الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من معدن الإيمان
كان رجل من الصحابة عليهم الرضوان، مواظبا على الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم لا يتخلف، وكان شديد الفقر ممزق الثوب، ولما صار ثوبه من التمزق بحيث لم يعد يستره اضطر إلى أن يتخلف عن الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم عدة أيام، فرقت له زوجته وأعارته ثوبها حتى لا يحرم من الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم وقالت له: عد إلي فور فراغك لأأدي صلاتي في وقتها، فصلى وانفتل راجعا إلى زوجه، ولما لم يره الرسول صلى الله عليه وسلم سأل عنه فقال له أهل المجلس: إنه فر من المسجد، فأمرهم بحضوره إليه بعد فراغه من صلاته في اليوم التالي- قبل خروجه- ولما حضر إليه سأله عن سبب خروجه، فقال له: إني وزوجي لا نملك إلا ثوبا واحدا فحرصت على الصلاة خلفك وحرصت زوجي على الصلاة في أول الوقت، فرق له النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاه ثوبا، ولما عاد إلى بيته سألته زوجته عن سبب تأخره فأخبرها مما كان فقالت له: يرحمك الله، أتشكو ربك لرسوله؟
من خلال هذه القصة الرائعة يتراءى رصيد ضخم من الإيمان القوي ونبع فياض من الخلق النبيل وتلك هي مدرسة الإيمان في أوج عظمتها إذ كانت تخرج للناس هذه الأمثلة الصالحة من أبناء هذا الكوكب الأرضي، وتتحف هذا العالم الغارق في ماديته وأنانيته بمثل هذه اللوحات الرائعة القيمة التي ترتسم عليها ظلال الروح الإنسانية السامية، ولكن هذه المدرسة الفذة- ويا للأسف- لم تعد تخرج إلا القليل النادر من هذه الروائع الخالدة، ويخشى إذا استمرت الحال على ما هي عليه أن تغلق هذه المدرسة أبوابها فتقفر الدنيا من هذه الكواكب اللماعة في سمائها، فإن هذه الأرض: هذا الكوكب المظلم لا يصلح حاله بدون هذه النيرات تضيء أرجاءه وتطرد أشباح
الظلام من جنباته إن جلال الإيمان وجمال الخلق ليتنازعان الظهور ويتسابقان إلى البروز من خلال هذه القصة التي ترسم للإيمان الكامل والخلق النبيل، صورة واحدة رائعة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول:"حسن الخلق من الإيمان"، فإن الخلق الرصين الثابت هو الذي يرتكز على صخرة الإيمان الراسية الراسخة التي لا تقلقلها عوادي الزمان ولا تزلزلها عواصف الخطوب، ومن هنا نرى الكثير من ضعفاء الإيمان لا يثبتون على خلق، كما لا يصبرون على عبادة، فكلما ابتلوا بشيء من مكاره دنياهم نكصوا على أعقابهم وقطعوا صلتهم بإخوانهم ونقضوا عهدهم مع ربهم، كما قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} .
أما الذين اكتمل إيمانهم واتسع بقوة اتصالهم بالله أفقهم، وصلب بشدة إقبالهم على عبادة الله عودهم، فهم أثبت الناس على خلق وأقواهم اضطلاعا بمبدإ، وأعظمهم صبرا على ما يبتليهم به ربهم من ضروب الابتلاء وصنوف الامتحان، ليعدهم بذلك لأن يكونوا أقدر على الاضطلاع بمهمتهم العظمى في الحياة، وأداء رسالتهم الكبرى إلى العالم، وقد أدركوا موضع الحكمة من هذا الابتلاء، فازدادوا حماسا لعقيدتهم وثباتا على مبدإهم، وقوة اندفاع في كفاحهم حتى بلغوا الغاية المطلوبة وجنوا الثمرة المرجوة التي يشير إليها قوله تعالى:{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} وقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} .
فإن أمثال هذه النفوس الربانية لا تستميلها رياح المطامع والرغائب ولا تعصف بها عواصف الخطوب والنوائب، بل لا يزيدها ابتلاء ربها إلا قوة في إيمانها وتمسكا بدينها وثقة بربها، ومن هنا كانت تتجلى خلال الصبر والشجاعة والزهد في متاع الدنيا، في تلك النفوس الكريمة ذات المعادن الكريمة في أروع صورها وأرفع درجاتها، وكانت ترى في البوح بحاجاتها إلى إخوانها تشكيا من خالقها وتسخطا على ربها، كما في قصه هذين الزوجين الكريمين وكما في حديث الأحنف بن قيس مع عمه إذ قال: "شكوت إلى عمي وجعا في بطني، فنهرني ثم قال: يا ابن أخي لا تشك إلى أحد ما نزل بك، فإنما الناس رجلان: صديق تسوءه، أو عدو تسره، يا ابن أخي: لا تشك
إلى مخلوق مثلك لا يقدر على دفع مثله عن نفسه، ولكن أشك إلى من إبتلاك به، فهو قادر على أن يفرج عنك، يا ابن أخي: إحدى عيني هاتين ما أبصرت بها سهلا ولا جبلا منذ أربعين سنة، ولا أطلعت على ذلك امرأتي ولا أحدا من أهلي". كما روي مثل ذلك عن إبراهيم الحربي وكثير غيره.
فلنأخذ أروع الدروس، في السمو بالنفوس، من سمو هذه النفوس.