الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغرور
ما أقوى مفعول هذا المرض، وما أشد فتكه بالنفوس، وما أكثر ما يتوالد عنه من أمراض، وما أسرعه إلى رجال الفكر والعمل، وما أبعد المبتلى به عن معرفته بنفسه وتواضعه لإخوانه وانقياده للحق، واعترافه بالخطأ ورجوعه إلى الصواب!!!
والمغترون أنواع وأشكال: فمنهم المغتر بماله وولده، ومنهم المغتر بعلمه وعمله ومنهم المغتر بشعره وأدبه، ومنهم المغتر بمنصبه ووظيفته، ومنهم المغتر بزيه وشارته، ومنهم المغتر بجماله ووسامته، والكل جاهل لقدره، غافل عن حقيقته، مستدرج بما سيق إليه، مفتتن بما منح إياه، قال تعالى:{إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} ، {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} ، {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} ، {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} ..
فلا عجب- وهذا المرض بهذه الخطورة- أن يقاومه الإسلام مقاومة تستأصل جذوره، وأن يزيح الستار عن مخازيه بما يفضح كل مغرور ويكشف غروره.
ولما كان الغرور ينشأ من غفلة المغرور عن أصل خلقته ومادة تكوينه، كان القرآن لا يفتأ يقرع سمعه بمثل قوله- تذكيرا بأصله-:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} .
قال عبد الله بن مطرف، للمهلب بن أبي صفرة- وقد رآه لابسا حلة، وهو يسحب ذيلها على الأرض ويمشي الخيلاء-: ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله؟ قال: أما تعرف من أنا؟ قال: بلى، أعرفك أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة،
وحشوك فيما بين ذلك- بول وعذرة ففيم الخيلاء؟ وعلام الكبرياء؟ فخلع المهلب الحلة ورمى بها إلى خادمه.
وإذا كان كل من الإنس والجن يرى أنه المخلوق الممتاز فتحدثه نفسه بالغرور فقد أشعر الله كلا منهما بأنه خلق من شيء تافه ضعيف لا يوحي بالغرور، إذ يقول للإنس:{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} ، كما يقول عن الجن:{وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} وإن هذه الومضة المشرقة التي تواجهنا في لفظة (مهين) لتذكرنا وتفتح بصائرنا على المادة الأولى التي خلق منها هذا المخلوق المغرور المتكبر، وهي التراب التافه الرخيص الذي تدوسه الأقدام وتطؤه النعال.
وإذا منح الله الإنسان قوة شخر له بها كل ما في البر والبحر، فكانت هذه القوة من أعظم دواعي الغرور في نفسه، فليتذكر أن بقة واحدة تسبب له من الآلام، ما يمنع جفونه أن تنام، ولله در ابن أبي طالب رضي الله عنه إذ قال:"مسكين إبن آدم: محدود الأجل، محسوب العمل، طويل الأمل تؤلمه البقة، وتنتنه العرقة، وتقتله الشرقة".
فمن أية الطرق- يا ترى- يأتي الغرور إلى الإنسان؟ وهو لو اجتمعت له كل أسباب النجاح، وتوفرت لديه كافة ألوان السعادة، لأبعد خيال الغرور عن نفسه، علمه أنه صيد الحمام، وأنه- لا محالة- مفارق كل ما يغتر به ويعتز بوجوده في يوم من الأيام؟ ولله در من قال:(ما أصنع بدنيا، لو بقيت لها لم تبق لي، ولو بقيت لي لم أبق لها). ولما حضرت معاوية الوفاة، جمع أهله فقال لهم: (ألستم أهلي، وعليكم حزني، ولكم كدي وكسبي؟ قالو!: بلى قال: فهذه نفسي خرجت من قدمي، فردوها علي إن استطعتم، ثم بكى وقال: من تغره الدنيا بعدي"؟ ولكن المغرور أبعد ما يكون عن ذكر الموت، لأن من ذكر الموت نسي الغرور، فإن كل ما في هذه الحياة من متع وملذات، سماه الله متاع غرور، إذ قال:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} .
ومن علامات المغرورين التطلع للشهرة وحب الثناء، وذيوع الصيت، والإستئثار بالمناصب والاستبداد بالرأي، واللجاج في الخصومة، كل ذلك قاومه الإسلام، دين التواضع والتسامح، والتشاور والتعاون، والتضامن، والرجوع إلى الحق، والرضوخ لرأي الجماعة.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد أعلن حربا شعواء على هذا الداء الوبيل، بأفعاله وأقواله، فكان مثال التواضع لأصحابه، بحيث لا يتميز من بينهم وإذا رآهم يقومون له قال: لا تقوموا لي كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا، وإذا رآهم يطرونه (يمدحونه) قال: لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم، إنما أنا عبد الله فقولوا: عبد الله ورسوله، ودخل عليه أعرابي فجعل يرتعد هيبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: هون عليك، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد، وسمع بعض أصحابه يثني على رجل في المجلس، فقال له: عقرت ظهر أخيك" وما أبلغ هذا التعبير في أبراز عاقبة هذا الثناء الذي يحرك دواعي الغرور ويوهم المغرور أنه بلغ غاية الكمال، فلم يعد بحاجة إلى مواصلة السعي في طريق الكمال، فيكون هذا الثناء كأنه عقر لظهره، ولذا كان عليه الصلاة والسلام يقول: "إذا رأيتم المداحين، فاحثوا في وجوههم التراب" حتى لا يغتر الناس بهذا المدح فيصرفهم عن طلب الكمال، والناس يغرهم الثناء، لا الغواني فحسب، كما يقول شوقي:
(والغواني يغرهن الثناء) حاشا أحياء الضمائر، وأيقاظ القلوب أمثال عمر بن عبد العزيز الذي قيل له:(جزاك الله عن الإسلام خيرا) فقال: بل جزى الله الإسلام عني خيرا.