الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
"سيأتي على الناس زمان يكون صالحهم فيه من لا يأمر بمعروف ولا ينهي
عن منكر فيقول الناس: ما رأينا منه إلا خيرا لكونه لم يغضب الله." عمر بن الخطاب.
إن عمر- الذي اخترق بنظره النفاذ حجب المكان فرآى (وهو على منبر المدينة) جيش الإسلام بنهاوند بأرض إيران يكاد يطوقه العدو فيهتف بقائد الجيش: يا سارية الجبل، وتنفذ الصيحة إلى سمع القائد فينحاز بالجيش إلى الجبل وينجو- هو عمر الذي يخترق بنظره النفاذ حجب الزمان فيرى المسلمن من وراء أربعة عشر قرنا وقد استبدت بهم الأنانية فصار كل واحد منهم لا تعنيه إلا نفسه، فيرى الفساد ضاربا أطنابه فلا ينبس بكلمة ويمر بالمنكر يرتكب جهارا نهارا فلا يحرك منه ساكنا، يرى عمر هذا أو يلهمه، فعمر ملهم هذه الأمة وعبقريها بشهادة المعصوم "صلى الله عليه وسلم" وبشهادة القرآن الذي وافق رأيه في أشياء عدة وفي تشريعات كثيرة كما في آية الفداء وآية الخمر حتى قال عمر: "وافقت ربي في ثلاث.
يرى عمر- بعين عقله- ما سيئول إليه حال هذه الأمة فيصرخ هذه الصرخة ويزفر هذه الزفرة: "سيأتي على الناس زمان يكون صالحهم فيه من لا يأمر بمعروف ولا بنهي عن منكر فيقول الناس: ما رأينا منه إلا خيرا لكونه لم يغضب الله."
إنها لصرخة مدوية رهيبة لم تجد قلوبا واعية وهمما مستجيبة، كما وجدت
صرخته لسارية أن يعتصم بالجبل فكانت الدواء الشافي لأنها كانت الدعاء المستجاب من أولئك الجنود البسلاء.
إن في كلمة عمر العظيم لتنبيها إلى دائنا الخطير وهو فقدان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي جعله الله سبب عزة هذه الأمة ومناط فضلها على سائر الأنام إذ قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ولو عرف المسلمون قدر هذه الآية لعرفوا أي أمة هم، ولعملوا ما تقتضيه منهم بل لاتخذوا يوم نزولها عيدا لهم، كما اتخذ النصارى يوم نزول المائدة عيدا لهم، وشتان بين نزول مائدة طعام، ونزول آية تعلن فضلنا على سائر الأنام.
إن الله اذ منح هذه الأمة هذا الدين العظيم الذي ختم به الأديان وجمع فيه من وسائل الإصلاح والتقدم والعمران، ما يصلح عليه أهل كل زمان، قد وضع في يديها مجد الحياتين ومفتاح السعادتين، وبذلك جعلها خير أمة أخرجت للناس، ولكن هذه الخيرية قد أناطها الله بطرفي آخر لا بد منه، هو القيام على حراسة هذا المجد وحفط هذا المفتاح، هو العمل بتعاليم هذا الدين والآنقياد لأوامره ونواهيه، ليكون الفضل مكتسبا وموهوبا معا، بل إن الفضل الصميم الذي يستحق التنويه والتعظيم هو ما أكتسبه الشخص بجده وكفاحه.
والدعامة التي تحفظ هذا الدين ويقوم عليها بناؤه المتين هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أحتاط الإسلام لذلك فأناط به شرف هذه الأمة وجعله واجبا على كل فرد فيها إذ قال الله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} وليرى المسلم أن في المحافظة على واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو دعامة دينه محافظة على [
…
] عند الله كما أن في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دافعا قويا للدعاة إلى العمل بهذا الدين الذي يدعون إليه، إذ يستحي الداعي إلى شيء أن يخالف ما يدعو إليه، والله تعالى يقول:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} ولا أحكم ولا أقوم من هذا التشريع، فالإسلام إذ يلزم المسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجعله مقيدا بالعمل به، وفي ذلك حفظ للدين في أتباعه ومخالفيه على السواء.
إذن- فشرف هذه الأمة وفضلها على الأمم قائم على بقاء هذا الدين في العمل به والدعوة إليه، ولكن المسلمين اليوم لم يعملوا بدينهم فضلا عن أن يدعوا إليه، ومن ثم خرجوا من فردوس السعادة الذي كانوا فيه، وحكم الله فيهم من كانوا تحت
حكمهم، وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، وغضب عليهم فلم يقبل دعاءهم وكفى بهذا عقابا لهم وحق عليهم بذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يسجاب لكم".
وا أسفاه على هذه الأمة! إختار الله لها خير وظيفة في الدنيا، وهي وظيفة الأنبياء، وهي الدعوة العامه إلى الخير العام، فلم تعرف قيمة ما بيدها، ولم تجعل من كفاح نبيها في هذا الميداين خير قدوتها، وكتابها يستصرخها بقوله:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ولكن كيف تقتدي بنبيها وهي لا تلتفت إلى تاريخه:
"وإذا فاتك التفات إلى الما
…
ضي فقد غاب عنك وجه التأس"
لقد أمضى نبيها صلى الله عليه وسلم كل عمره مكافحا في هذا السبيل بلسانه وبحسامه وبسلوكه، كان المثل الأعلى للداعية المسدد الموفق بخير ما تحتمله كلمة داعية من معنى، وبفضل هذا الجد والحرص والتفاني في الدعوة، عم نور الإسلام أكثر بقاع الأرض.
ولكن المسلمين اليوم أنطووا على أنفسهم وأشتغل كل منهم بخويصة نفسه،
وأذكر أني عتبت يوما على صديق تقصيره في هذا الباب فأجابني بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فقلت له: أعيذك أن يكون فهمك لكتاب الله هذا الفهم، فإن القرآن لا يناقض بعضه بعضا، فكيف يأمر بشيء ثم ينقضه؟ أنسيت {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} الآية المتقدمة؟ أنسيت {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ؟ أنسيت {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} ؟ ثم كيف يناقض صلى الله عليه وسلم القرآن الذي أنزل عليه وهو يأمرنا بتغيير المنكر فعلا لا بالنهي عنه فحسب، إذ يقول:"من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" ويجعل هداية ضال واحد غنيمة كبرى إذ يقول: "لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم"؟
أما هذه الآية التي تحتج بها لسكوتك عن الباطل فقد أحتج بها أناس آخرون قبلك ولكنهم لم يفلحوا ولذا روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: "يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: "{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} على غير وجهها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه".
أيها المسلمون: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل فرد في هذه الأمة لا يختص به واحد دون آخر، للنصوص الصريحة المتقدمة ولقوله صلى الله عليه وسلم:"ليبلغ الشاهد منكم الغائب" ولأن في ذلك قطعا لدابر الفساد، فإن ما وقع فيه المجتمع الإسلامي من إنحطاط في الخلق وانحراف في السلوك وانصراف عن تعاليم الإسلام، يرجع كله إلى عدم المبادرة بمقاومة الشر، بالنهي عن المنكر كلما حدث شر وهو معنى قوله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} . وأنتم إيها الطبقة الخاصة: المسؤوله بصفة خاصة، بما ميزكم الله به من علم ومعرفه بتعاليم الإسلام وبطرق الإقناع أنفضوا عنكم غبار الكسل والأنانية واليأس وأنقذوا أمتكم مما هوت إليه من دركات الشقاء والإنحطاط، ولكن لابد من سلاح لهذا الكفاح، سلاح من قوة الإرادة، وسلاح من نقاء الضمير، وسلاح من طهارة السلوك، فإنكم في عصر الإلحاد والإباحية والعلم أيضا، العلم الذي كثيرا ما أستخدم في مقاومة الحق وتأييد الباطل، وأقوى سلاح في هذه الأسلحة، أن تعملوا بما تدعون إليه، فإن الناس يسمعون في هذا الباب بعيونهم، أكثر مما يسمعون بآذانهم، أي أنهم ينظرون إلى عمل العالم أكثر مما يسمعون إلى قوله، ولهم الحق في ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقي في النار فتندلق أقتاب بطنه (أي تخرج أمعاؤه) فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان: ما لك، ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر؟ فيقول: بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهي عن المنكر وآتيه" فكونوا أيها العلماء حجة للدين ولا تكونوا حجة عليه.