الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التخاذل
ما أغبى المسلمين إذ يتخاذلون وهم ضعفاء بينما يرون أعداءهم وأعداء دينهم يتعاونون وهم أقوياء والأدهى من ذلك أن المسلمين اليوم لا يكادون يخطون خطوة إلا في آثار هؤلاء الأعداء الأشداء ولا يعملون من عمل إلا مسيرين فيه بهذا الإقتداء، فلم إذن لا يقتدون بهم في هذا الطريق فيتعاونوا تعاونهم ويضربوا صفحا عن هذا التخاذل الذي لم يجنوا منه إلا الضعف والذل والإستعباد؟
أو أنهم قد أخذوا على أنفسهم أن لا يتأثروهم إلا في الشر، ولا يقتفوا خطواتهم إلا كما يقتفون خطوات الشيطان التي لا تسير إلا في طريق الإثم والكفر والضلال؟
ولكن- لم نحتاج إلى هؤلاء ولم نستعير منهم وقد أغنانا الله وآتانا ما لم يؤت أحدا من العالمين؟
فإن لنا من تراثنا الضخم- الذي يتمثل في كتاب الله وسنة رسول الله وتاريخنا الثري المخصب الحافل بالتجارب الصادقة والمواقف الملهمة والحكم الخالدة الموجهة- ما يكفينا وينأى بنا عن التطلع إلى الغير أو التطفل على الموائد الأجنبية.
إن قائد الإسلام الأعظم صلى الله عليه وسلم لم يحارب شيئا كما حارب التخاذل، ولم يحث على شيء كما حث على التعاون، ذلك لأنه بعث رحمة للعالمين، بعث ليقيم البناء الوثيق على الأساس الصحيح، فهو أولى أن يعلم أن الحياة التي بعث ليحول مجراها من طريق الشر إلى طريق الخير، لا تصلح إلا على التعاون، إذ رآى كيف عاثت في جوانبها يد الأنانية والتخاذل وعبادة الشهوات، فصيرتها غابة وحوش يأكل فيها القوي الضعيف، وجحيما لا يطاق ولا يأوى إليه إلا الأشقياء.
فدعا صلى الله عليه وسلم أولا إلى الأخوة أساس التعاون: "المسلم أخو
المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" ثم لما مهد إلى التعاون بالتنبيه إلى هذه الأخوة المقتضية للتعاون، دعا إلى التعاون فقال: "ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله".
إن تخاذل الأقوياء ينتج ضعفا، وتعاون الضعفاء ينتج قوة، وهو معنى قول القائل:
وضعيفان يغلبان قويا:
ولكن لا أحكم ولا أنفذ إلى صميم الواقع من قوله صلى الله عليه وسلم:
(المؤمن للمؤمن كاليدينة تغسل إحداهما الأخرى).
فاليد الواحدة لا تغسل نفسها، وكذلك الشخص الواحد لا يضطلع بأية مهمة وإن بدت هينة يسيرة.
فهذا الخبز- الذي لا يستغي عنه أحد والذي يظهر للناس أن الحصول عليه مستطاع لكل أحد- لا يصل إليك إلا بعد أن تتعاون عليه جهات كثيرة وأيد مختلفة، وبعد أن يمر في أطوار متسلسلة كأطوار الجنين قبل أن يخرج إلى دنياه، فأول ذلك تعاون الأرض والسماء، السماء بالسقي والأرض بالإنبات، وبين سقي السماء وإنبات الأرض يأتي صاحب المحراث وبعد أن ينضج الزرع يأتي صاحب المنجل ثم صاحب الرحي ثم صاحب الفرن، ولولا هذا التعاون المتصل المتسلسل لما حصلت على نصيبك من هذا الغذاء الضروري الأولى {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} .
كما يضرب صلى الله عليه وسلم المثل للتعاون بالبنيان الذي يشد بعضه بعضا.
فهذه اللبنات المتفرقة لا تجدي نفعا ولا تؤدي وظيفة إلا إذا تضامت وتساندت وتعاونت، عند ذلك فقط تصير بنيانا تعمر به الدنيا ويأوي إليه الناس وتتكون فيه الأسر وتتناسل حتى تصير أمما وشعوبا وأجيالا.
بل إنه صلى الله عليه وسلم لينفذ ببصيرته إلى سرائر القلوب وبواطن النفوس،
فيربيها على حب الخير، ويبذر فيها بذور التعاون إذ يقول:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
ومن المجالات الواسعة للتعاون في المجال الإقتصادي أو تعاون البائع والمشتري، إنه إذا انعدم هذا المجال أو اختل أو ضعف، انعدم المجال الحيوي للأمة أو اختل أو ضعف تبعا لذلك. ولكن المسلمين اليوم قل منهم من ينظر إلى هذه الناحية نظرة عميقة أو يعيرها ما تستحقه من عناية واهتمام، فترى المسلم يتردد على المتاجر الأجنبية ويشتري ما يحتاج إليه من التجار الأجانب، بينما متاجر الأهالي المسلمين لا يؤمها إلا القليل من المسلمين ممن لم يعدموا يقظة الشعور وصدق الوطنية ووازع الإيمان.
إن التخاذل هو داؤنا الخطير المبيد وإن التعاون هو دواؤنا الناجع المفيد.
فيا أيها المسلمون: حسبكم تعاونكم على ما يبيدكم، وتخاذلكم فيما يفيدكم، فأفيقوا من نومكم واعملوا لما فيه خيركم وسعادتكم.
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .