الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نماذج من الحلم
وعدنا في المقال السابق بعرض نماذج من الحلم، ووفاء بالوعد نعرض النماذج التالية:
كان صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في ذلك، روت عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى عليه وسلم منتصرا من مظلمة ظلمها إلا أن تنتهك حرمة من حرم الله سبحانه، سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما قوله تعالى:{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارً} فقال: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، ما أحلمك وأكرمك، لقد دعا نوح على قومه فأهلكوا ولو دعوت علينا لهلكنا عن آخرنا، فلقد وطئي ظهرك وأدمي وجهك وكسرت رباعيتك وقيل لك: ادع عليهم، فأبيت أن تقول إلا خيرا وقلت: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، ولما أظفره الله بأهل مكة- بعد أن فعلوا به ما فعلوا من قتل أصحابه وعمه وتمثيلهم به وتحزبهم عليه لم يزد على أن عفا عنهم وقال: ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء.
وبهذه الرحمة التي تستأصل جذور الشر من النفس استطاع أن يتغلب على
جفاء الأعراب وجاهليتهم وينجح في دعوته وبسط سلطانه على النفوس ونفوذه على القلوب وهذه شهادة القرآن الخالدة: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ثم ليتأمل قوله بعد ذلك: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} فإنه يقره على هذا الخلق ويدعوه إلى تأكيده بطلب
العفو من الله لهم ثم بتأكيده أخيرا بأن يشركهم في أموره العامة بمشاورتهم وأخذ رأيهم، بل لقوة أثر هذا الخلق في تكوين الشعوب ومعالجة نفوس الأفراد لا يكاد يذكر صلى الله عليه وسلم في القرآن إلا مقرونا بوصفه، والقرآن مليء بالشواهد.
وقال رجل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: لأسبنك سبا يدخل معك قبرك، فقال
له أبو بكر: بل يدخل معك قبرك أنت. وسب رجل أبا العيناء فلم يجبه فقيل له: كيف يسبك وأنت ساكت؟ قال: لا أدخل حربا المغلوب فيها خير من الغالب، وهذا المعنى اللطيف قريب من قول القائل:
وإنك قد ساببتني فغلبتني
…
هنيئا مريئا أنت بالسب أحذق
وخطب عمر بن الخطاب يوما فقال: أيها الناس إن رأيتم في اعوجاجا فقوموني، فقال رجل: لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا، فلم تأخذ عمر العزة بالإثم وإنما قال: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقوم اعوجاج عمر. وأسمع رجل عمر بن عبد العزيز كلاما قبيحا فقال عمر: لا عليك، إنما أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غدا فانصرف غفر الله لك ورحمك، فانصرف وهو يقول:
لن يدرك العز أقوام- وإن كرموا
…
حتى يذلوا- وإن عزوا- لأقوام
ويشتموا فترى الألوان كاسفة
…
لا صفح ذل ولكن صفح أحلام
ولما حبس معاوية عن الناس أعطياتهم قام إليه أبو مسلم الخولاني وهو يخطب فقال: يا معاوية إن هذا المال ليس لك ولا لأبيك وأمك فلم حبست عن الناس أعطياتهم؟ فغضب ثم نزل فدخل وأومأ إلى الناس: أن أثبتوا ولا تتفرقوا ثم خرج فعاد إلى المنبر وقال: أيها الناس: إن أبا مسلم الخولاني قد قال ما قال فوجدت لذلك وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا غضب أحدكم فليغتسل، وصدق أبو مسلم فاغدوا على أعطياتكم فخذوها على بركات الله.
ولا عجب فمعاوية كان داهية لا يجاري وكان حلمه أحد أدات هذا الدهاء
وكان يقول: إني لألقى الرجل أعلم في قلبه علي ضغنا فأستثيره فيثور إلى منه بقدر ما في نفسه فيوسعنى شتما وأوسعه حلما حتهما يعود صديقا أستنجده فينجدني، وقسم
يوما قطائف فأعطى شيخا من أهل دمشق قطيفة لم تعجبه فحلف أن يضرب بها رأس معاوية، وجاء فأخبره فقال له؟ أوف بنذرك وليرفق الشيخ بالشيخ.
وأدرك وجل الأحنف بن قيس في الطريق فجعل يسبه أقذع السب وهو يماشيه فلما قربا من الحي وقف الأحنف وقال: يا أخي إن بقي لك شيء من السب فقله هاهنا فإني أخشى أن يسمعك فتيان الحي فيؤذوك، والأحنف مضرب المثل في الحلم، قال أبو تمام:
إقدام عمر في سماحة حاتم
…
في حلم أحنف في ذكا إياس
وكان خاله قيس بن عاصم مثالا عاليا كذلك في الحلم والصفح وهو الذي
قال فيه صلى الله عليه وسلم لما وفد عليه مسلما: أتاكم سيد أهل الوبر. وقال فيه أحد الشعراء وقد مر على قبره:
عليك سلام الله قيس بن عاصم
…
ورحمته ما شاء أن يترحما
سلام امرىء غادرته غرض الردى
…
إذا زار عن شحط بلادك سلما
فما كان قيس هلكه هلك واحد
…
ولكنه بنيان قوم تهدما
وسئل الأحنف: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من خالي قيس بن عاصم، ولقد كنا نتردد إليه لنتعلم الحلم كما كنا نتردد على العلماء لنتعلم العلم، ويروي الأحنف نفسه فيقول: كنا يوما عنده وهو جالس يحدثنا فإذا بجماعة قد أتوا بقتيل ومكتوف فقالوا له: إن هذا ابنك قد قتله أخوك هذا فوالله ما قطع حديثه ولا حل حبوته حتى فرغ ثم أنشد:
أقول للنفس تأساء وتعزية
…
إحدى يدي أصابتني ولم ترد
كلاهما خلف من فقد صاحبه
…
هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
ثم التفت إلى إبن له آخر وقال: يا بني أطلق عمك، ووار أخاك، وسق إلى
أمك مائة من الإبل دية ولدها فإنها عربية فيكم.