الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القضاء على الداء
بعد كتابة الفصل السابق (مجد يجب أن يحتذى) وقراءته ومراجعته خطرت لي فكرة، وهي أن طب النفوس- مثل طب الجسوم- يجب أن يكون الغرض منه القضاء على الداء، بالمواظبة على الدواء، لا مجرد تناول الدواء، وهو على هذا يجب أن لا يخضع لفكرة اختيار الجديد من الموضوعات، إذ الأهم والأنفع لأمة مثلنا، هو تكوين مجتمع طاهر وتهيئة جو صالح، وإعداد جيل أمثل، وإذن فمتى اكتشفنا داء من أدوائنا الاجتماعية وأخذنا في مقاومته، بالدواء الذي رأيناه ناجعا في إبادته وجب أن لا نترك الدواء قبل القضاء على الداء، ومعنى ذلك أنه لا يجب أن تكون هذه الفصول كفصول الرواية وأدوارها تعرض عرضا سريعا متلاحقا، إذ أن أكثر ما تطلب له مشاهدة الرواية هو التسلية وحب الاستطلاع، أما الأمر في مقاومة الأدواء فعلى العكس من ذلك، يجب الإمعان في العلاج والمواظبة على الدواء، حتى يقضي على الداء، والداء الذي أدركنا خطره، ولمسنا أثره، وشاهدنا صرعاه أكثر من غيره، هو هذا الضعف الإنساني، والمرض النفساني، الذي يستبد بالرجل الأناني فينزع من قلبه الرحمة والمحبة والإخاء، ويدس في زواياه النقمة والحقد والبغضاء، يدخل البيوت فيشتت شملها، وتسرى عدواه إلى الاحزاب والهيئات فيمزق وحدتها، ويصيب رابطة الأخوة، فيزعزع كيانها، ويصدع بنيانها، ذلك هو حمى الغضب وشهوة الانتقام، وغريزة مقابلة السيئة بالسيئة التي لا تطفيء الشر، بل تزيد ناره ضراما، وشدته عراما.
إن داء كهذا الداء، ينطوي على أخطار كهذه الأخطار، لا يكفي في استئصاله فصل واحد، بل ولا كاتب واحد، بل ما أحراه بأن تحبر فيه فصول وترصد له جهود من
كتاب أعلام تمرسوا بحرب الأقلام، لهذا لم أكتف- في هذا الموضوع- بما كتبت في الفصل السابق، وفي فصول أخرى سبقته ولأمر ما سميت الدعوة إلى الله تذكيرا والقائم بها مذكرا، فالأمر الهام، لا يكتفي فيه باليسير من الكلام، بل لا بد فيه من الإلمام، بعد الإلمام، وتكرار الدعوة إلى شيء تذكير به، (وآفة العلم النسيان) كما يقول- عليه الصلاة والسلام وقبل كل شيء يجب أن نعلم أن لكل ما يسر ثمنا مما يضر، وثمن بلوغ المكارم، تحمل المكاره وما أبلغ قوله صلى الله عليه وسلم:"ليأخذ العبد من نفسه، لنفسه"، وهل تنال الجنة التي {فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} إلا بمخالفة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مما حرمه الله على الأنفس والأعين؟ وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"حفت الجنة بالمكاره"، فإن لم يأخذ العبد من نفسه لنفسه، ندم في غده على تفريطه في أمسه:
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
…
فليس إلى حسن الثناء سبيل
وعلى هذا يجىء قول المتنبي:
[لولا المشقة ساد الناس كلهم
…
الجود يفقر، والإقدام قتال]
وقول الآخر:
ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل
وبهذا- لا بغيره- يدفع جهل الجاهل،،إساءة المسيء، وإنما أوردنا كل هذه الأمثلة لئلا يقول ضعاف النفوس وأسرى النزوات: أن تحمل الإساءة شيء يشق على النفس وينبو عن الطبع، وما كان فضل الحلم على غيره- حتى قيل-: الحلم سيد الأخلاق- إلا لأن مقاومة الطبع تبدو فيه أكثر من سائر الأخلاق، وعلى هذا الأساس جاء قوله:عليه الصلاة والسلام: (ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجرا من جرعة غيظ في الله"، وروى أنس رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله ما أشد من كل شيء؟ قال: غضب الله، قال: فما ينجي من غضب الله! قال: أن لا تغضب" وليس الغضب الذي ينهي عنه رسول الله، هو الغضب لله، عندما تنتهك حرمة من حرمات الله، وإنما هو غضب المرء لنفسه الذي تمليه الأثرة الجامحة والأنانية الطاغية عندما يسمع كلمة تطمئن من غروره، أو يفقد درهما من ماله. وقبل كل شيء وبعد كل شيء فإن الإسلام قام على الأخلاق أكثر من أي شيءآخر، ونبي
الإسلام- عليه الصلاة والسلام نجح في دعوته بحسن خلقه، ورحابة صدره أكثر مما نجح بشيء آخر، كما قال- تعالى-:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ، فمن كان سيء الخلق، ضيق الصدر، فهو أبعد ما يكون عن الإسلام، وأجهل ما يكون بروح الإسلام، وتعاليم الإسلام، وإذا قال- عليه الصلاة والسلام:"بشروا ولا تنفروا"، فإنه لا يبشر بالإسلام كحسن الخلق، وسعة الصدر، كما لا ينفر من الإسلام مثل سوء الخلق، وضيق الصدر. وإذا كان الناس بحاجة أكيدة إلى هذا الخلق، فإن حاجة رجل العلم إليه أوكد، لأن للعلماء وظيفة الأنبياء، وهي الدعوة إلى الله، ومن هنا قيل:(ما قرن شيء إلى شيء، أفضل من حلم قرن إلى علم).