الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طر في هذه الأجواء يا سحنون
لقد كنت ضيق الصدر من خلو البصائر من التوجيه الديني، وهي ميدانه وسوقه، ضيقا صرفني عن قراءة ما يكتبه الأستاذ أحمد سحنون، حتى وقعت في يدي الأعداد الأخيرة من جريدة البصائر فاجتذبني منها عنوان إلى قراءة ما تحته، فقرأت، فصادف مني هوى فأعدت قراءته ة فأثر في تأثيرا أجرى دموعي، تأثرا بالمعاني وفرحا بظفري بما كنت أنشده من النوع الحي المشرق المنتزع من مأثور السلف في أعمالهم وأقوالهم وأحوالهم.
وفي غمرة ذلك التأثر والإعجاب تناولت رزمة من البصائر كانت أمامي، وأعدت قراءة ما فيها من كلمات الأستاذ سحنون، قراءة وتأملا وموازنة، فازددت إيمانا بأنها صنف واحد في الإصابة وحسن التنزيل، وعمق التحليل لأمراضنا النفسية وعلاجها بأخلاق أسلافنا الطاهرين التي ملكوا بها أنفسهم أولا، وملكوا بها الكون ثانيا.
هذا هو الدواء الذي جرب فصح، ولا تجربة أصح من هذه الأمة التي تسمى (العرب)، فقد كانت على أسوإ ما تكون عليه الأمم، فجاء الإسلام بعقائده وأخلاقه فنقلها في لحظ العين من عمر الأمم من ذات الصدع إلى ذات الرجع، لأنه عالج أمراضها بهذه الأدوية، فاشتفت وشفت العالم، واهتدت وهدت الناس، وحكمت القرآن في أنفسها، فحكمت الدنيا بعدله وإحسانه.
وليست الجزائر اليوم في حاجة إلى أدب الدرس، وإنما هي في حاجة أكيدة إلى ثوره -كتلك التي- عصفت بالبدع في أوائل حركة جمعية العلماء -تستأصل عيوب النفس وتطهرها من الرذائل، وفي مقدمتها الذبذبة والأنانية والغرور والخور
والاستكانة والجبن والكسل والتحلل، ثم تغرس في نفوس أضدادها من الفضائل حتى ينشأ جيل مسلم متسلح بالأخلاق المتينة القويمة، فينشئ بها حياة جديدة عزيزة منيعة، ولا سبيل إلى ذلك إلا التربية الدينية والرياضة الروحية من طريق التعليم المدرسي الأول ثم المحاضرات الجامعة المتكررة والدروس الأخلاقية المنظمة والخطب الجمعيه ثم المقالات.
أعجب العجب أن تكون عندنا هذه الهداية ونضل، ومعنا هذا الدواء ونمرض، ولكن ماذا ينفع المريض إذا كان الدواء في رحاله ولم يستعمله؟ وكذلك حالتنا، إن معنا القرآن ولكننا لا نفهمه فإذا فهمناه فلا نعمل به، ومعنا سيرة محمد صلى الله عليه وسلم ولكننا لا نستغلها، ومعنا هذه الكنوز من كلام السلف وأعمالهم وآثار أعمالهم، ولكنا لا نقتدي بهم فيها، وإن في إشارة الأستاذ سحنون لها على هذا النحو من التحليل والتنزيل لبشارة بأنه ما تزال فينا بقيه تهدي، وستكون من ورائها بقايا تهتدى، إن الخير هو وجود رأس المال وخير الخير أن يستغل، وكمال الخير أن يعرف صاحبه كيف يستغله، وكيف يتصرف فيه وأين يضعه.
لقد قام الفوج الأول من رجالنا الذين شيدوا جمعيه العلماء بهدم الضلال والباطل هدما شغلهم عن كل شيء، ولكنهم قاموا بالك ومعهم زاد عظيم من الذخائر الخلقية الإسلامية تعاون على تثبيتها فيهم الفطرة السليمة والتلقين المحكم، ولو اعتمدوا على علمهم الغزيز وبيانهم البليغ وحدهما لما نجحوا في هدم الضلال العريق والبدع المستحكمة، أما هذا الجيل الناشئ في معمعان الحركة فقد فتح عينيه في غبار المعركة، وشهد مراحل الإنتصار ولكنه لم يفقد أسباب النصر وأسلحته النفسية، فظن أن ذلك الهدم هو الغاية وأن معاوله هو العلم والبيان، فالتفت اليهما وسعى في تحصيلهما، وغفل عن السلاح الحقيقي للهدم والبناء معا، وهو قوة الروح ومتانة الأخلاق واستكمال الفضائل، وإن الهدم ليس مقصودا إلا للبناء، وإن البناء لا يتم إلا بوسائله الصحيحة وأدواته، وإن القدوة على الهدم ليست دليلا على القدرة على البناء، وإن أسلافنا ما أعلوا ذلك البناء الشامخ للإسلام إلا بعد أن بناهم الإسلام على فضائله وطبعهم على أخلاقه وهيأهم للاستخلاف في الأرض.
ولهذه الغفلة عن هذه المعاني قل نصيب هذا الجيل منها، وأخشى أن تؤدي الغفلة عنها إلى ضعف فيها، ويؤدي الضعف إلى تحلل وانهيار، ونكون قد هدمنا باطلا ولم نبن حقا، بل نكون قد هدمنا الباطل والحق معا، وهي أخسر الصفقات.
من أمهات الفضائل التي يحض عليها الإسلام المحبة الملتزمة للتعاون، بل هي نقطة البدء في التربية الإسلامية، وتتشعب منها الرحمة والرفق، وقد أمر المسلم بمحبة أعدائه ومن محبتهم إرادة الخير لهم، ومحبة الحيوان الأعجم، ومن محبته الرحمة له والرفق به وأين حظنا من هذا؟ الذي نراه ونلمس آثاره آسفين محزونين هو أننا كدنا نفلس في هذا الباب، -باب المحبة- إفلاسا تاما، ومن أفلس في أصل أفلس في فروعه والمحبة سائق عنيف يسوق النفوس بعضها إلى بعض ثم يسوقها جميعا إلى الخير، فإذا فقدت النفوس هذا السائق ساقها الشيطان إلى مثل ما نحن فيه من الشر والتخاذل والهلاك.
أما كلمة المحبة التي تتردد على ألسنتنا وتكتبها أقلامنا فهي كلمة فارغة من معناها، فهي كاذبة، لأنها لم تأت بشهودها من التعاون والنتائج، ولا بلوازمها من الإيثار والإحسان، فأصبحت جوفاء عادية مثل كلمة:(بخير) و (صباح الخير).
ونحن في حاجة إلى تربية نفوسنا وأبنائنا وأهلينا على الفضائل الإسلامية بعد تربيتهم على العقائد الإسلاممة، وما العقيدة إلا أساس يمسك البناء أن ينهار، أما مصدر النفع والآنتفاع فهو ما يرفع على الأساس من مرافق. وأنا حين أسجل حزني وتطيري من التدهر الأخلاقي الذي أشاهده - أسجل اغتباطي بما قرأته للأخ سحنون وأعتبره من الأغذية الصالحة والأدويه النافعة، وأعده بداية يجب أن تتسع، وواجبا يطلب التعاون، وطريقة مثلى في إحياء التأسي والاتباع بسوق الأمثلة وضرب الأمثال. فطر في هذه الأجواء الروحية يا سحنون، وعسى أن تكون هذه الكلمة شادة لعضدك حافزة لك على المزيد، ومازلت أذكر قولهم:
(البركة في سحنون)
…
الفضيل الورتلاني