الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذا زلزلت الأرض
{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} حقا، كم من آية أودع الله فيها من العظة والعبرة والحكمة البالغة ما لو وقف عندها الإنسان وتدبرها وفكر فيها، لأيقظت مشاعره وشحذت عزائمه، وفتحت نوافذ فكره على دنى وحيوات ما كانت لتتاح له لولا تلك الآية ووقوفه عندها وتفكره فيها، ومن هنايقول عليه الصلاة والسلام:"تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة" فهذه الآيات التي بثها الله في الأرض والسموات هي الكنوز الثمينة التي تمد الفكر البشري بما يحتاج إليه من غذاء، وتسعف العقل الإنساني في ساعات إغفائه باليقظة والشعور، ولكن هذه الكنوز الثمينة القيمة مفتاحها التفكير، فلا يحظى بشيء من نفائسها وأعلاقها من لم يفكر فيها، ويمعن النظر إليها، ويرسل أشعة عقله عليها، وهذه هي الحال الغالبة على الناس، ولذا نبه الله عباده إلى ما غفلوا عنه من الآنتفاع بهذه الآيات بقوله:{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (الآية المتقدمة) نعم هذه هي الحال الغالبة على الناس تجاه هذه الآيات {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} ، كأنها شيء لا يستحق الإلتفات.
ولكن الآيات منها صوامت سواكن تعظ القلوب بصمتها، وتحرك سواكن الخواطر بسكونها، كالآيات التي في خلق الأرض والسموت، واختلاف مخلوقاتهما في السموات واللغات كما قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} ، وكالآيات التي في تعاقب الليل والنهار واختصاص كل منهما
بكوكب يضيئه، فالقمر آية الليل، والشمس آية النهار، كما قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} ، وكالآيات التي في خلق الإنسان من نطق وتفكير، وعقل وتدبر، وحفظ وتذكر وتخيل وتصور، وضحك وبكاء، كما، قال تعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ؟
ومنها قوارع صوادع، تقرع الأسماع بجلجلتها المفزعة، وتصدع القلوب برجتها المذهلة، لأنها تحمل في تعبيرها العملي لغة الإنذار الأخير كما هو جار في المألوف المتعارف بين الناس إذ يقولون في أمثالهم السائرة: آخر العلاج الكي كالزلزال العقام: الذي فاجأ في هذه الأيام إخواننا سكان مدينة الأصنام، وهم وادعون نيام، تسبح أرواحهم في عالم الأحلام، فاستيقظوا على هول الفاجعة وفتحوا عيونهم على فزع القيامة، فخرج من بقيت له في كتاب العمر صفحات حاسر الرأس حافي القدم يحسب أن القيامة قد قامت، وأنه بعث من قبره ليساق إلى حشره وحطمت الكارثة من ختم كتاب العمر وإن كان صبيا في مهده أو رضيعا في حضن أمه أو خطيبا ينتظر ليلة عرسه ولقاء زوجه فيفوز بأعظم الأمل، أو عريسا ما زال لم يقض شهر العسل، وبقي مترجحا بين الموت والحياة، قسم اكتظت بهم المستشفيات، والذين لم تمسسهم الكارثة بأذى لم يسلموا من البلاء إذ بقوا خارج البيوت يلاقون العنت والجهد في الظفر بالقوت، لا يستطيعون إلى البيوت رجوعا، ولو هلكوا جوعا، لأن الزلزال ما زال يتعهد البيوت بالطروق بعد الطروق، على ما بهذه البيوت- البائسة من صدوع وشقوق.
ولكن هذه القوارع وإن ألحقت بالناس الضرر، وضاعفت لهم الخطر، فإن من ورائها منافع ومزايا، ربما رجحت بما فيها من كوارث ورزايا، فهي،- فوق أنها كالآيات الصوامت تنبه الغافل، وتذكر الجاهل، وتحرك الجامد، وتبعث على مراقبة النفس ومحاسبتها- تكشف عن معادن الناس، وتتجلى عن أسرار الأخلاق، ودخائل النفوس، بل إنها امتحان لمعدن الإنسان، كما تمتحن المعادن بصهرها بالنار، والناس- كما يقول عليه الصلاة والسلام معادن، كمعادن الذهب والفضة، ففيهم الكريم والبخيل، وذو القلب الرحيم والإحساس الرقيق والوجدان النبيل، وقاسي القلب غليظ الطبع، جامد الإحساس ميت الشعور، فرقة القلب وكرم الطبع ونبل الإحساس ويقظة الوجدان هي الوشائج التي تربط بين أفراد الأمة برباط التضامن والتعاون، وتصل
بين قلوبهم بأسلاك من المحبة والتفاهم فيسعد المجتمع ويرغد عيشه وتجري ريحه رخاء، وعلى العكس من ذلك قسوة القلب ولؤم النفس وجفاف الطبع وموت الحس، فإنها تبعد ما بين القلوب وتفصل مما بين الأرواح وتنفث في جو المجتمع سموم الشر والفتنة، وتبذر في تربته بذور التباغض والتقاطع والفرقة، فتلف المجتمع موجة من الشقاء وجهد البلاء ونكد الحظ. فيا أيها المسلمون! ليست كارثة الأصنام إلا امتحانا جديدا لإيمانكم وغيرتكم، فحذار ثم حذار أن تخرجوا منها بعيون جامدة وأيد مقبوضة وأفئدة هواء.
وأعلموا أن نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "السعيد من اتعظ بغيره" فخذوا العبرة من هذه الزلزلة قبل أن تحل بكم تلك الزلزلة التي تلف الكون كله من أقصاه إلى أقصاه، والتي يقول الله في وصفها:{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} .
أيها المسلمون: (مات الميت فليحي الحي) وإذا اندملت جراحات الجسد فإن جراحات القلب لا تندمل بسرعة، فاذكروا هؤلاء الذين يقطعون الليل أنينا في المستشفيات أي جراح يخرجون بها في قلوبهم، لأن الزوجة تخرج أيما والطفل يتيما، والرضيع فاقد الصدر الذي يضمه ويؤويه والثدى الذي يدر عليه والقلب الذي يحن إليه.
فإذا شحت أيديكم في هذه الكارثة العقام باليسير من الحطام، وجف في قلوبكم معين الرحمة بما تركته هذه الكارثة من أيامى وأيتام، وأنطفأت في صدوركم جذوة الإيمان، والشعور بأخوة الإسلام، فتلك هي الزلزلة التي ما بعدها زلزلة فحذار، ثم حذار.