الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
12 - على مائدة القرآن
{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}
بهذا الفصل- أيها القراء الكرام- تودعون رمضان، وتصدرون عن فائدة القرآن، بعد أن تناولتم منها ما فيه غذاء الأرواح، وشفاء النفوس، وإيقاظ الشعور، وإرهاف الوجدان.
فحذار أن تنسوا ما سمعتم، أو تهملوا ما حصلتم، أو تحولوا عما كنتم، أو تقطعوا من حبال الله ما وصلتم، فتكونوا {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} ، ونبي القرآن يقول:"حسن العهد من الإيمان"، فرمضان الذي رافقتموه ثلاثين مرحلة، وعاشرتموه ثلاثين يوما ليأخذ عليكم من الله ثلاثين عهدا، فلا تخونوا عهده، ولا تخونوا ذمته، ولا تسيئوا إلى ذكراه، فبعد أحد عشر شهرا تلقونه، فبأي وجه تلقونه، فاذكروا هذا بجانب ما قرأتم في مائدة القرآن، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} ، {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ} .
"هل جزاء الإحسان إلا الإحسان"
هكذا، أقام الله العمران، على تبادل الإحسان، فالإحسان هو الرباط الوثيق بين بني الإنسان ولذا لم يكف الأمر بالعدل في القرآن، بل قرنه الله بالإحسان، إذ قال:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} ، وإذا كان للعدل مزية حفظ الحقوق، فإن للإحسان مزية بذلها والسخاء بها، وهذا لا شك أفضل، ولا عجب أن يكون النفل أفضل من الواجب في بعض الأحيان، فالسلام أفضل من رده، وإن كان الأول سنة والثاني فرضا، وهذا بالنسبة للأمة، أما بالنسبة للإمام فلا أفضل من العدل الذي يحفط لكل فرد في الأمة حقه، بل إن الذي مكنته من حقه قد أحسنت إليه
كل الإحسان، والإحسان- مع ذلك- يرتفع إلى مرتبة الواجب، متى أصبح جزاء، ومن هنا كان رد السلام- إذن- واجبا، لأنه جزاء الإحسان بالسلام، كما قال تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} ؟، {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ، وهو معنى المثل السائر:(الإحسان قروض)، وإذن، فالمحسن إلى غيره محسن إلى نفسه، كما قال تعالى:{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} ، وهذا مما يجعل العاقل يحرص على بذل الإحسان، فكل محسن سيجني ثمره ما زرع من الإحسان، وهو معنى قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} .
إن الإحسان في الأمة قوة تسند كيانها، وتوثق بنيانها، وتوطد أركانها، إذ تربط بين قلوب أفرادها، وتؤلف بينها، بما تبث فيها من محبة وتزرع من مودة، ولا عجب فقد (جبلت النفوس على حب من أحسن إليها)، ولا عجب- لذلك- أن يكون الله مع المحسنين كما قال:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} ، فمن تدرع بهذه القوة وكان الله معه فلا سبيل لأحد عليه ولا تمتد يد ظالم إليه، وهو وعد الله الذي لا يتخلف إذ قال تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ، ومن هنا قال ابن عباس رضي الله عنه:(صاحب المعروف لا يقع، وإن وقع وجد متكأ).
هذا باذل الإحسان، أما باذل الإساءة وباذر الشر- وهو الظالم- فلابد أن يقع، وإذا وقع فلا يجد متكأ، كيف يجد الظالم متكأ وهو لم يمهد لهذا المتكأ، وإنما بذر بظلمه وإساءته بذور الشوك في طريقه، والحسك في فراشه، وهو قد حاد الله باعتدائه على خلقه، وارتكابه ما حزم على نفسه قبل خلقه، إذ قال في الحديث القدسي:(يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا!) وإذا لم يجعل الله على المحسنين إلى خلقه سبيلا لظالم من خلقه، فإن الظالم بعكس ذلك قد عرضه للمهالك، وجعله بادي المقاتل لكل رام، إذ قال:- بعد الآية المتقدمه-: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وذلك هو دفاع الله الناس بعضهم ببعض، الذي حفط به ملكه من فساد عباده، إذ قال:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} ، وذلك هو تسليط ظالم على ظالم ليبيد الظلم بعضه بعضا كما قال الشاعر:
"وما ظالم إلا سبيلي بظالم"
إن الظالم- إذن- لا يجني إلا على نفسه، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} فهو في الدنيا يبيت على وجل، لا يستقر به مضجع، ولا ينام له جفن، ولا يهدأ له قلب، وكيف وقد أطار الهدوء من كل قلب وأثار البغضاء في كل نفس، وفي الآخرة لا يجد أمامه إلا ظلاما يعلوه ظلام، كما قال- عليه الصلام والسلام-:"الظلام ظلمات يوم القيامة" فتستبد به الندامة التي يعبر عنها القرآن بذلك الأسلوب المفزع إذ يقول: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} ، وإذ يقول:{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} .
ولكن هنالك تنقطع الحجج وترفض المعاذير ويرد الشفعاء، قال تعالى:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} ، و {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} ، لأنها دار الجزاء، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} ، والويل لمن تزود إثما {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} .