الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صور إنسانية تعرضها الآيات القرآنية
(1)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} .
تعرض هذه الآية صورة المؤمن الذي يهب نفسه لله، فليس له حركة ولا سكون ولا نطق ولا سكوت، إلا فيما يرضى الله، ولا يقف مال ولا ولد ولا أهل ولا وطن في طريقه إلى الله، لأنه وهب نفسه لله، إذ نزلت هذه الآية في سيدنا صهيب بن سنان الرومي لما ترك كل ماله من أهل وولد ومال في مكة، وهاجر إلى المدينة مضحيا بكل ذلك في سبيل عقيدته ودينه، ولما خرج عليه المشركون في أثناء الطريق وأخذوا في تعذيبه ليرتد عن دينه قال لهم: إني شيخ كبير لا ينفعكم إن كنت معكم ولا يضركم إن كنت عليكم فخلوني وما أنا عليه وخذوا مالي، فقبلوه منه وأتى المدينة.
(2)
وهذه صورة إنسان وهب نفسه للشيطان فقد جعل دأبه وقصاراه كل ما فيه إضرار بالناس، ولكنه يظهر للناس على غير حقيقته، فهو يبش في وجوههم إن لقيهم ويلين لهم في قوله إن حدثهم، حتى إذا صادف منهم غرة ووجد منهم غفلة فتك بهم فتك الجراثيم فأهلك الحرث والنسل، ولكن هذا النوع وإن أخفى حقيقته فقد جعل الله له علامة تظهر أمره للناس، تلك هي غيرته على الباطل وانتصاره للمنكر وغضبه للشر:{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} والعزة هنا الحمية والغيرة،
وبالإثم، أي على الإثم، لذلك لا يقبل كلمة: اتق الله، التي هي ملاك الأمر كله والتي قال عمر رضي الله عنه لمن قالها له: لا خير فينا إذا لم نقبلها، ولا خير فيكم إذا لم تقولوها، والآية نزلت في الأخنس بن شريق، إذ كان يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا المظهر الخداع ولهذا المنطق الخلاب فيأخذه الرسول على ظاهره- كعادته- فيكرمه ويجلسه بجانبه ولكنه إدا عاد من عنده أتي كل شر وفعل كل منكر، وفي إحدى الليالي بيت المسلمين فاحرق زروعهم وأهلك مواشيهم، وهما المراد بالحرث والنسل في الآية.
(3)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . هذا نموذج آخر يعرض في هذا الأسلوب الساخر، وأي موقف أدعى للسخرية كموقف عبد ضعيف ذليل من ربه يجادل بغير حق، ويحاجه بغير منطق ولا معرفة وفي غير حياء ولا خجل، ثم يظهر بين الناس شامخ الأنف، ثاني العطف ليستر ضعفه ويخفي جهله فيركب متن الغواية ويصد عن سبيل الهداية، فما جزاء هذا المتكبر على الله المتجبر على الناس إلا أن يذله الله ويرغم أنفه فيديقه الخزي في الدنيا وعذاب الحريق في الآخرة، ولا عجب فالآية في أبي جهل.
(4)
وهذا نوع من الناس يدخلون المنفعة الشخصية والربح المادي في كل شيء حتى في دين الله، فيتخده متجرا وموردا للمتاع العاجل ولذلك {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} وقد نزلت هذه الآية في يهودي أسلم فأصابته مصائب فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقلني، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الإسلام لا يقال.
(5)
…
!
هذه صورة المناة قين الذين عدموا بعد النظر فكفروا وعدموا الشجاعة فتستروا آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم، وليس هذا بإيمان، وإنما الإيمان ينبع من القلب، ولذلك رد الله عليهم بقوله:{وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} ولكن من يخادعون بهذا؟ أيخادعون الله الذي يعلم سرهم ونجواهم؟ أم يخادعون المؤمنين الذين ارتفعوا فوق توافه دنياهم وسموا بأبصارهم إلى أخراهم ففازوا بهما جميعا؟ كلا! إنهم لا يخادعون إلا أنفسهم إذ لا يربحون من هذه المخادعة إلا خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وإن لم يشعروا بذلك {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} وإنما لا يشعرون لأن {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} وأولئك هم اليهود الذين أحدثوا بدعة النفاق في المدينة في فجر الإسلام وما يزالون إلى اليوم يدينون بها ويعيشون منها ويسيرون على ضوئها وذلك هو الفريق المراد بقوله تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} .
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} نزلت هذه الآية في أنس بن النضر رضي الله عنه روى البخارى ومسلم والترمذي واللفظ له عن أنس- قال: عمي أنس بن النظر - سميت به- ولم يشهد بدرا مع وسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر عليه فقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه! أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهدء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد من العام القابل فاستقبله سعد بن مالك فقال: يا أبا عمروا إلى أين؟ قال: واها لريح الجنة أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية، قال أنس: قالت عمتي الربيع بنت النظر: فما عرف أخي إلا من بنانه.
ونزلت هذه الآية: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} .
هذا هو النموذج الأسمى والمثل الأعلى الذي تتقطع دونه الأعناق، ولكن يبقى على الدوام، هو الفريق القليل في العدد الكثير في المعنى.
وهكذا الناس نماذج ومنازل وصدق رسول الله صلى عليه وسلم إذ يقول:
"الناس معادن كمعادن الذهب والفضة" فأحرص أيها المسلم على أن تكون دائما في المنزلة السامية والذروة العليا:
فما المرء إلا حيث يجعل نفسه.
ولا تيأس:
فلم أجد الإنسان إلا ابن سعيه
…
فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا
فلم يتأخر من أراد تقدما
…
ولم يتقدم من أراد تأخرا.