الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إصلاح البيئة
إن للبيئة- وهي الوسط الذي يعيش فيه الفرد- لتأثيرا مباشرا في سلوكه وتوجهه كتأثير التربة في النبات، بل إن الطفل لينزل دنياه متأثرا بعاملين قويين في سلوكه: ما ورثه عن أبويه، وما يتأثر به في بيئته، ونحن اليوم لا نعيش في بيئة إسلامية تساعد على التربية الإسلامية، وإنما نعيش في مجتمع يقوم على أرضاع أجنبية وقوانين مدنية، وليس هذا الوضع المقلوب الشاذ قاصرا علينا نحن الذين نرزح تحت حكم أجنبي مفروض علينا، بل هو عام حتى في المجتمعات الإسلامية التي تنعم بنوع من الحكم الذاتي.
وإلى القارئ ما كتبه الأستاذ سيد قطب في كتابه الخالد: (العدالة الاجتماعية في الإسلام) ص 225 من الطبعة الثالثة:
"إن المجتمع الإسلامي الحاضر ليس إسلاميا بحال من الأحوال فقد سبق أن أثبتنا نصا من القرآن لا سبيل إلى تأويله بغير الاحتيال عليه، ذلك قوله:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ونحن لا نحكم بما أنزل الله في المجتمع الحاضر، فلدينا مؤسسات تربوية هي قوام حياتنا الاقتصادية، ولدينا قوانين تبيح البغاء ولا تعاقب عليه، والزكاة لا تجبى، ولا تصرف بطبيعة الحال.
ولندع أمر السرف والترف الذي يحرمه الإسلام، وأمر الجوع والحرمان الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:"أيما عرصة أصبح فيهم أمرؤ جائعا فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى" والذي يفتي فيه الإمام ابن حزم بأنه إذا مات رجل جوعا أعتبر أهله
قتلة، وأخذت منهم دية القتيل
…
لندع هذا وأمثاله مما قد يجادل فيه بعض المجادلين بالباطل
…
فالنص القرآني ينطبق بدون حاجة إلى هذا أو أمثاله، ينطبق بحكم القوانين، السائدة في المجتمع الحاضر والتي تبيح الربا وتبيح الزنا وتبيح القعود عن أداء الزكاة، وتعطل حدود الله المنصوص عليها في القرآن."
هذه البيئة الكافرة التي يصورها سيد قطب: بهذه العبارات الواضحة السافرة هي التي يعيش عليها المسلمون اليوم في أكثر بقاع العالم الإسلامي، إن لم نقل كلها، وهذه البيئة الفاسدة الطافحة بالشرور هى التي يجب إصلاحها قبل كل شيء وإلا لما استطعنا إصلاح شيء من الأشياء فإن إصلاح الأرض قبل بذر الحب وإلا فسد النبات بفساد الأرض هذه الأرضاع الفاسدة المقلوبة يجب إصلاحها قبل كل شيء، والإسلام ما جاء إلا ليصلح هذه الأرضاع لا ليعيش فيها ويجاريها ويساير تيارها، فمثلا جاء الإسلام فوجد نظام الربا سائدا في البيئة العربية فأبطله وقضى عليه، فإذا جاءت المدنية الأروبية المادية وأباحت الربا فيجب أن لا نسير في تيارها وننسخ بحكمها حكم الإسلام، وجاء الإسلام فوجد السفور والاختلاط وما يجران إليه من الزنا وفساد النسل واختلاط الأنساب فحرم ذلك وهاجمه وقضى عليه، فإذا جاءت المدنية المادية الكافرة وأباحت ذلك فلبس من الإسلام ولا من المدنية الصحيحة أيضا أن نجاريها ونقضي على تعاليم الإسلام وعلى الأصول الصحيحة للمدنية الصحيحة التي تحترم العنصر الأخلافي في الإنسان لا أن تتملق غرائزه وشهواته، ولكن المسلمين- ويا للأسف- ولاسيما من تثقف منهم ثقافة أجنبية جرفهم تيار هذه المدنية الزائفة وخطف أبصارهم برقها الخلب، وأصبح المتخلف عن ركبها يعد متخلفا عن ركب الحياة، والمحتفظ بتعاليم الإسلام والمتأدب بآدابه يعتبر رجعيا ومتعصبا وجامدا. إن الإسلام لم يبتل في تاريخه الطويل بمثل هذه البلية التي يدعونها المدنية العصرية التي خدرت عقول الناس، وحولت مجرى حياتهم من طريق الخير إلى طريق الشر، وهدمت الحواجز وأطلقت لأهواء النفوس حريتها وقلبت المقاييس الأخلاقية وحررت الغرائز الجنسية وقضت على الوازع الديني في النفوس فأصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنافخ في غير ضرم، وقست القلوب فهي كالحجاوة أو أشد قسوة، فهذه البيئة التي بلغت هذه الدرجة من الفساد والفوضى والآنحلال لا يمكن أن تنشئ جيلا صالحا فاضلا يؤدي وظيفته الإنسانية في الحياة، {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ
لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا.} فالواجب على المسلم أن يهتم بإصلاح مجتمعه كما يهتم بإصلاح نفسه أو أكثر ليضمن لنفسه الحصانة من عدوى المجتمع الموبوء وليتقي سخط الله الذي يعاقب على الشر من فعله ومن سكت عن إنكاره ولم يغيره، {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} لأن الشر يبدأ صغيرا ثم يكبر وقليلا ثم يكثر فيعم ضرره المجتمع كله، وهو معنى المثل: اطفئى النار في دار جارك، قبل أن تصل إلى دارك، ومن خصائص هذه الأمة أن الله جعل كل فرد فيها مصلحا وداعيا إلى الله إذ يقول:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .
وهذا موضوع آخر ربما عرضنا له في فصل آخر إن شاء الله، {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}