الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الهدية
(تهادوا تحابوا)
يحرص الإسلام كل الحرص على ما يثبت المحبة في القلب ويشيع روحها في المجتمع، لأن أمة لا يربط بين أفرادها رباط المحبة، هي أمة مضعضعة البناء، مفككة الأجزاء، لا تثبت على رياح الخطوب وعواصف الأحداث، وأي بناء يبقى على البغضاء؟ وأي مجتمع يسلم على العداوة؟ وأي قلب يصلح على الكراهية والحقد؟.
إن الإسلام دين الفطرة، فهو يبني أسس المجتمع الصالح على ما لا يتصادم مع الفطرة، والمحبة هي الصخرة الثابتة التي قام عليها عمران الكون الذي يبدأ بذكر وأنثى ربط بينهما رباط المحبة، وقد شعر شوقي رحمه الله بهذا المعنى إذ قال:
فطر الله على الحب الورى
…
وبنى الكون عليه وعمر
وأجمل صفة يتصف بها عباد الله وأعظم صلة تصلهم بالله، هي المحبة، لذا يقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} .
ولكن المحبة- لشرفها- لا تتطفل على الموائد وإنما تقوم على الأسباب والوسائل، لذا فالإسلام يدعو إلى كل ما يغرس المحبة في القلوب، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"تهادوا تحابوا" أي ليهد بعضكم إلى بعض ليحب بعضكم بعضا، وفي قوله: تحابوا، لفتة ذهنية عجيبة، فهو يجعل المحبة هي الغاية وجعلها هي الغاية تشريف لها وأي تشريف، لأنها دعامة التعاون الذي هو أساس العمران، ولأنها تنفي من
من القلوب الإحن والأحقاد التي هي بذور الفتن والشرور، كما يقول عليه الصلاة والسلام في حديث آخر:"تهادوا فإن الهدية تضعف المحبة وتذهب بغوائل الصدر" وقد كان صلى الله عليه وسلم يهدي ويقبل الهدية ويكافيء عليها، حتى روي عنه أنه قال:"لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت" وقد أهدى إليه رجل من فزارة ناقة فعوضه منها فأبدى سخطه فصعد المنبر فقال: "يهدي أحدهم إلى فأعوضه بقدر ما عندي ثم يسخطه، وأيم الله لا أقبل بعد عامي هذا من العرب هدية إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي" وأهدي إليه المقوقس ملك القبط كذلك، وقد كان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس إهداء لأنه أعلم الناس بأثر الهدية، وهو شييوع المحبة ونموها في المجعتع وقد ظهر أثر ذلك بارزا فيمن أهدي إليهم، فقد روي أن صفوان بن أمية قال:(ما زال رسول الله يعطيني من غنائم حنين، وهو أبغض الخلق إلي حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه) وهناك الكلمة الطيبة الندية تفعل في ترطيب القلوب وتطهير المشاعر ما تفعله الهدية.
روى البخاري عن عمرو بن تغلب قال: "أعطى رسول الله قوما ومنع آخرين فكأنهم عتبوا عليه فقال: "إني أعطي قوما أخاف هلعهم وجزعهم، وأكل قوما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى، منهم عمرو بن تغلب" قال عمرو:(فما أحب أن لي بكلمة رسول الله حمر النعم) وهكذا يسع الخلق ما يضيق عنه المال كما قال عليه الصلاة والسلام: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم" بل إن القرآن يقول: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} والمتنبي يحوم حول هذا الجو إذ يقول: (فليسعد النطق إن لم يسعد الحال) وغاية الغايات في هذا الباب كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين التي يجب على كل مسلم أن يحفظها.
فقد روى أبو سعيد الخذرى قال: لما أصاب رسول الله الغنائم يوم حنين وقسم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم، ولم يكن في الأنصار شيء منها قليل ولا كثير، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى قال قائلهم: لقي- والله- رسول الله قومه- فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله فقال: يارسول الله إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك في أنفسهم، قال: فيم؟ قال: فيما كان من
قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب ولم يكن فيهم من ذلك شيء قال رسول الله: فأين أنت يا سعد؟ قال: ما أنا إلا أمرؤ من قومي فقال رسول الله: اجمع لي قومك في هذه الحظيرة، حتى إذا لم يبق من أحد إلا أجتمع له أتاه فقال: يا رسول الله اجتمع لك هذ الحي من الأنصار حيث أمرتني أن أجمعهم فخرج رسول الله فقام فيهم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: يا معشر الأنصار، ألم آتكم ضلالا فهداكم إليه وعالة فأغناكم الله وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى، قال، رسول الله: ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟ قالوا: وما نقول يا رسول الله وبماذا نجيبك؟ المن لله ورسوله، قال: والله لو شئتم لقلتم فصدقتم: جئتنا طريدا فآويناك وعائلا فآسيناك وخائفا فأمناك ومخذولا فنصرناك، فقالوا: المن لله ورسوله قال: أوجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار من أجل لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما أسلموا ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله في رحالكم؟ فو الذي نفسى بيده لو أن الناس سلكوا شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، اللهم أرحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.
فبكي القوم حتي أخضلت لحاهم وقالوا: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبرسوله قسما، ثم أنصرف وتفرقوا. فيا أيها المسلمون، هذا هو دواؤكم، إنه روح المحبة التي نفخها نبيكم في ذلك الهيكل البالي، فإذا به أمة قوية حطمت أسوار الطغيان والعبودية، ومحت معالم الشرك والوثنية بما شرعه لها من مبدإ الأخوة الإسلامية، فاحرصوا على عودة هذه الروح بتهيئة الجو الصالح لها فإن المحبة شجرة كريمة لا تنبت إلا في التربة الكريمة، أحرصوا على كل ما يبث روح المحبة بينكم من كلم طيب وخلق حسن وتهاد كريم وتعاون على البر والتقوى وعلى كل ما فيه تطهير القلوب من الحقد والبغضاء وسائر الأدواء ..