الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غرور الحياة
إن المغرور حقا هو الذي، خدعه بريق هذه الحياة فأمل فيها أكثر مما يبلغه، وهو لا يبني هذا الأمل إلا على شفير هار وإن العاقل هو الذي لم ينخدع بهذا البريق ولم يغتر بهذا السراب وإنما فكر وقدر ثم فكر وقدر فبان له أن هذه الحياة غرور في غرور وإن كانت فيها لحظات سعيده فإنها لا تفي بما يغمرها من بؤس وشقاء.
كنت أفكر في هذا إذ أقبل إلي أحد أقاربي ينعي إلي ابنه الذي مات ولم يتجاوز عامين ولم يمرض إلا خمسة أيام وقد وضعت أمه طفلا: لفظ هذه الكلمات في جهد وإعياء ثم ألقي بنفسه على مقعد بحانبي خائرا متضعضعا لأن الحزن قد شل أعضاءه وعقد لسانه حتي لا يكاد يبين، فأدركت إذ ذلك أن سبب شقائنا بالحياة هو جهلنا بالحياة وعدم توطيننا أنفسنا على مكروهها لأننا لم نرها إلا جميلة جذابة مغرية حينما رأينا جانبها المشرق اللماع ولم نر جانبها المظلم العابس، ولو عرفنا الحياة كما عرفها الأنبياء والحكماء والعارفون بالله لهان علينا كل مما فيها من نعيم وبؤس وعادة وشقاء، فلم نفرح بإقبالها ولم نغتم بإدبارها بل لقلنا ما قال المتنبي:
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا
…
فلما دهتنى لم تزدني بها علما
إنها حياة لا يقوم خيرها بشرها ولا يفي سرورها بحزنها وإلا فما معنى حزن هذا الذي لم يمت له ولد حتى ولد له ولد؟ ذلك هو معنى ما يقول أبو العلاء:
إن حزنا في ساعة الموت أضعا
…
ف سرور في ساعة الميلاد
لذلك كان هذا الوالد الثاكل مصروفا عن السرور بالحزن ومشغولا عن الإبتسام بالعبوس لأن سروره بما ولد لم يف بحزنه على ما فقد، إن هذا المخلوق الذي خلق للإبتلاء لو خير لاختار أن لا يجد حتى لا يفقد وأن لا يلد حتى لا يموت له، أما وهو غير مخير فأولى له ثم أولى أن يوطن نفسه على مكروه هذه الحياة ويروضها على بأسائها حتى لا تصدمه المفاجأة وتضجضعه المباغتة:
وأعظم شيء حين يفجأك البغت
إن خير خطة لنا مع دنيانا أن لا نكون معها في حرب ومعنى ذلك أن لا تجد عندنا ما تحاربنا عليه فلا تعطينا ثم تسلبنا ولا تطعمنا العسل وقد مزجته بالسبم (وليس نعيم الحياة إلا السم في الدسم) ولذا كان خير ما في هذه الحياة العافية أي أن خير ما نجنيه من الحياة أن نسلم من أذاها كما يقول الطغرائي في صحابه:
وخير صحابي من كفاني نفسه
…
وكان كفافا لا علي ولا ليا
من أجل هذا يقول عليه الصلاة والسلام: "إذا سألتم الله فاسألوه العافية" ولذا لم يفتتن الأنبياء بالدنيا ولم يغتروا بزخرفها وإنما كان جل همهم في الدنيا أن يضعفوا تأثيرها في القلوب ويحاربوا سلطانها على النفوس ويجعلوا من المجتمع الإنساني كله عائلة واحدة قنوعة متحابة متآلفة لا تفسد بينهم الدنيا ولا تفرق بينهم المطامع ولا تتحكم فيهم الأهواء، ولو عمل الناس بتعاليم الأنبياء ورسالات السماء لما كانت حروب ولا مجازر ولقنع كل بما قسم له فلا تمتد يده لغيره لا بالسلب ولا بالأذى، ولكن الناس حادوا عن شرائع السماء وعادوا إلى شريعة الغاب يفتك أقواهم بأضعفهم، وأصبحت الدنيا كلها معامل لصنع الأسلحة وأصبح المال وسيلة شر بعد أن كان وسيلة خير، وأصبحت قوة الإنسان كلها موجهة إلى الفتك بأخيه فلا يبيت منه إلا على وجل.
وهكذا إذا استقلت الأرض عن السماء واستغنى الناس عن تعاليم الأنبياء تعود حياة الجاهلية الأولى من جديد ويفسد ذوق الناس فيرون الضلال هدى والهدى ضلالا ويسيرون إلى الوراء ويحسبون أنهم تقدموا إلى الأمام، ذلك بأنهم يقيسون بالحواس ما يقاس بالعقول والقلوب، فلا عجب أن ينزلوا إلى دركة الحيوان بحكم القرآن {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} ولا عجب أن يختاروا الكفر على الإيمان
المعصية على الطاعة إذا كان في الكفر والمعصية إرضاء لشهواتهم ولا عجب أن يستعبد الشيطان من استعبدته شهواته {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} .