الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من عبر الزلزال
كانت فترة حاسمة تلك التي قضيتها أمام دور الأصنام المحطمة،- التي أحالها الزلزال، إلى شبه أطلال، والتي،- عندما تراءت لعيني- وجدتني أتمتم بقول الشاعر:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها
…
وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
حقا، وقفت أمام هذه الدور المحطمة الوقفة التي وقفها هذا الشاعر قبلي على أطلال من أحبهم قلبه، وصفا لهم وده، بل لعل هذه الوقفة أدعى إلى الحزن وأبعث على الألم والحسرة، وأين تقع فجيعة من أضاع خاتمه من فجيعة من أضاع شعبة من قلبه أو حطم أحد جناحيه.
وقفت خاشعا واجما ساكنا كأنني أحد هذه الأعمدة الباقية بعد الضربة القاضية، وتراءت أمام خيالي- خلال هذه الفترة- أطياف عابرة من الأمم الغابره، التي طواها الزمان، وعفى عليها النسيان، وطفرت- أمام عيني- أطياف أخرى من مواكب الأزمنة المتلاحقة، وما يخبئه الغد الرهيب لهذه الفلول الباقيه من تعساء الإنسانية التائهة في بيداء هذه الحياة التافهة، من هذا المصير المحتوم، فيصبح- مثل هؤلاء الذين نقف الآن على أطلالهم- أثرا بعد عين، وهكذا الحياة من بدايتها إلى نهايتها، رواية متشابهة الفصول متماثله المشاهد، والإنسان هو الإنسان من ولادته إلى موته، لا تموم هذه الأحداث من صغره، ولا يعتبرآخره بأوله. وبينما أنا مستغرق في هذه التأملات، أستجلي العبر من هذه المثلات، وأسكب ما صنته من عبرات، على هذا الجانب الخصيب، من الوطن الحبيب، الذي استحال حطاما وعاد أنقاضا، وإذا
بأحد الرفاق في هذه الرحلة، يجذبني من طرف ثوبي ويلفتني إليه قائلا: تعال واسمع، فهذا زلزال آخر ينسيك هذا الزلزال الذي ما يزال أثره عالقا بنفسك، آخذا بلبك، فالتفت في فزع ودهش، واستفسرته النبأ فقال: الآن وصلت رسالة من طفل إلى والده يقول له: إن لم تسرع إلي انتحرت،- ذلك لأن هذا الطفل من هؤلاء الأطفال الذين اضطرهم هذا الزلزال إلى أن يأووا إلى معهد من المعاهد الدينية الكاثوليكية خارج البلاد المصابة بالزلزال- وأخذ الطفل بعد ذلك يقص على والده كيف أنهم سلموا إلى راهب ناولهم نوعا من الحلوى أنكروها وكرهوها، وأنهم لا يكادون يذوقون مناما، لما يحسونه من ضغط على شعورهم من هذا الجو الجديد الذي لا يرون فيه إلا هذه الصلبان على رؤوسهم وإلا هذه الطقوس الدينية التي لم يعتادوها ولم ينشأوا عليها والتي أحسوا معها بالخوف على عقيدتهم التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم ما حمل هذا الطفل الذكي اليقظ على أن يبادر بهذه الرسالة إلى والده ليبادر بإنقاذه، وإلا انتحر سريعا قبل أن يخسر عقيدته الدينيه التي يرى أصغر طفل في المسلمين أنها كل شيء.
نعم، هذا هو الزلزال الذي يجب أن نكون منه على بال، فليس الزلزال أن تموت مسلما شهيدا تحت الأنقاض، ولكن الزلزال حقا أن تخسر دينك الإسلام، ولو عشت بعد ذلك ألف عام، وأن الموت المفزع لهو موت الروح لا موت الجسد، وأن الإسلام إنما جاء لينقذنا من موت الروح لا من موت الجسد.
إن الذي نخشاه إذن- من هذا الزلزال هو أن يمتد أثره إلى الأرواح التي هي كل شيء، لا قدر الله.
وإني- في النهاية- لأحيى ذلك الطفل الذكي الكيس الذي تنبه في عروقه دم أجداده، دم الحفاظ على التراث الغالي، الذي كاد يضيع بتأثير الوضع الحالي، فكتب تلك الرسالة الثائرة، على الأوضاع الجائرة، ولو كان المسلمون كلهم كهذا الغلام، لانتصر الإسلام. أكثر الله فينا من أمثال هذا الغلام.