الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحب
ربما عجب القراء الكرام من إدخال هذا الموضوع- موضوع الحب- بين ما قرؤوه ويقرؤونه في هذه الفصول الدينية الأخلاقية، لأنهم تعودوا أن لا يروا هذه المادة الضرورية للمجتمع وهذا العنصر الأساسي في بناء الأخلاق، إلا في أسواق الخنا وميادين الخلاعة، أو تعودوا أن لا يروا هذا الموضوع الرئيسي يتناول إلا من ناحيته المادية، وربما كانوا معذورين في ذلك، فأكثر الكتاب في أيامنا هذه قلما يكتبون في غير الحب، وهم في كتابتهم عن الحب، لا يتناولونه إلا كجسكر للشهوات الحسية العارمة، وكوسيلة لإغراء الغرائز الجنسية الجامحة، وإفساد النخبة الصالحة من فتياننا وفتياتنا وتخنيثهم وقتل ضمائرهم، فكم من حرمة انتهكت وكم من شرف أهدر، وكم من كرامة امتهنت، باسم هذا الحب وبفضل هذه الأقلام المادية الأدبية، هذه الأقلام التي تبيح لنفسها أن تصل بين شاب وشابة اتصالا ماديا محرما، إن كلمة أدب وكلمة مادة لا تجتمعان أبدا في مدلول، فكيف اجتمعتا فيما يكتب هؤلاء الأنانيون المخنثون الذين يقضون بما يكتبون على رسالة الأدب من حيث لا يعلمون أو من حيث لا يريدون، إن رسالة الأديب المسلم يجب أن تكون فوق كل رسالة فلا يتأثر- بهذا الهراء المادي الرخيص الذي تصدره أروبا التي لا تؤمن برسالة الروح، والذي سرى في المجتمع الإسلامي الروحي سريان الجراثيم الوبائية الفاتكة في الجسم، فكل مجال أدبي (أو مادي أيضا) هو أثر مما في أروبا اليوم، وما بقي لنا خالصا لم نتأثر فيه بأروبا هو في نظرنا جانب نقص، ومتى تغلبنا عليه أو غلبتنا عليه أروبا، فقد استكملنا نهضتنا في رأينا.
على أن هذا اللون الرخيص مما ترشح به أقلام الكتاب المسلمين اليوم، والذي
هو صدى لأقلام واتجاهات أجنبية، إن أقر في الأوساط الأروبية فهو عندنا جريمة نكراء، لأن جونا غير جوهم وبيئتنا غير بيئتهم وظروفنا الحالية غير ظروفهم، فنحن اليوم نحتاج إلى أدب واقعي يصور الظلم في أشنع صوره ويحمل الحملات الموفقه ويدعو إلى الثورة عليه، أدب يثور على النظم الجائرة والأخلاق المنحلة الفاسدة، أدب يثير الهمة في النفوس، والنخوة في الرؤوس، والحماس للأمجاد الإسلامية الغابرة في المشاعر والقلوب، إننا نحتاج إلى أدب أخلافي ديني تاريخي يذكر الأمة بما لها من ماض ذهبي الصفحات، جليل الآثار طيب الغراس، يانع الثمرات، فلا يعصف اليأس بآمالها، ولا يذوي زهراتها في قلوبها، إننا نحتاج إلى أدب يصنع الرجولة الحقة والسواعد القوية والعزائم المصممة الصادقة للساعة الحاسمة المنتظرة.
أما هذا الأدب المائع الذي لا يتسع مداه لغير الحب الحيواني السخيف، والذي لا يخلو من وجود رجل يغصب عفاف امرآة، وامرأة نخون شرف زوجها، وفتاة حملت من تلميذ تعرف عليها في السينما، فما أغنى المجتمع الإسلامي الواهن القوي المهيض الجناح عن هذه السموم القتالة والأوبئة الفتاكة.
لذلك فالحب الذي نعنيه في هذا الفصل، هو الحب الذي يربط بن أجزاء الأمة برباط لا تنفصم عراه، هو الحب في الله الذي أقام محمد صلى الله عليه وسلم على صخرته صرح الأخوة الإسلامية السامق، ذلك الصرح الذي ما تصدع كيان الدولة الإسلامية حتى تصدع، إن عنصر الحب في الله هو الشيء الأساسي الذي تقلص ظله وتوارى شبحه من المجتمع الإسلامي اليوم وإننا إذ نشكو من ركود سوق تغيير المنكر في هذا المجتمع، ننسى أو نتناسى هذا العنصر الأساسي في الموضوع.
إن تغيير المنكر إنقاذ، والإنقاذ يتطلب تضحية، والتضحية لا بد لها من حب يبعث عليها فلو أن المسلمين اليوم لم يجدب مجتمعهم من هذا الغراس الطيب الذي بذره دينهم وتعهده بالسقي نبيهم صلى الله عليه وسلم وهو الحب الروحي الخالص من شوائب المادة وأكدار المنافع الدنيوية الزائلة، الحب في الله الذي تفرضه الأخوة الإسلامية الكاملة، إن المسلمين اليوم لو تحابوا لتناصحوا ولتأمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، ولما رضوا لأنفسهم هذا القناع الصفيق من النفاق الذي حجب العيوب، وأخفى وراءه جراثيم الداء المبيد، ولكن المسلمين اليوم- بعد أن أقفرت نفوسهم
من أريج الحب الأخوي- أصبحت النصيحة بينهم جريمة وأصبح صالحهم كما قال عمر رضى الله عنه: (من لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر
…
)
وهكذا قلب الإنسان إذا خلا من الإيمان عمره الشيطان كما قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الآية المتقدمة في الفصل المتقدم
…
وإلا فإن النصح لا ينافي الحب، بل بالعكس، إن الذي لا ينصحك لا يحبك، والمثل يقول:(من حب طب) كما يقال: (المحبة بذل المجهود) ولما كان صلى الله عليه وسلم بلغ الغاية القصوى في محبة أمته حتى قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فإنه بلغ الغاية القصوى كذلك في الحرص على هدايتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور، حتى قال تعالى:{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} وقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ (أي مهلك) نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} .
إن الحب أنواع: وأشرفه ما كان لله، وهو الحب الذي ربط بين المسلمين
برباط الأخوة الدينية، وجعلهم وحدة قوية متماسكة، استطاعت أن تكتسح من طريقها قوى الشرك والظلم والوثنية، وهي التي جعلت للعرب قيمة في التاريخ وأي قيمة، لذلك امتن الله بها عليهم إذ قال:{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} .
هذا الحب هو الذي ينفع في الدنيا لأنه جعل للعرب دولة بعد أن كان بعضهم لبعض عدوا، ويجعلهم الآن دولة إن عادوا إليه وتعاملوا به، وينفع كذلك في الآخرة فإن هذه الصداقات- كلها تذوب بين يدي الله يوم تعرض أعمال العباد على الله، ولا يبقي منها إلا ما كان لله، بل كل متحابين في هذه الدنيا ينقلبان في الآخرة وكلاهما عدو للآخر، قال الله تعالى:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} وروى أحمد والحاكم أن أبا إدريس الخولاني قال لمعاذ: إني أحبك في الله، فقال له: أبشر، أبشر، فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول:
"ينصب لطائفة من الناس كراس حول العرش يوم القيامة وجوههم كالقمر ليلة البدر، يفزع الناس وهم لا يفزعون، ويخاف الناس وهم لا يخافون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" فقيل: من هؤلاء يا رسول الله؟ فقال: "هم المتحابون في الله".
فليحرص المسلمون على أن يشيعوا بينهم هذا الخلق العظيم الذي هو أساس
لكل خلق كريم وسبيل لكل خير عميم، ولإرغام كل شيطان رجيم، فإن المسلمين إذا تحابوا تناصحوا وتشاوروا واتحدوا وتعاونوا وأصبحوا كالبنيان يشد بعضه بعضا، وبذلك يصبحون- كما كانوا- خير أمة أخرجت للناس، وذلك ما أراده لهم دينهم العظيم.
{وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .