الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سعة الأفق
لا شيء يقف في طريق النجاح كضيق الصدر، ولذا كان من أعظم ما أمتن الله به على نبيه صلى الله عليه وسلم أن شرح صدره، ليصبر ويتحمل فينجح في مهمته العظمى:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} ، هكذا {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} وأي ذكر رفعه الله كذكره صلى الله عليه وسلم الذي قرنه الله بذكره، كلما أذن مؤذن، وأقام مصل؟ وأي ذكر، ورفعة قدر، كأن تكون كلمة الشهادة مركبة من جملتين، لا يقبل إسلام أحد إلا بالنطق بهما معا هكذا:(أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله)؟ وأن تكون هذه الكلمة:- أشهد أن محمدا رسول الله- آخر مما يطبق عليه المسلم فاه، إذا ودع دنياه؟
وإنما رفعة الذكر، وعظم القدر، من انشراح الصدر، الذي أوجد له صلى الله عليه وسلم الأتباع والأنصار، في كل زمان ومكان، ولو كان حرج الصدر، ضيق الأفق، لانفض الناس من حوله، كما قال تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ، ولكن الله حبا محمد صلى الله عليه وسلم من سعة الصدر ما جعل سبعمائة مليون من المسلمين (1) تهتف باسمه في كل يوم خمس مرات.
وإن الله إذ يمن على محمد صلى الله عليه وسلم سعة قلبه، ورحابة صدره، ليلفت نظرنا إلى أن أصحاب الدعوات، وقواد الحركات، لا يحتاجون إلى شيء كما يحتاجون إلى صدر رحب وقلب كبير، يسع الناس جميعا، وأي دعوة أضخم وأوسع، وأي عبء أثقل وأفدح كالرسالة؟ ولا سيما إذا كانت عامة كرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
(1) كان هذا العدد منذ 26 سنة.
وقد أدرك موسى- قبل محمد صلى الله عليه وسلم عظم التبعة التي ألقيت عليه وخطورة المهمة التي كلف بها، فسأل ربه أن يعينه عليها وييسرها له بانشراح الصدر، وأتساع أفق النفس:{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي .. } وإنها لدعوة شاملة تتجة كلها في خط واحد: إلى ما يعين على القيام بهذا العبء الباهض: قوة جنان، وفصاحه لسان، ومستشار ناصح من الإخوان، إن هذه الأدوات ما اجتمعت لدعوة من الدعوات، إلا كان النصر حليفها، والفوز أليفها، وحبات القلوب تنجذب إليها.
وقد استجاب الله لكليمة دعوته، وآتاه بغيته، يشهد لذلك الواقع التاريخي الذي لا يكذب، إذ أظهره الله على ذلك الطاغية الجبار الذي لم يعرف مثله تاريخ البشرية الطويل، وهو فرعون الذي لم يجد ما يرضي طموحه، ويشبع غروره، إلا أن يرتفع فوق مستوى البشرية ويدعي الربوبية ويقول:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ، بل لا يرضيه إلا أن ينفي الربوبية عن غيره ويدعي انفراده بها ويقول:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، كبرت كلمة، وعظمت فرية.
كما يدلنا منطق الآية الصريح إذ يقول- بعد الآية المتقدمة-: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} .
إذن هذا هو السلاح، إنه الصبر في دنيا الكفاح، إنه سعة الصدر، ورباطة الجأش، وثبات القدم، إنه قوة الإيمان، ونصاعة البيان، وفصاحة اللسان، وهذا ما يريد الإسلام، أن يسلحنا به من إيراد قصة موسى عليه السلام، وهو ما تقوم عليه دعوة جمعية العلماء، بهذه الديار.
إن دعوة جمعية العلماء- سدد الله خطاها- تقوم على تكوين مجتمع إسلامي أصيل يتسلح أفراده بالعقيدة الصحيحة، والخلق النبيل، وتترابط أجزاؤه بالتضامن والتشاور، وتتعامل أسره وطبقاته، بالحب والتآخي، وحسن الجوار، وبذلك تصبح الأمة وحدة قوية متماسكة، تصمد لعوادي الزمان، ونبوات الظلم والطغيان، فموسى لم يتغلب على فرعون بقوة جند أو سلاح، وإنما تغلب عليه بمثل هذا السلاح.
وجمعية العلماء- لرشدها- تؤمن بأن استقلال الشخصية، أولى الخطوات في طريق الإستقلال، لذلك تعطى لمقومات الإسلامية أكبر اهتمامها، ولا تقيم أي وزن لاستقلال لا تصلا إليه الأمة إلا بفقدان شخصيتها، واندماجها في غيرها، وإنما هي تقيم استقلالها على الأسس الصحيحة للشخصية الإسلامية من لغة ودين وتاريخ وعادات.
وبعد، فلا ننسى مما صدرنا به الفصل، من أن انشراح الصدر، خير نعمة وأفضل أداة للنجاح في الحياة، وإذا كانت الحياة الرخية السخية لا تتم إلا بالتعاون، فإن انشراح الصدر من أفضل الوسائل لكسب الأعوان والأنصار بل ما تزال سعة الصدر توسع دائرة الأصدقاء وتكثر عددهم، حتى تكتسح كل شبح للعداوة، ولا يبقى يرف في الأفق إلا روح الصداقة الكاملة، والأخوة الشاملة، وذلك ما يهدف إليه الإسلام في تعاليمه السمحة السامية، وعندما يبلغ العالم هذه الغاية ستطيع أن نقول: إن الإنسانية بلغت رشدها، وقضت من الحضارة وطرها ..
فليتذرع المسلم بهذه الوسيلة، إلى غايته النبيلة، وليتذرع بهذه العدة فهي- وحدها- بكل خير كفيلة، وليتخلق بسعة الصدر، ومرونة الخلق، إن أراد أن تكثر أعوانه، ويلتف حوله إخوانه، وينتفع بما ورد:(من نعم عوده، كثفت أغصانه)، وما أحكم ما فاه به الإسكندر - عندما قيل له-: بم نلت هذه الملكة العظمى- على حداثة سنك- إذ قال: نلت ذلك باستمالة الأعداء، وتصييرهم بالبر والإحسان أصدقاء وتعاهد الأصدقاء بأعظم الإحسان وأبلغ الإكرام.
وإذا كانت في التخلق بهذا الخلق ما يشق على النفس، فلنذكر المثل الحكيم:
(لن تنال ما تحب إلا بالصبر على كثير مما تكره).