الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسؤول الأول
لا أعني بالمسؤول الأول إلا قائد الفوج الأول، وهو المعلم: وقد رأى بعض الإخوان أن حظه من المقال السابق كان ضئيلا، فأردت أن أوفيه حقه في مقال مستقل.
أيها المعلم:
إن منزلتك منزلة قائد الكتيبة الأمامية من الجيش، فإذا انهزمت كان انهزامك
الضربة القاضية، ومن المؤلم أن يعرف الإستعمار لك هذه المنزلة وتجهلها أمتك وتتجاهلها أنت في كثير من الأحيان.
أيها المعلم:
إن الإستعمار يعتبرك أكبر عدو له، لأنك تبني له ما يهدمه، وتعد له من العتاد ما يتضاءل أمامه كل عتاد، وتهيء له من الجنود ما يثبت في وجه العواصف كالأطواد، لذلك فهو يحاربك حربا لا هوادة فيها ويجعل مكانك من قائمة خصومه في أولها، وينظر إلى كتابك الصغير كثكنة عسكرية أو قلعة حربية أو معمل للأسلحة الذرية، وينظر إلى هذه العصافير الصغيرة المرتلة للقرآن بأعذب الألحان، فيشرد لبه، ويذهب رشده، ويطير نومه، لأنه ينظر إلى هذه العصافير الصغيرة بعين المستقبل البعيد وقد استحالت أسودا، واستحال تغريدها زئيرا، واستحالت أقلامها رماحا تطعن الكلى والخواصر، ومحافظها كنائن للسهام النافذة المصمية، أدرك الإستعمار كل هذا وأدرك غير هذا مما تعلمه ومما لا تعلمه، فحاربك قبل كل أحد، وراقبك أكثر من كل أحد.
أدرك ورأى أنك تثبت له في الأرض التي احتلها القواعد التي تزلزل أقدامه وتأتي على بنيانه من القواعد أدرك أنك تثبت له لغه الإسلام ودين الإسلام وتاريخ الإسلام وشخصية الإسلام، وهو قد عرف من الإسلام أنه عدو لكل باطل وكل بغي وكل عدوان، وعرف من تاريخ الإسلام أنه أزال من الوجود كل شبح للباطل والبغي والعدوان، لذلك كانت خطته القضاء على كل ما يحمل اسم الإسلام وطابع الإسلام، وشخصية الإسلام.
أيها المعلم:
هذه هى قيمتك في نفس الإستعمار وفي نفس الواقع، فلا تضع نفسك دونها، فعلى قدر قيمتك تكون مسؤوليتك، لا تكن شخصا جديرا بالرثاء، ولا جسرا يعبر عليك الناس إلى الغايات البعيدة، وأنت لا تبرح مكانك، لا تكن كما قال أخوك محمود غنيم:
فمن كان يرثي قلبه لمعذب
…
فأجدر شخص بالرثاء المعلم
على كتفيه يبلغ المجد غيره
…
فما هو إلا للتسلق سلم
لا تكن شخضا يستحق الرثاء، ولكن كن شخصا يستحق الإكبار والإحترام،
بل إن مهمتك لا تقف عند هذا الحد، لا تقف عند شخص واحد يستحق الإكبار والإحترام هو أنت، وإلا كنت شيئا عاديا، وإنما مهمتك تتعدى ذلك بكثير، هي أن تصنع أشخاصا كثيرين يستحقون الإكبار والإحترام، بل إن مهمتك صنع الأجيال المتعاقبة الممتدة مع الزمن، كما تتناسل البذور الطيبة على مدى الزمن، فاعرف قيمتك واعرف قيمة هؤلاء الذين بين يديك والذين بعثت إليهم وبعثوا إليك، إنك مسئول عنهم مسئولية الأنبياء عن أممهم التي بعثوا إليها. علمهم تقوى الله قبل كل شيء، فتقوى الله هي الأساس لأنها النور الذي يبدد ظلمات المجهول، والله يقول:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} إن نور العلم من نور الله، ونور الله لا يشرق في القلوب المظلمة بمعاصية.
شكوت إلى وكيع سوء فهمي
…
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وذاك لأن علم الله نور
…
ونور الله لا يهدى لعاص
ومصداق ذلك قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
علمهم الشعور بالمسؤولية والإضطلاع بالمهمات والصبر على المكاره، والمثابرة على العمل، والصدق في القول، والإخلاص للوطن، والطموح إلى الكمال.
علمهم أن الحياة كفاح، وأن العمر أنفاس وأن ما مضى من الوقت لا يعود،
وأن من شب على شيء شاب عليه وأن الخير بالتعود والشر بالتعود، وإن من لم يتعود الكمال من صغره صعب عليه في كبره.
إذا المرء أعيته المروءة ناشئا
…
فمطلبها كهلا عليه شديد
قو فيهم ملكة الملاحظة وأفتح عيونهم على ما في الكون من جمال وتناسق ونظام لترى فيهم ملكة الذوق وحب الجمال والشغف بالنظام، إنك مسؤول عن أشياء كثيرة لهذا الطفل الذي بين يديك، هذه النبتة الصغيرة التي تنبت أمامك وتنتظر الكثير من رعايتك واهتمامك، هذه القطعة اللينة الطيعة التي تنتظر أن تصوغها على المثال الذي تريد وعلى الشكل الذي تختار، وتدفع بها في الإتجاه الصالح في رأيك، ولكن إحذر أن تنسى أنك القالب والطابع والدليل وأن هذا الطفل ينظر إلى عملك قبل أن ينظر إلى قولك، ويؤخذ بسلوكك أكثر مما يؤخذ بأمرك ونهيك، فإذا انحرفت ولو لحظة رميت بمركبة الأجيال في الهوة السحيقة، وإذا زاغ بصرك يمنة أو يسرة "جاءت على يدك البصائر حولا" كما يقول شوقي.
فما أعظم مسؤوليتك، أيها الصديق الكريم.