الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
روحانية الزكاة
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} لله هذا الدين: كيف يحافظ على الطهارة ويجعلها أداته ووسيلته. بل يجعلها من كل تعاليمه وأحكامه غايته، فالصلاة طهارة "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء قال: فكذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا. الحديث" والزكاة طهارة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} الآية المتقدمة وهكذا.
نعم إن الدين في مجموعه طهارة، ولكنها طهارة من دنس الذنوب ووضر الأخلاق أكثر من أي شيء آخر، طهارة الإعداد لدخول الرحاب المقدسة في رياض الخلد للمثول بين يدي الله، فلا تعجب بعد هذا إذا قرأنا مثل قوله صلى الله عليه وسلم حرمت الجنة على كذا وحرمت على كذا أو مثل قوله: مكتوب على باب الجنة لا يدخلها كذا كقوله: مكتوب على باب الجنة لا يدخلها نمام وكقوله: مكتوب على باب الجنة لا يدخلوها ديوث، لأن أولئك لم يتطهروا من ذنوبهم وأخلاقهم الدنسة، فما كان لهم أن يطؤوا تلك الرحاب المقدسة بأقدامهم النجسة.
وإذا علم هذا علم أن الزكاة تطهير لنفس المسلم وتطهير لماله حتى لا يكون فيما يتصل به أو يهت إليه بسبب شيء غير طاهر، ذلك لأنه- كما قلنا- إعداد رباني خاص للدخول في حزب الله، وللفوز بعد ذلك بالدخول في حضرة القدس ودار الخلد، فما ينبغي لنفس المسلم أن تتسم بالبخل، لأنه إهدار لثقته بربه، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم:"البخل من سوء الظن بالله" وقد أحسن الشهاب الخفاجي إذ قيد هذا المعنى القيم بقوله:
من ظن بالله خيرا جاد مبتدئا
…
والبخل من سوء ظن المرء بالله
إذ هيهات أن يجتمع البخل واعتقاد أن من برأ الخلق قد ضمن رزقهم في
إهاب نفص مؤمنة، نعم إن المؤمن الموصول القلب بالله، المشبوب العاطفة بحب الله لا يتصور منه البخل بمال الله، على المحرومين من عباد الله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"الخلق عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله".
لأن المال قبل ذلك وبعده مال الله جعل عليه مستخلفين من عباده، وجعل للمحرومين منه حظهم فيه وأوجبه على من استخلفهم عليه كما قال:{وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} .
فلا عجب إذن أن تكون الزكاة طهرة للمال المؤداة منه وتزكية لنفس صاحبها
من تبعة هذا الحق المفروض عليه في ماله ولا عجب أن تذهب البركة من المال الذي لم تطهره الزكاة، فلا ينتفع به أصحابه في الدنيا ولا في الآخرى وإنما هم كما قال تعالى:{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} .
هذا من الناحية النفسية، أما من الناحبة الاجتماعية فأثر الزكاة أكبر لأن
المال قوام الأعمال، فإذا تضخم في جهة ونضب من الجهات الأخرى طرأ على المجتمع من الفساد ودخل عليه من الاختلال والاضطراب، ما يسرع به إلى الخراب، وما أشقى هذا المجتمع الذي يموت بعض أفراده بالتخمة بينما يهلك البعض الآخر بالجوع، ولكن شقاء الذي يموت بالتخمة أعظم، لأنه تسبب في موته وموت غيره، فهو يحمل مسئوليته ومسئولية غيره، ومن أخطر الآفات التي دخلت على المال وأصابت المجتمع الإسلامي في الصميم، آفة الربا الذي ما دخل مالا إلا محقه، ولا بيتا إلا خربه، فهو كما قال تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} هكذا يمحق الله الربا لأنه آفة محق وجرثومة سحق، ويربي الصدقات أي يزكيها ويزيد فيها لأنها أداة تزكية وتطهير، ووسيلة تنميه وتثمير، وهكذا "من غالب الله غلب""ولا يجني جان إلا على نفسه"{وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ}
ولكن حب المال طبيعة غلابة كما قال تعالى: بل {تُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}
ولذا جعل الله المال فتنة كما قال تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} وهنا سر من أسرار هذا الكتاب الخالد، فإنه قلما يشير إلى فتنة المال إلا وقرنها بفتنه الولد لينبه إلى أن حب الولد وغريزة حفظ النوع وبقائه هما السر في فتنة المال وطغيان حبه على النفس، ولكن هذا مما لا ينبغي أن يكون عليه المؤمن الذي يعتقد أن رزق أولاده ليس عليه وإنما هو على من خلقهم {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} وإنما عليه أن يحسن تربيتهم وينشئهم على طاعة الله والخلق الحسن، فذلك هو الغنى الذي لا تصيبه الآفات والجوائح، ولا تلحقه التبعات والمسئوليات، أما أن يجعل الإنسان كل اهتمامه جمع المال من حله وحرامه ليضمن لأولاده السعادة بعد موته ولا يلتفت إليهم من ناحية تربيتهم وإعدادهم الإعداد الحسن، فذلك هو الخطأ الفاضح لأنه يكون كمن يضع كومة من الورق فوق رابية عالية في مهب العواصف وإننا نهدى إلى هؤلاء المغفلين القصة التالية لعلهم يهتدون.
دخل عمر بن عبيد على المنصور فقال له المنصور: عظني يا عمرو، فقال
له: أعظك بما سمعت أم بما رأيت؟ فقال المنصور: بل بما رأيت، فقال عمرو: مات عمر بن عبد العزيز وخلف أحد عشر ابنا وثمانية دنانير، فأصاب كل واحد ثمانية قراريط من تركة أبيه، ومات هشام بن عبد الملك فخلف أحد عشر ابنا وأحد عشر ألف ألف دينار، فأصاب كل واحد من أبنائه ألف ألف دينار، ورأيت فيما بعد ولدا من أولاد عمر قد حمل أموالا على مائة فرس قدمها في سبيل الله، ورأيت ولدا من أولاد هشام يسأل الناس الصدقة.
فيا أيها الأغنياء: ها هو ذا شهر محرم الحرام الذي يمتحن الله فيه إيمانكم
قد عاد من جديد، وها هم أولاء فقراكم يملأون الطرقات ويسدون الدروب وتلتصق على الثرى منهم الجنوب، فبرهنوا على إيمانكم وإنسانيتكم وأخرجوا زكاة أموالكم، وكفكفوا دموع اليتامى والأيامى من إخوانكم وأخواتكم وأنعشوا مشاريعكم التي تعمل لسعادتكم وتحرير بلاكم. {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} "ولا يغرنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين".