الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أداة السيادة
ليست أداة السيادة ملكا واسعا ولا جاها عريضا ولا سلاحا فاتكا وإنما
أعني بأداة السياده ما عناه الشاعر إذ قال:
"ببذل وحلم ساد في قومه الفتى"
فأداة السيادة- إذن- بذل وحلم، بذل لخيرك وحلم عن شر الناس، لابد
من هذين مجتمعين لبلوغ قمة السيادة، فلا يكفي السماح بشيء خارج عن نفسك يذهب اليوم ويعود غدا، ثم إذا امتحنت في شيء يتعلق بصميم نفسك لم يوجد عندك شيء من سماحة النفس، كما لا يكفي أن تجود بنفسك ثم تبخل بما لك أو متاعك.
وهذا سيد من سادات العرب هو عرابة والأوسي يسأل: بم سودك قومك؟ فيقول:- بأربع خلال، أنخدع لهم في مالي، أذل لهم في عرضي، ولا أحقر صغيرهم، ولا أحسد كبيرهم.
على أن الشيء لا يحسن إلا إذا أصاب موضعه، وكذلك البذل والحلم لا يحسنان إلا في مواضعهما:
لا يحسن الحلم إلا في مواضعه
…
ولا يليق الندى إلا لمن شكرا
بل ربما كان البذل في غير موضعه جريمة كالمال الذي يبذل في الخمر
والميسر، مثل الحلم في غير وضعه فكثيرا ما كان جريمة نكراء، كالعفو عن ولدك حينما يرتكب مخالفة خلقية، وكالسكوت عن تغيير منكر وانتهاك حرمة. إن أسمى
مراتب البذل ما كان عن إقلال، بل إن بعضهم ليغلو فلا يعد البذل عن سعة بذلا كمن يقول:
ليس العطاء من الفضول سماحة
…
حتى تجود وما لديك قليل
لأن السيادة احتمال مشقات وارتقاء عقبات لذلك يقول المتنبي:
لولا المشقة ساد الناس كلهم
…
الجود يفقر والإقدام قتال
ولكن هل الجود يفقر والإقدام قتال كما يقول المتني؟ كلا، فإن الله يقول:
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} ويقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} ويقول علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وقد قيل له: لو اتخذت حراسا-: لا حارس كالأجل، ومعناه أن من كان عمره ستين سنة فهو محروس بأجله حتى يستوفيها فلا يموت قبل ذلك، وإنما المتنبي يصور خوف الناس من الفقر إذا أريد منهم البذل وخوفهم من القتل إذا دعاهم واجب الكفاح، وتلك هي خدعة الشيطان يقف للإنسان في طريق الخير فهو الذي يخوف الناس من الفقر ومن القتل كما يقول الله تعالى:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} ويقول: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} ويقول: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فأعلى مراتب البذل ما كان عن إقلال وضيق يد، وأهل البذل في مجتمعنا هم المقلون وأوساط الشعب في الأعم الأغلب، أما أرباب الثراء الواسع الذين تجدهم الأمة في ساعة العسرة فما أقلهم وأندر وجودهم في مجتمعنا، وهذا من أوضح الأدلة على أن المال فتنة لأهله وأنهم لا ينتفعون به إذا لم يرزقوا وجدانا حيا وهمة عالية وإحساسا كريما وما أصدق بشارا إذ يقول:
خليلي إن المال ليس بنافع
…
إذا لم ينل منه أخ وصديق
كذلك الحلم ليس بنافع وليس أداة للسيادة دائما وفي كل موطن بل ربما ذهب بالسؤدد، أو هوى به إلى قرار سحيق أو استحال إلى ذل وصغار.
فالحلم عمن يمس دينك أو مروءتك أو حريمك أو يدوس كرامة بلادك ليس من أداة السيادة وخلال النبل، والحلم بمعناه السامي النبيل جد قليل، ولا يغرنك ما تراه
على الوجوه من بشر وعلى الألسنة من ملق، فالحلم لا يعرف إلا عند الغضب كما لا تعرف الشجاعة إلا عند الحرب وكما لا يعرف الإخوان إلا عند الحاجة إليهم وعند التجربة لهذا الخلق ربما خرجت بتفسير واضح لقول علي رضي الله عنه:(خير الناس من لم تجربه) فلا أشق على النفس من الحلم لذا كان سيد الأخلاق بحق ولا يحتل معه هذه المكانة أو يدانيها إلا أخوه البذل، فلا عجب أن يكونا أداة السيادة ولا عجب أن ترى القرآن يصطنع في الدعوة إليهما ذلك الأسلوب الفريد الفذ في قيادة المجتمع وتوجيهه فيجعلا البذل في سبيل الله قرضا مع الله ومعنى ذلك أن الباذل في وجوه الخير لم يخسر ما له وإنما يعود إليه- كما تعود القروض إلى أصحابها- أضعافا مضاعفة، وذلك وجه من وجوه الكسب لا مغرم من المغارم كما يفهمه ميت الإحساس من أغنيائنا وليتأمل مثل قوله:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} كما يجعل الحلم والأناة وأدب الخطاب تحول العدو إلى صديق كريم وولي حميم، وليتأمل مثل قوله:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} وهو أسلوب في التوجيه عظيم ومنهج في الدعوة حكيم، بقي علينا أن نورد بعض النماذج ممن اشتهروا بالحلم في تاريخ الإسلام فهذا موعدنا به فصل آخر إن شاء الله.