الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استقبال رمضان
سمعت في هذه الأيام حوارا دار بين رجلين، قال أحدهما- وهو شاب إفرنجي النزعة والزي واللسان ها هو رمضان قد جاء يزحف فاغرا فاه كالأفعوان يريد أن يبتلعنا، أو كأنه الرقيب يفرق بين الحبيب والحبيب، إنه جاء ليختم على أفواهنا ويبدل شبعنا جوعا ورينا ظمأ ونومنا سهرا وراحتنا تعبا. فأجابه الثاني- وهو كهل وقد خط الشيب عارضيه، وبعث بأول رسله إليه-: أما أنا فإنني متشوق إلى رمضان، اشتياق الظمآن إلى البارد العذب.
فقهقه الشاب إستخفافا بهذا الجواب وأردف قائلا: وماذا يشوقك من شهر يمنعك في النهار لذيذ الطعام، ويمنعك في الليل لذيذ المنام؟
فأجابه الكهل الوقور بقهقهة مثل قهقهته وأردف-هو الآخر- قائلا: ما أشد غباوتك، إن الذي يبغض إليك رمضان هو الذي يحببه إلي، ويجعله أثيرا لذي، فإن هذا الإضراب عن الطعام والشراب هو الذي يحفظ على صحتي، ويمسك علي توازني، ولذلك فإني لا أجد راحتي وصحتي واعتدال مزاجي إلا في هذا الشهر الجميل الطلعة الميمون النقيبة، أما في غيره فإني أقضي أيام السنة كلها مريضا متألما فكيف لا يشتاق المريض إلى شفائه وذهاب دائه؟ ولكنكم أيها الشبان لا تعنون إلا باللذة العاجلة وإن كان فيها تلفكم، وقلما تفكرون فيما وراء ذلك، وهذا ما يجعلكم تحكمون على الأشياء أحكاما زائفة خاطئة. إن هذا الحوار القصير الذي دار بين الرجلين ليكشف لنا عن حقيقة مرة يجب أن لا نغفل عنها وهي جهل الكثير من أبنائنا بتعاليم دينهم
وأسرار تشريعه جهلا جعل هذا الشاب يرى في رمضان أفعوانا فاغرا فاه يهم بابتلاعه هذا الجهل الفاضح بالإسلام هو الذي حمل الكثيرين من شبابنا على التنكر للإسلام، والتمرد على تعاليم الإسلام، (ومن جهل شيئا عاداه) ومن هنا دخل معظم البلاء على المجتمع الإسلامي الحاضر وأي بلاء أشد من أن يعادي المسلم دينه ويصبح حربا عليه وهو ما عرف العز ولا تبوأ مكانه في تاريخ الوجود إلا به، ولذا لما اكتشف ذلك الكهل منفعة الصوم له أبدى شوقه إليه.
إن كلمة الكهل للشاب هي كالمفتاح لجميع أسرار الصيام، إنه يقول له:"إنني مريض لا أجد شفائي وراحتي إلا في الصوم"، إن معنى هذه الكلمة هو نفس المعنى لقوله صلى الله عليه وسلم:"جوعوا تصحوا" وإني أفهم كلمة تصحوا عامة في سائر أنواع الصحة: صحة البدن وصحة العقل وصحة الشعور.
فأما صحة البدن فإن المعدة وسائر أجهزة الغذاء تستريح بالإمساك عن الطعام والشراب وتتطهر من فضلات الغذاء
…
وأما صحة العقل فإن في سلامة الجسم سلامة العقل، لأن العقل السليم في الجسم السليم، ولأن البطنة تذهب الفطنة، وأما صحه الشعور فإن الجائع يحس بالجائع (والمصطلى بالنار أعلم بحرها) وما ألطف تلك القصة التي تروي عن تلك المرأة العربية إذ كانت في عطفها على الفقير والحدب عليه موضع العجب والدهشة بحيث لفت ذلك نظر إخوتها فحبسوها ومنعوها الطعام والشراب حتى إذا ذاقت مرارة الجوع والحرمان احتفظت بما لها فلا تبدده ولكنها- وقد ذاقت مرارة الجوع والحرمان وأخرجها إخوتها من حبسها- قدموا إليها صرة دراهم ليستوثقوا من ثمرة الدرس فما كان منها إلا أن دفعت بالصرة كاملة الأول متسول قايلة: إني كنت ارحم الجائع والمحروم قبل أن أتجرع ما يتجرعه الجائع والمحروم من مرارة الألم أما اليوم وقد عرفت بالتجربه ما يعانيه أنضاء الجوع والحرمان فإني لا أعود أمسك شيئا يقع بيدي.
وهكذا فرمضان مصحة عامة، يجد فيها كل مريض دواء مرضه، بل ليس الدين في حقيقته غير علاج عام لأمراض البشرية، البدنيه والعقلية والشعورية ولكننا جهلناه فأعرضنا عنه بل عاديناه (ومن جهل شيئا عاداه).
فيا أيها المسلمون: إن رمضان خير فرصة لفهم دينكم على حقيقته، فانتهزوا هذه الفرصة الثمينة وتسابقوا إلى حلقات الدروس في ليالي رمضان الزاهرة، فجمعية العلماء
قد جندت لهذا الميدان خير رجالها ووزعتهم على القطر، فاجعلوا من رمضان شفاء لنفوسكم ومظهرا لوحدتكم وتضامنكم وتجديدا لصلتكم بدينكم وعلماء دينكم، والله يهديكم ويوففكم.