الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العيد
قيل لراهب: متى عيدكم؟ قال: يوم لا نعصي الله، ولا يبعد أن يكون هذا عيدا حقيقيا، فإن معصية الله تعطل حكمته، التي بنى عليها نظام الكون، وتسبب غضبه، الذي يفضي إلى شقاء البشرية. وإذا كان من معاني العيد الشعور بالفرح والسرور، فأي شيء أدعى للفرح وأبعث على السرور، كأن تنتصر على طغيان هواك، وتتغلب على جموح طبعك، وتحرز على رضا ربك، ومدبر أمرك؟ ومما يرمز إليه العيد- ولاسيما عيد الأضحى- من معان إنسانية، التضحيه، والتضحية في معناها الكامل الشامل هي الإيثار: إيثار أخيك على نفسك، وعقلك على هواك، ودينك على دنياك، أو بعبارة أخرى، إيثار مما فيه حسن العاقبة على ما فيه اللذة العاجلة، فتؤثر السماحة على البخل، والثبات على الفرار، والعفو على الإنتقام، والصبر على الجزع، والطاعة على المعصية، وبذلك تستكمل تهذيب نفسك، وسمو روحك، ووثاقة خلقك، ومتانة دينك.
وما أجل معنى الإيثار في العيد، وما أقل من يشعر بمعنى الإيثار في العيد،
لأن الذي وقر في نفوس الناس، وظاهرته سلطة العرف والعادة، أن العيد، ميدان لانتهاب الملذات، وإطلاق العنان للشهوات. ولكن المؤمن يجب أن يكون مرهف الشعور، شديد الآنتباه، فهو إذ يتصور محيا العيد الباسم، ومظهر أهل اليسار، وذوي الكفاف، يكسو وجوههم البشر، ويطفو على ملامحهم السرور، ويرنح أعطافهم الشعور بالسعادة، وثبت به ذاكرته، وانطلق به خياله، إلى أكواخ الفقراء، وجحور البؤساء التعساء، قد احتجبوا فيها عن الناس، حتى لا يزيدهم مظهر سعادتهم شقاء، ورؤية نعيمهم بلاء، وحتى لا يثيروا في النفوس، شماتة العدو،
ورثاء الصديق، ورثاء الصديق، كشماتة العدو، كلاهما يثير كامن الألم ويهيج ساكن الهم والحزن، وإذا بالعيد ينقلب في عينه حسرة وألما، ثم عطفا ومرحمة، ثم إيثارا ومكرمة. على أن هذا لا يعني أن الإسلام يحول دون التمتع طيبات الحياة، أو أن العيد يجب أن يكون مأتما، وإنما يجب أن تكون لنا نظرة فاحصة عميقة، لا تقف عند الظواهر، ولا تكتفي بصور مشهودة، عن صور محجوبة بل إن هذه الصور المشهودة، يجب أن تنبهنا، وتلفت أنظارنا إلى الصور المحجوبة، وإن هذه الوجوه الباسمة، يجب أن تذكرنا بوجوه أخرى عابسة، خصوصا وأن العيد مظهر عام لعظمة الأمة، فالشخوص المحتجبة يجب أن تظهر، ليكثر عدد الأمة في عين العدو فيبتئس، وفي عين الصديق فيغتبط، والوجوه العابسة يجب أن تبسم ليتحد مظهر الأمة، ويتحقق تضامنها، فيعلم الناس أننا أمة متحدة متضامنة، ذات كيان وشخصية، واستعداد لأن تعيد تمثيل الدور، الذي مثلته في عهدها الزاهر، فانتظم به سير العالم، وصلح عليه أمر الدين والدنيا، وشمل الناس منه عهد رخاء وصفاء وراحة البال، وفي ذلك ما يبعث على تقديرها واحترامها وأن يحسب لها حسابها ولاسيما في هذا العصر، الذي تسيره القوة، لا الحكمة، ويحكمه الأقوى، لا الأصلح، وتوجهه الشهوة، لا العقل.
فيا أيها المترفون، اذكروا الذين لا يجدون ما ينفقون، ويا أيها المعيدون اذكروا الذين عيدوا في السجون، ويا أيها الآباء الذين مازالوا يتمتعون باجتماع الشمل، ورؤية الأولاد والأهل، أذكروا اليتامى الذين أغتال الموت آباءهم، والأيامى اللائي حصد الرصاص أزواجهن، ويا أيها المسلمون جميعا، لا تخدعكم المظاهر والأزياء، وأمعنوا النظر في بواطن الأشياء، ولا تحسبوا أن أمتكم هي كل ما ترون، فإن من وراء ما ترون، من هذا العدد الضئيل، عددا ليس بالقليل، ممن عدم الكساء والقوت، ولفظته البيوت، ولم يبق إلا أن يموت، وأعلموا أن العيد، يجب أن يعم الأمة كلها وإلا فليس بعيد، وأي عيد لمن ينعم بالعيش الرغيد، ومن حوله إخوان له في جهد جهيد؟ وكيف ينعم بالعيد، من يرى أطفال جاره، الذي أبعد عنهم، دون أن يعلموا له رجوعا يقضون ليلهم يتضورون جوعا، ولا يذوقون هجوعا، وأذكروا كيف كان عيدكم الدنيا بأجمعها، إذ كان علمكم يرفرف على بقاعها بأجمعها، وما بلغتم ذلك، إلا بتضامنكم وتعاونكم، وعملكم بقول نبيكم: "المؤمن للمؤمن
كالبنيان يشد بعضه بعضا" وبقوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" واليوم!
"أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد
…
تجده كالطير مقصوصا جناحاه"
"ويح العروبة كان الكون مسرحها
…
فأصبحت تتوارى في زواياه"
ولكن تبدو على ملامح هذا العيد، مخايل عهد جديد، وتلوح في الأفق القربب- لا البعيد- طلائع مستقبل سعيد.
حقق الله الأمل، وأدني الرجاء، وأبدل المسلمين من ضيقهم فرجا.