الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين الجد واللعب
صادفت في مروري بالملعب البلدي خروج الناس بعد فراغ أبطال الكرة من اداء مهمتهم التي أصبحت حديث الناس، وشغلهم الشاغل في كل مكان ولا سيما الشبان، فرأيت جيشا لجبا وجما غفيرا لا يحد الطرف مداه، ولا يعلم عدده إلا الله، ولا يعد الزحام الذي رأيته على المكتب الفرنسي بجانب هذا شيئا، ولفت نظري أن معظم هذا العديد الضخم وهذا الجمع الكثيف هو من الشبان المسلمين الذين لا يرى أكثرهم إلا في هذا الموضع أو ما شابهه من المسرح والسنيما.
فقلت هذه أمة لو رزقت التوفيق وألهمت الرشد لأجرى الله على يدها خيرا كثيرا، ولأزال على يدها شرا كبيرا، كما أرى الله منها ذلك يوم كان الجهادان: جهاد النفس وجهاد البغي والرجس، أداتها وشعارها، ولكنني سرعان ما ذكرت أن هذه الأمه التي راعتني بقوة عددها ووفرة نشاطها وخفة حركتها، إنما صادفتها عائده من ميدان لعب، لا من ميدان جد، ومن ميدان دفع الأكر، لا من ميدان دفع البغي والشر وهذا لا يصلح مقياسا للأمه التي ورثت مجد محمد صلى الله عليه وسلم واهتدى الناس بدعوتها وصلح أمر الدنيا والآخرة بدولتها، وشع في ذاكرتي- فجأة- قوله صلى الله عليه وسلم:"تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة" وقلت لنفسي: هل هذه هي الأمة التي يباهي بها نبيها الأمم يوم القيامة؟ وهل هذا هو النسل الذي كان يتراءى لخيال الرسول صلى الله عليه وسلم يوم وجه هذا النداء لأمته؟ الجواب عند الشبان.
إننا لا نقول بتحريم اللعب، ولا نحول بين الناس وبين حاجياتهم الضرورية
منه، وإنما نقول: ليست الحياة كلها لعبا، كما أنها ليست كلها جدا، بل لا تصلح الحياه إلا بكليهما، ولكن كل على قدره، فليس اللعب إلا إستراحة من عناء الجد، كما أن النوم ليس إلا إسحراحة من العمل وضوضاء النهار، ولذا فالوقت الذي ينفق في اللعب يجب أن يكون أقل بكثير من الوقت الذي ينفق في الجد، أما أن ينفق الوقت كله في اللعب فتلك هي الجريمة التي ما بعدها جريمة، وذلك هو السفه الذي دونه كل سفه، والذي يفعل ذلك مثله مثل من ينفق ماله كله فيما لا يعنيه ولا يحتاج إليه، ويمسكه فيما هو أهم له وأجدى عليه ويؤسفني أن هذا هو ما عليه أكثر شبابنا، الذي نعلق عليه أكبر آمالنا، ونمني أنفسنا بأن يكون على يديه خلاصنا، وهذا المرض ناشيء عن مرضين آخرين: الجهل بقيمة الوقت وعظم مسئوليته وخطورة أثره، وانقطاع الصلة بين ماضي الأمة وحاضرها، ولو فكر الناس في أن ما مضى من الوقت لا يعود ولا يعوض، لاغتنموا كل لحظة من أعمارهم فيما يعود عليهم بالنفع عاجلا وآجلا، ولو تذكر المسلم أن أول ما يسأل عنه يوم القيامة، هو وقته لعمره كله بما يرضي ربه، ففي الصحيح أن الني صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله فيم أنفقه؟ ومم أكتسبه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟.
ولو قرأ شبابنا تاريخهم الذي هجروه إلى تاريخ لا تصلهم به أي صلة، لاطلعوا من ذلك على كنوز يعز العثور على مثلها في أي تاريخ، ولرأوا من أجدادهم العجب العجاب، في هذا الباب، ومن كان مثل أجدادهم في النهار فرسانا وفي الليل رهبانا؟ إنهم كانوا لا يعرفون هذا النوم الموصول الليل بالنهار الذي نقضي عليه حياتنا اليوم، نوم بالليل واشتغال بالسخافات بالنهار، وكانوا لا يعجبون لشيء عجبهم ممن ينام ليله كله: روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح فقال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه،- إذن- فما أكثر من يبول الشيطان في آذانهم في زمماننا هذا!
وقيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أتنام من النهار؟ فقال: وهل أنام الليل حتى أنام النهار؟ إنني إذا نمت الليل أضعت حقي، وإذا نمت من النهار أضغت حق رعيتي، فكيف لي بالنوم مع هذين؟ وإنما هي خفقات بعد صلاة الصبح"، ولا يعجب
الناس من هذا، (فكل امرىء جار على ما تعودا) والقليل من النوم يكفي لمن تعود ذلك، والكثير قليل لمن لم يتعود، كالأكل يكفي منه القليل لقوم، ومن استبدت به الشراهة، وتحكمت فيه الشهوة لا يكفيه شيء:
والنفس راغبة إذا رغبتها
…
وإذا ترد إلى قليل تقنع
ولكن سلطان الهوى أملك للناس من سلطان العقل ولذا فالمنتفع بوقته قليل ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ"- إذن- فلنتغلب على أهوائنا ولنحكم عقولنا في سلوكنا، ولنغتنم كل دقيقة من أعمارنا ولنجعل نصب أعيننا تلك الكلمة الخالدة التي أطبق عليها الخليل بن أحمد فاه، وفارق عليها دنياه عندما حضرته الوفاة ورأى أهله يبكون فقال:"لا تبكوا علي، فإنني لم أضع ساعة واحدة، بلا فائدة"!!