الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحياة والموت
طويت الرسالة التي حملت إلي نعي أخي- كسير القلب كسيف البال- وفزعت إلى المصحف ألتمس فيه شفاء جرحي وعزاء نفسي، وإذا بي أجدني أتلو هذه الآيات:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} .
نعم، تبارك الذي بيده الملك: ملك كل شيء، ملك نفوسنا التي بين جنوبنا، وملك أجسادنا التي تحل فيها، وملك الكون الذي نعيش فيه، وملك الهواء الذي نستنشقه فمثل هذا الملك يستحق صاحبه أن يقال فيه (تبارك) فلا عجب أن يعقب الله على ذلك بقوله:{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، ومن أقدر على الشيء من مالكه؟ فما غرور هذا الإنسان بما يملك، وهو- وما يملك- ملك لله، ووديعة في ملك الله؟
(ولابد يوما أن ترد الودائع)
وما اطمئنانه إلى وجود، ينتهي إلى أمل محدود؟ فوجودنا- وإن طال- مهدد بالزوال فما الأسف على فائت؟ وما الحزن على مائت؟
وإذا بي أجدني مشدودا إلى هذه الآية، مأخوذا بروعتها وتأثيرها، ناسيا- ولو إلى حين- صدمة النبأ المفاجيء، بما فتحت أمامي من آفاق، متابعا التفكير في مراميها القريبة والبعيدة، مستشعرا في أعماقي قوله تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} .
وإذا بي أجد في أنسى روعة الملك- في التعبير عن قدرة الله- بجانب روعة الخلق الي تتلوها في قوله تعالى-: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} ، فإن الملك قد يبدو لبسطاء العقول أنه غير خاص بالله وحده، قياسا على ما يملكون من توافه الأشياء، أما الخلق فهو الصفة الخاصة بالله وحده التي لا يشاركه في جزء من أجزائها أحد من خلقه ولذلك تحدى الله بها عبدة الأوثان وما يعبدون، إذ قال:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} ، وإن كل ما وصل إليه العلم، وما سيصل إليه في المستقبل من عجائب الاختراع، لا يبلغ أن يخلق ذبابا، وسيبقى الفارق بين المخلوق والخالق، ينطق به المعنى الذي في اسم المخلوق، وفي اسم الخالق، وإلى هذا الفارق يشير قوله تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} ؟، والموت والحياة أعظم ما خلق الله، إذ يدخل تحتهما كل ما خلق الله، ولذلك يجيء التمثيل للخلق بالغا- في الشمول والقدرة- منتهاه، وإن في الجمع بين الموت والحياة لحكمة سامية، فإن لكل منهما مسؤلية في أعناق الناس، فلا بد من العمل للحياة، التي خلقها الله لأن نحياها كما أمر الله، ولابد من العمل للموت الذي جعله الله بابا للحياة الأخرى التي يلقى فيها كل عامل جزاء ما قدمت يداه، وبالموت والحياة تتم الحكمة الإلهية من خلق الإنسان، وهو ابتلاؤه بطاعة الله، وامتحان سلوكه في الحياة وجزاؤه عليه بحسابه في أخراه، لذلك جاء التعقيب على خلق الموت والحياة، بقوله تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} ، بالغا في تجلية هذه الحكمة مداه.
ثم أحس بسر عميق يكمن في {خَلَقَ الْمَوْتَ} ، وهو أن الناس يغفلون عن حقيقة الموت، ويعتقدون أنه عدم محض، لا ينتاوله الخلق، فجعله هذا التعبير القرآني المعجز، كائنا وجوديا قائما بنفسه، يتناوله الخلق، وتتوقف عليه حكمة الحياة، ويحسب له كل حساب، بل إن مرحلة الحياة ليست إلا استعدادا للمرحلة الطويلة التي تبتديء بالموت، وتنتهي إلى الحياة التي لا تنتهي بالموت، وهي الحياة الحقيقية، التي أحسن التعبير عنها أبو العلاء المعري إذ قال:
خلق الناس للبقاء فضلت
…
أمة يحسبونهم للنفاد
إنما ينقلون من دار أعما
…
ل، إلى دار شقوة أو رشاد
هذا الموت، هذا الكائن الجبار، هذا العملاق الهائل المفزع الذي تطأطيء
له الرؤوس، وتعنو له الجباه، ويأتي على كل عظيم وحقير في الحياة، هو الذي يجب أن يكون الدرس العملي الذي يذكركم- أيها العتاة الطغاه- بالنهاية الحتمية للحياة، فتحدون من غروركم، وتطمئنون من كبريائكم، وتستعدون للقائكم بجبار السموات والأرض، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} .
وبعد، فإن فلسفة الموت، هي فلسفة الحياة، فمن عرف الموت، فقد عرف الحياة، ومن هنا قال- عليه الصلاة والسلام:"كفى بالموت واعظا" أي كاشفا عن تفاهة الحياة، صارفا عن الغرور بها، مذكرا بوجوب الاستعداد للقاء الله، ولله در عمر إذ يقول:(فضح الموت الدنيا).