرى هكذا لأشاركهم إحساسم بالبرد. هذه الكلمة لها قيمتها الكبيرة في هذا الباب، وإن مر بمثلها الكثير من الناس دون أن يأبه لها أو يلتفت إليها، إنها كلمة تنفذ إلى الأعماق بقوة تأثيرها ومفعولها، إنها تشير إلى أن المواساة ممكنة من كل أحد، كل على قدر طاقته، وتشعر- فوق ذلك- إلى أن شيئا أساسيا ينقصنا الآن، هو يقظة الشعور والوجدان.
وتحت تأثير هذه الكلمة قالت لي نفسي:- نفسي اللوامة- لا نفسي الأمارة: وأنت بم تشارك، لأنه يجب أن تشارك؟ فارتبكت أولا ثم قلت: نعم يجب أن أشارك ولكن بم أشارك؟ بمالي؟ ولكن أين المال من أمثالي حملة الأقلام؟ بأن أتعرى كما فعل صاحبنا، ولكن هل يفيد العراة أن أتعرى؟ لا، بل يزيد واحد في عددهم بعريي ليس إلا، وملكتني الحيرة فلم أجد ما أصنع، وأخيرا هداني تفكيري إلى شيء وإن كان لم يقنعني كثيرا ولكن يثبت إسمي في القائمة على كل حال قائمة المشاركين ولو سلبيا، قلت أعودهم. وأنظر إلى شقائهم فأتالم ثم أكتب عنهم ليتألم من كان مثلي لا يملك إلا أن يتألم، ففي التألم مشاركة وإن كانت مشاركة سلبية كمشاركة صاحبنا بعريه، ولكن هذه المشاركة السلبية قد تكون عند بعض الناس
مقدمة للمشاركة الإيجابية كمشاركة الصائمين للفقير بجوعهم، فإن الحكمة من هذا الجوع أن يوقظ الشعور بالمحرومين في الناس، ولكن حتى هذه العيادة قد يستغربها كثير من الناس لأنهم يستكثرونها على هؤلاء التعساء، ويريدون أن يموتوا دون أن ينظر إليهم أحد، أو يتألم لألمهم قلب.
ونحن لا يهمنا من هذا شيء ما دام منهاجنا هو منهاج الإسلام وما دامت
دعوتنا هي دعوة الرجوع إلى تعاليم الإسلام، وعبادة المريض من سنن الاسلام ورسول الإسلام قد صح عنه أنه كان يعود المرضى في أطراف المدينة ولا سيما الفقراء منهم، فمالنا ولهؤلاء الذين لا يعنيهم أحد ولا يهتمون إلا بأنفسهم والذين لو استقر في قلوبهم إيمان، أو انطوت صدورهم على شيء من رحمة بأنضاء البؤس والحرمان لما كان في هذه الحياة بائس ولا محروم، ولأصبحت الحياه جنة تسر الناظرين، ولأصبح الناس كلهم إخوانا على سرر متقابلين:
- وإذن- فقد صح عزمي على أن أعود هؤلاء الذين لا يعودهم أحد، ولا يفكر فيهم إلا الأقلون. فذهبت إلى أحد شوارع العاصمة التي يكثر فيها وجود هذا الصنف من تعساء الإنسانية، فوقع بصري على مشهد يذيب الفؤاد، ويفتت الأكباد، ونظرت إلى أكوام من الجثث الحية الميتة، تكاد تلتحم بالأرض، لطول ما باشرت بأديمها الأرض، نظرت إلى عيون غائرة ووجوه كاسفة وبشرات ذابلة قد برزت من بين خروق الثياب الممزقة والأسمال المتهدمة، والأنكى للقلوب الرقيقة والمشاعر الحساسة أن هؤلاء التعساء كلهم صغير السن غض الإهاب لم يتخط أكبرهم عتبة العشرين فقلت في نفسي: إلى من تنتمي هذه الأسرة الشقية؟ وأين آباء هؤلاء الصغار وأمهاتهم؟ وإلى من وكل أمرهم؟ وإلى متى يبقون على هذه الحال؟ وما مدى صبرهم على كل هذا البلاء؟ وأين الرحمة التي يتحدث الناس عنها؟ وأين الزكاة التي جعلها الله أحد أركان الإسلام؟ وأين الصدقة التي حث عليها القرآن؟ وإذا ذهب كل هذا فأين الغيرة والشمم؟ وأين الوطنية التي يدعيها كل منا عند السعة ويحجم عن الأخذ بناصرها عند الأزمات؟ وبلغ بي التأثر مبلغه فذهلت عن نفسي ولم أشعر إلا بقطرات العرق- عرق الخجل من نفسي- تتساقط من جبيني على عيني فيختلط عرق الخجل بدموع الرثاء ويغيم بصري ولم لا؟ أليس هؤلاء التعساء إخواننا لا
فرق بيننا وبينهم إلا أنهم جاعوا وشبعنا، وتعروا واكتسينا، وسهروا ونمنا وشقوا وسعدنا أليس هؤلاء الصغار أبناءنا؟ وما الفرق بينهم وبين أبنائنا لولا الأنانية والجهل وضعف الإيمان وموت الضمير؟ إنه لولا ذلك كله لما كان هؤلاء غير أبنائنا الذين نقول فيهم:
وإنما أولادنا بيننا
…
أكبادنا تمشي على الأرض
لو مرت الريح على بعضهم
…
لامتنعت عيني من الغمض
إن هؤلاء ليسوا ضحايا الفقر فقط، وإنما هم ضحايا البخل والأنانية والإهمال كذلك.
إن أنانيتنا لتبعدنا عن رؤية هؤلاء والتفكير فيهم حتى لا نتألم بررؤيتهم والتفكير فيهم، أي أنانية كهذه الأنانية؟ أيتألم أخوك بالبرد والجوع، وتأبى أن تراه حتى لا تتألم، وتشفق أن تفكر فيه حتى لا تتأثر، وتصم أذنيك عن سماع خبره حتى لا تتحرك في نفسك مشاعر الرحمة فتواسيه بما يفضل عليك من قطع الخبز اليابسة وفضلات الطعام البائتة، وبقايا الثياب الممزقة؟
لله ما تفعله بنا هذه الأنانية التي لا ترحم!