الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عودة الحجاج
عاد الحجاج، ولكن بأي شيء عادوا كما يقول زميلنا الشيخ عبد اللطيف
سلطاني في إحدى مقالاته؟ وهي كلمة لها أهميتها، وأرى أن يجعلها كل حاج نصب عينيه، لأن الأعمال بالخواتم كما قال عليه الصلاة والسلام، بل إنه ليقول:(لا تنظروا إلى عمل عامل حتى تنظروا بم يختم الله له).
إن زيارة بيت الله الحرام وروضة رسول الله عليه الصلاة والسلام هي بمثابة
تجديد العهد لله ولرسوله بالرجوع إلى تعاليم الإسلام، أو هي بمنزلة التوبة تعلن في البقعة التي ثبت فيها الإسلام، وأشرقت عليها شمس الإسلام، فالرجوع بعد ذلك إلى الركض في ميادين المعاصي والمخالفات إنما هو كالنقض للعهد، والنكث للبيعة وهو أقبح ما يأتيه عاقل يعرف ما يأتى وما يدع، ويدرك ماله وما عليه، لأن هذا النكوص منه كالهدم بعد البناء والنكث بعد الغزل، والله تعالى يقول:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} .
وإن قول المؤمن لربه أمام بيته وقد تجرد من متاع الدنيا إلا مما لابد منه:
لبيك اللهم لبيك، هو- أيضا- كالبيعة في العنق، فكيف يقول بعد ذلك للشيطان: لبيك كلما دعاه إلى باطل أو أغراه بمنكر، غير ملتفت إلى ما أعطى من عهد وعقد مع الله من عقد، فيبطل بدايته بإفساد نهايته، والله تعالى يقول:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ؟
إن هذه الكلمة (بما عاد الحجاج)؟ كلمة في الصميم يجب أن يتخذها
المسلم الصميم شعارا لنفسه، ومقياسا لبني جنسه من هؤلاء الذين يعودون من حجهم.
بل إن كثيرا من حجاجنا يجب أن نقول فيهم بما ذهبوا؟ لأنهم- دون
خدش في كرامتهم- لا يعرفون ما هو الحج وما هي حكمته والغاية منه، وإن لما اتسم
به هذا العصر من تقريب المسافات، وتيسير الأسفار، وتهيئه الوسائل، ووفرة الأموال، لدخلا كبيرا في شدة إقبال الناس على الحج وليس ذلك- في اعتقادي- لتدين طرأ على الناس أو تقوى- ففي هؤلاء المتدفقين على الأراضي المقدسة كثير ممن لا يقيم الصلاه المكتوبة، بل إن فيهم من يذهب لتحقيق غرض سخيف، وهو أن يوسم بلقب حاج، وليس هذا مجرد ظن فإن الظن لا يغني من الحق شيئا، بل إنني لقيت أحد الحجاج ممن أعرفهم لا دين لهم فسألته: عما ذهب به إلى الحج؟ وإذا به يفاجئني بقوله: لا غرض لي من الحج إلا أن أتسم بلقب حاج، فياخيبة المسلمين ويا ضيعة الجهود، إذا كانت كلمة (حاج) هي الغاية من جوب القفار وخوض البحار والتعرض للأخطار ومفارقة الديار، وهناك طائف من الوهم يستحوذ على كثير من الناس فيدفع بهم إلى الحج بعد أن يبيعوا كل ما يملكون، وهو أن من حج خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فترى الرجل يطلق لشهواته العنان ويتحالف مع الشيطان فيجري معه في كل ميدان، معتقدا أن ذلك كله يتطهر منه بحجة في آخر عمره، وهذا وإن وردت فيه آثار فليس هو كما يفهم الناس، وإلا كان دين الله لهوا ولعبا، وإباحية مطلقة، وهذا يذكرني بذلك الماجن الخليع الذي قيل له: كيف أنت في دينك؟ فقال: أخرقه بالمعاصي وأرقعه بالاستغفار.
إن الحج أعظم فرصة يتيحها الإسلام للمسلم لو عرف كيف يستفيد منها
كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} من قوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} الآية.
ومن أعظم هذه المنافع وأقواها أثرا في توجيه المسلم تنبه الذاكرة فيه، فيلتفت إلى ماضيه ويذكر ما كان عليه ويقارنه بما صار إليه، كيف صار اليوم عبدا وقد كان بالأمس حرا، كيف أصبح ملكا وقد كان مالكا، كيف أمسى مثال الضعف وقد كان مثال القوة، وفي ذلك ما يحمله على طلب الأسباب والبحث عن الوسائل ومنها اجتماعه بإخوانه في دينه الذين ياتون من بلدان بعيدة والذين لا يتيسر له لقاؤهم في غير هذه المناسبة العظيمة فيتفاوضون فيما يهمهم ويتبادلون وجوه الرأي ووجهات النظر فيما يعيد للمسلم عزته وللإسلام دولته وللعالم استقراره.
ومنها تقوية رصيد الإيمان وتغذية الحس والوجدان وتلقيح الأفكار والأذهان
بتلاقى تلك الطوائف المختلفه وتحاكك تلك المواهب المتفاوتة، وتفاعل تلك البيآت المتنوعة.
فيا حجاجنا الكرام، ووفود بيت الله الحرام: إنكم قد رجعتم من تلك البقاع الطاهرة ومواقع الأقدام الطاهرة من رسول الإسلام وصحبه الكرام الذين حملوا النور إلى دنيا الظلام، واكتحلت جفونكم بغبار تلك التربة الكريمة التي نبت فيها الإسلام، فهل نبه ذلك من شعوركم وأيقظ من إحساسكم؟
وإنكم قد رافقتم في سفركم وعاشرتم في طريقكم إخوانا لكم مختلفي
الأذواق والمشارب، فهل انتفعتم بذلك في تلقيح عقولكم وترقية أفكاركم وتهذيب أخلاقكم؟
وإنكم قد ذهبتم بذنوب وسافرتم بعيوب، فنرجو أن لا تكونوا قد رجعتم بها.
بارك الله لكم في حجكم وجعله من أسباب فلاحكم.