الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الزكاة بمناسبة رأس السنة الهجرية
لا أبالغ إذا قلت: إن المال طريق الاستقلال، وأن الزكاة في الإسلام تجنيد للمال في معركه الاستقلال، وما أبلغ تلك الكلمة التي جاءت في مقال لمصطفى صادق الرافعي في استنهاض همم العرب لنجدة فلسطين وإنقاذها من الإستعمار اليهودي إذ قال:"كل قرش يدفع الآن لفلسطين يذهب إلى هناك ليجاهد هو أيضا" ولا عجب أن يقدم الله جهاد المال على جهاد النفس كلما عرض ذكر الجهاد في القرآن، لأن الحرب لا تقوم على الملاكمة ولا التناطح بالرؤوس، وأنما قيامها آلات ومدمرات ومؤن وذخائر، وإعداد هذه الأشياء يحتاج إلى أموال طائلة، فإذا شحت الأمة بها فهو الآنهزام الأول الذي لا تقوم لها من بعده قائمة، وهو الهلاك المحقق الذي حذر الله منه هذه الأمة وجعله نتيجة شحها وعدم إنفاقها في سبيل الله إذ قال:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} بعد قوله {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} حذر منه صلى عليه وسلم إذ قال: من حديث: "ثلاث مهلكات، شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه" فالشح مهلك، والوقاية منه فلاح، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ولذا عد الله مخرجي الزكاة من الذين شهد بفلاحهم إذ قال:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} الآية.
ولكن الإنسان يسمع لوسوسة الشيطان أكثر مما يسمع لإرشاد القرآن، فهو
ما يزال به يغريه بالبخل ويخوفه الفقر {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} حتى يجعل المال أحب إليه من نفسه ومن ولده ومن أمته، فيخرج من دنياه محروما من ماله لم ينفقه على نفسه ولم يجد به على إخوانه ولم يعلم به أبناءه ولم ينفع به أمته، ولم يكسب به رضا ربه،
وهذا الحرمان في الدنيا يعقبه حرمان أشد منه في الآخرة على ما حرم نفسه وإخوانه من نعمة هذا المال، فهو جزاء من جنس العمل، فأي بلاء كبلاء هؤلاء الأغنياء البخلاء الذين يعيشون فقراء ويعذبون في الآخرة فوق عذابهم في الدنيا لأنهم لم يشكروا الله على نعمته ولذا يقول علي بن بأي طالب رضي الله عنه:"يعيش البخيل في الدنيا عيش الفقراء ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء" وكأنه في هذا المعنى ينظر إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} .
أيها المسلمون: ها هو شهر محرم يهل هلاله وهو شهر زكاة أموالكم، وها هو الامتحان السنوي في أموالكم يعود إليكم فيجب أن تخرجوا من هذا الامتحان بالفوز والنجاح وهو التغلب على طبيعة الحرص فيكم، واعلموا أنما أموالكم فتنة فلا يفتنكم الشيطان ولا يدخل عليكم من هذه الثغرة {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} واعلموا أن لكم شيطانين: الشيطان الذي أخرج أبويكم من الجنة، وشيطان الاستعمار الذي حرمكم جنة بلادكم ولم يترك لكم فيها إلا حظ الخدم فأنتم وأموالكم وأوطانكم ملك له، الشيطان الأول يغريكم بالبخل فيما يحييكم وينهض بكم من عثرتكم، والشيطان الثاني يعزيكم باتلاف مالكم وتبديد ثروتكم فيما فيه هلاككم وفناؤكم وذهاب ريحكم، إن الاستعمار الذي وكل بكم ينصب لكل درهم من دراهمكم فخا ويضع لكل حاسة من حواسكم شهوة تتسرب منها أموالكم وتفسد بها أخلاقكم وتتسمم بها صحتكم، فجعل لعيونكم شهوة التمثيل الداعر والرقص الفاجر، ولآذانكم الغناء البديء والإذاعة البغي، ولأنوفكم الحشيشة المسممة، ولأفواهكم الخمر المبيدة ولغرائزكم الجنسية مؤسسات البغاء والعار والخنى، كل هذه البليات بالوعات لأموالكم وجراثيم لصحتكم وآفات لأخلاقكم، فباستيلائه على أموالكم يقص أجنحتكم وبتسميمه لصحتكم يشل حركتكم وبإفساده لأخلاقكم يقضي على حياتكم:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
…
فإن هم ذهبت أخلاقكم ذهبوا
أيها المسلمون: ها هو العام يدور دورته وها هو يعود إلى الوجود رأس السنة الهجرية وشهر الاشتراكية الحقيقية وموسم التضامن العملي وميقات تطهير النفس من رذيلة الشح {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فحاسبوا أنفسكم
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وسابقوا إلى العمل الصالح وانتهاز الفرصة السعيدة، وخاهدوا في الله حق جهاده فجهاد النفس هو الجهاد الأكبر، فإذا انتصرتم على أنفسكم انتصرتم على أعدائكم، جاهدوا بأموالكم قبل أن تجاهدوا بأنفسكم فإن الله قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس إذ قال:{جَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} لأن المال أداة الجهاد ولا جهاد بلا أداة، ولأن الجهاد بالمال تدريب على الجهاد بالنفس، ومن عجز عن بذل ماله فهو عن بذل نفسه أعجز.
واسوا إخوانكم وانهضوا بمشاريعكم وحققوا معنى الأخوة الإسلامية بهذا
التضامن العملي، فليس من الأخوة في شيء أن تشبع وأخوك جوعان أو تكتسي وهو عريان، فإن الإسلام دين عملي واقعي جاء ليحقق معنى التكافل الإجتماعي الصحيح وحسبكم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".