الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قسوة القلوب
إلى الزعيم الروحي العظيم الأستاذ الفضيل الورتلاني
حياك الله، أيها الأخ في الله، الذي لا يخط حرفا إلا بوحي من هذه الأخوة الروحية، السامية الشاملة التي تداعت دعائمها وتجاهلها المسلمون، فقلت عدتهم رغم كثرتهم، وذلت نفوسهم بعد عزتهم.
ورعاك الله وزادك رفعة على هذا التواضع الرفيع، فبدلا من أن أكون السابق في هذا الميدان، ميدان شكر أمثالك من العاملين المجدين، لخير المسلمين، كنت السابق -كعادتك- فقد عرفتك سباقا إلى كل خير، مشجعا لكل عامل، ولو كان بطيء الخطى، قريب المدى، كهذا الضعيف.
إنه خلق خبرناه فيك، ولمسناه في مواقفك كلها، يوم كان لعيوننا حظ الاستمتاع برؤيتك، ولأرواحنا لذة القرب منك، ولعقولنا نعمة الآنتفاع بمواهبك، والاقتباس من نورك، وزاد هذا الخلق سموا وسعة وشمولا يوم سعدت بك ربوع الشرق. وحظي بقربك وادي النيل، وحلقت روحك في تلك الأجواء الحرة الطليقة، تعب من فيضها، وتنهل من عبيرها.
إنني أيها الأخ الكريم، لأعتبر تحيتك الطيبة التي نفحتني بها، وكلمتك القيمة التي خصصتني بإهدائها خير مشجع لي على السير في هذا الطريق، وخير مكافأة أتلقاها من صديق، على هذه الفصول المتواضعة، التي كونت لي أعداء، كانوا يوم أقرض الشعر وأعمل في حقل الأدب أصدقاء، ولا عجب فالناس عبيد ما ألفوا، حرب على من تحدثه نفسه بتحويل وجوههم عن هواهم، ولو كان فيه
شقاء دنياهم وأخراهم، ولكن ما أتفه ما خسرت من هذه الصداقة الزائفة، التي تنقلب إلى عداوة عند الله:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} ،- وكن واثقا بأنني سأعمل بإشارتك، وسأطير في هذه الأجواء الحبيبة إلى نفسك المغذية لأرواح بني جنسك، ما وسعني أن أطير، وما قدر جناحاي على التحليق.
ولكن المسألة لا تنتهي هنا، والمشكلة- كما يقول الإمام الغزالي- ليست النصيحة إنما المشكلة قبولها، إن قلوب الناس- يا أخي- قد صارت من القسوة بحيث لم يؤثر فيها الكلام المؤثر، ولا الوعظ البليغ الموجه، {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ، ليست مشكلتنا في عدم الدواء ولكن في عدم استعماله، وقد وضعت- أنت- يدك على موضع الداء، إذ قلت: ماذا ينفع المريض إذا كان الدواء في رحاله ولم يستعمله؟ وإذا قلت: إن معنا القرآن الخ .. نعم، إن معنا القرآن الذي بلغ من تأثيره أن يصفه الله بقوله:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ومع ذلك لا نتأثر به، ومن هنا يقول علي- كرم الله وجهه- عندما قابل أصحابه رأيه بالعصيان-:(لا رأي لمن لا يطاع)، وما الفائدة من وصف الدواء إذا كان لا يستعمله ذوو العلل والأمراض؟ ولمن تعد الأغذية الشهية إذا قوبلت بالصد والإعراض؟
فلا عجب أن نرى الغزالي بعد أن عرف المشكلة وقال كلمته المتقدمة يشفعها بقوله:
"غزلت لهم غزلا رقيقا فلم أجد
…
لغزلي نساجا فكسرت مغزلي"
لذلك كثيرا ما أعود على نفسي بالاتهام، وأشك في صدق نيتي وأقول: لعل الكدر من المنبع والمرض في الطبيب والدواء لم ينبت في أرض طيبة، والموعظة لم تصدر عن قلب صادق النية شريف القصد، (فإن الكلمة إذا خرجت من القلب، نفذت إلى القلب، وإذا خرجت من اللسان، لم تتجاوز الآذان)، وإذا كان المنبع كدرا كان المصب كدرا وإذا عجز الطبيب عن علاج نفسه، فهو عن علاج غيره أعجز، وإذن فلا يلم من أعرض عن دوائه ولم يثق بعلاجه، ولذا قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
" أصلح نفسك، يصلح لك الناس"، كما كان عمر رضي الله عنه قبل أن يذهب ليعظ
الناس، يتفقد أهله وقول لهم: (إن الناس ينظرون إليكم، وإني ذاهب إليهم لآمرهم بكذا فلا تفضحوني، ومن هنا يقول الله- عز وجل:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} فجعل حسن القول، مقرونا بحسن العمل، والدعوة إلى معروف مسبوقة بالعمل به.
وعلى كل حمال، سنمضي في الطريق إلى النهاية، وسنواصل التحليق في هذه الأجواء حتى نوفي على الغاية، وسنبذل كل ما في وسعنا لإصلاح نفوسنا، ليكون ذلك عونا لنا على إصلاح غيرنا، وسنطرد من أمامنا كل شبح لليأس، ولا داعي لليأس فما نحن إلا سائرون على آثار نبينا الذي قال الله له:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} ، وإننا غير تاركين هذه المهمة التي شرفنا الله بها، وأورثنا إياها نبينا، حتى إننا إذ نضيق بسوء حالنا الذي تسبب من إعراضنا عن دوائنا، لم يكن ذلك إلا من حرص على هداية قومنا، ورثناه هو الآخر عن نبينا الذي بلغ فيه إلى الحد الذي قال الله فيه:{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} .
أعاننا الله وإياكم على ما فيه خير هذه الأمة وصلاحها.