الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عقبى الظالمين
إن بناء يقوم على الظلم هباء، وإن ارتقاء على جماجم القتلى لا يقال له
ارتقاء، وإن ملكا يجمع من السلب والنهب واللصوصية ليس له بقاء.
ذلك لأن "الظلم مرتعة وخيم" فإذا نبتت النفوس في تربة الظلم وعاشت
في جو الظلم وتغذت من دماء المظلومين فإن هذه النفوس تخرج إلى الدنيا حاملة معها جراثيم الفناء التي تستأصلها، فلا عجب- إذن- أن تكون عاقبة الظالمين شر العواقب، ولا عجب أن نرى القرآن مفعما بذكر مصارع الظالمين وعواقب الطغاة السيئة، فيذكر مساوئهم ومظالمهم وما كسبت أيديهم، ثم يعقب بذكر عواقبهم ومصائرهم، وهي انقراضهم وذهاب ريحهم، وخراب بيوتهم،:{فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} . ولذا لما طلب أبو جعفر المنصور من عمرو بن عبيد أن يعظه لم يجد في ذلك مادة أخصب ولا أوثق من القرآن فقال: نعم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} .
وفي المثل: الظلم آخر مدة القوم:
وفي الحديث: "ثلاث دعوات مستجابات، دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده، ولذا يقول الشاعر:
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا
…
فالظلم آخره يأتيك بالندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه
…
يدعو عليك وعين الله لم تنم
وإذا كانت هذه عقبى الظالمين {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} فإن الغالب
في الشر مغلوب كما في المثل، "ولا يجني جان إلا على نفسه" كما في الحديث، {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} كما في كتاب الله. فماذا جنى الظالم إذن؟ إذا كان ظلمه يسبب هلاكه فهو لم يظلم إلا نفسه، لذلك يعقب الله على إهلاكه للظالمين غالبا بمثل قوله:{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
فلا يفرح الظالون ولا تطمئن بهم المضاجع ولا تقرأ عينهم بما استولوا عليه بالسلب والنهب وسفك الدماء، فإنهم إلى تباب، وإن ملكهم إلى زوال و {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} . وإن النعمة تدوم مع الكفر ولا تدوم مع الظلم كما يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فكيف إذا أجتمع كفر وظلم.
ولا يستبد الأسى والجزع بالمظلومين، ولا تذهب نفوسهم حسرات فإن الله
لابد- إن ثبتوا وصبروا - ناصرهم ومؤيدهم ومستجيب دعائهم.
وإن الله في قضائه حكمة هو مجريها، وإن الحياة ابتلاء، وأشد أنواع الابتلاء ينزل بالمؤمنين {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} . لأن في هذا الابتلاء تربية لنفوسهم وشحذا لعزائمهم، وإعدادا لملمات الحياة التي تنزل بهم، فالابتلاء الذي ينزل بالمؤمنين مضاعفا ليس شرا محضا كما يتبادر إلى ذوي العقول البسيطة وإنما يتضمن الدرس العملي والإعداد الصالح المباشر لخوض معمعة الحياة، وليس في الحياة خير محض، ولا شر محض، كما يقول الفلاسفة، وإنما من طبائع النفوس الأبية أنها تأنف الضيم وتكره الظلم، ولا تكاد تسيغه، ولكن الله يمهل الظالم ولا يهمله كما ورد في بعض الآثار وهو معنى ما ورد في بعض الكتب المنزلة: "لا يغتر الظالمون بتأخير العقوبة فإنما يعجل العقوبة من يخشى الفوت، وإن في تأخير عقوبة الظالمين إبلاغا في الحجة وقطعا للمعاذير وهو معنى قوله تعالى:{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} .
وإننا بهذه المناسبة لنذكر إخواننا المغاربة الذين يبتلون في سبيل حريتهم واستقلالهم، ويبدون من الصبر والثبات والشجاعة ما هو جدير بأمثالهم، ولا يسعنما إلا أن نعلن تضامننا معهم ونضم أصواتنا إلى أصواتهم ونرفع احتجاجنا ضد أعدائهم، ونسأل الله أن ينصرهم ويثبت أقدامهم ويكلل بالنجاح أعمالهم، {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} و {لَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} .