الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طريق العظمة
مهداة إلى الدعاة
نذكر بهذا الشهر- شهر ربيع الأول- ميلاد مصلح البشرية الأعظم: محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فكلما استنشقنا نسيم هذا الشهر، شممنا في طياته عرف هذه الذكرى العطر، وأنعش أرواحنا عبيرها الزكي، فنجد لذلك يقظة في شعورنا، وقوة في عزائمنا، وانشراحا في صدورنا، وإيمانا بديننا، وتشبثا بآمالنا.
وقد تعودنا أن نأخذ من هذه الذكرى أعظم الدروس، وأبلغ العبر، وقد آثرت هذه المرة أن آخذ من هذه الروضة المعطار، زهورا عبقة الشذا، وأهديها إلى القادة والمصلحين في الأمة الإسلامبة، علهم يجدون فيها ما يجلب العزاء إلى نفوسهم، ويطرد اليأس من قلوبهم، ويزيح العراقيل من طريقهم:
خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوما إلى الكعبة ليصلي كعادته، فلما كان في الصلاة قال أبو جهل: من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام عبد الله بن الزبعرى فأخد فرثا ودما فلطخ به وجه النبي صلى الله عليه وسلم وظهره، فأتى عمه أبا طالب وقال: يا عم ألا ترى ما فعل ب؟ فقال له أبو طالب: من فعل بك هذا؟ فروى له الحادث، فتقلد سيفه ومضى مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى أي مجلس القوم، فلما رأوه قد أقبل قاموا له، فقال لهم أبو طالب: والله إن قام رجل جللته بسيفي هذا!
ثم قال: يا بني من فعل بك هذا؟ قال: عبد الله بن الزبعرى، فأخذ أبو طالب فرثا ودما، فلطخ وجوههم ولحاهم وثيابهم وأساء لهم القول، فنزل- إذ ذاك- قوله تعالى:{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عم نزلت فيك آية،
قال: وما هي؟ قال: تمنع قريشا أن يؤذوني وتأبى أن تؤمن بي، فقال أبو طالب:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
…
حتى أوسد في التراب دفينا
فاذهب لأمرك قد زعمتك ناصحى
…
فلقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا قد علمت بأنه
…
من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة
…
لوجدتنى سمحا بذاك يقينا
ولا يعجب القارىء من موقف أبي طالب، هذا الموقف من دعوة لا يؤمن بها، فإن في ذلك لآية من آيات الله في نصر دينه والقائمين على نشره وتمكينه، إذ يهيء الأسباب لذلك من قرب أبي طالب من صاحب الرسالة وتربيته له وشدة محبته إياه، بل إن أبا طالب ليصر على موقفه هذا حتى النهاية ويكون آخر وصيته لقومه أن يوصيهم بمحمد صلى الله عليه وسلم خيرا أو يحرضم على نصره وتأييده بل الدخول في دينه، فيروى أن أبا طالب حين حضرته الوفاة أوصى قومه وصية جامعة، ولكن كان ما فارق عليه دنياه قوله:
وأنا أوصيكم بمحمد خيرا، فإنه الأمين في قريش، والصديق في العرب، وهو جامع لكل ما أوصيكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان، وأنكره اللسان، مخافة الشنآن، وأيم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب، وأهل الوبر في الأطراف، والمستضعفين من الناس، قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وأعظموا أمره، فخاض بهم غمرات، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خرابا، وضعفاؤها أربابا، وإذا أعظمهم عليه، أحوجهم إليه، وأبعدهم عنه، أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها وأصفت له فؤادها، وأعطته قيادها، يا معشر قريش: ابن أبيكم كونوا ولاة لحزبه حماة، والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد، ولو كان لنفسي مدة ولأجلي تأخير، لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهي.
وإنما بنصر الله الثابثين على الحق، الدائبين على نصره، كما قال تعالى:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} فإن أبا طالب ما استمات في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى رآي استماتته هو في ثباته على ما دعا إليه وإصراره على الحياة له والموت عليه، ويفسر هذا موقفه صلى الله عليه وسلم الخالد عندما رأت قريش نشاطه الفذ في بث دعوته ونشرها، ومما نال
آلهتهم وعباداتهم الزائفة، من هذه الدعوة من سهام نافذة فذهبوا إلى عمه أبي طالب فقالوا له: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على ما نحن عليه، من خلافه، فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا وودهم ودا جميلا ثم عادوا إليه مرة أخرى، فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، فاشتد الأمر على أبي طالب، ولقى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخي إن قومك لد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا- ما كانوا قالوه له- فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فماذا كان منه صلى الله عليه وسلم أيسلم في دعوته وينفض يده مما وكل إليه، كما يفعل ذلك ضعفاء الإيمان وجبناء القلوب في مثل هذه الظروف؟ كلا، بل وقف وقفة المؤمن بربه الواثق بدعوته، وكأنه يسمع هتاف القرآن في أذنه يقول له:{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال كلمته العظيمة الخالدة التي سارت مثلا أعلى في الثبات على المبدإ: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته" ثم قام وذهب فقال له أبو طالب: أقبل يا ابن أخي، فأقبل صلى الله عليه وسلم فقال له: إذهب وقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا.
وهكذا العظماء يلحقهم من الأذى ما تنوء به الجبال، ولكن قوة عقيدتهم وصلابة عزيمتهم واطمئنانهم إلى أن الله ناصرهم وأن العاقبة لهم، كل ذلك يهون عليهم ما يقف في طريقهم ويصادفهم في سيرهم من عقبات ومكاره وأتعاب، فيمضون مصممين حتى يصلوا إلى الغاية، ويجنوا ثمر النصر في النهاية.
فلا يضق قادتنا ودعاتنا ذرعا إذا لاقوا ما لاقى أسلافهم من رهق وعنت، فتلك سنة الله في الأولين والآخرين، وليعتقدوا بأن الله سينصرهم- إن كانوا محقين- ولو بعد حين، ولو من غير المسلمين، كما نصر الله نبيه بعمه أبي طالب، ولكن الذي يمضني ويؤلمني أنه يوجد اليوم كثير من المسلمين يمثلون دور أبي طالب: يكتبون ويخطبون داعين إلى تعاليم الاسلام، وهم أبعد ما يكون عن تعاليم الإسلام فصدق عليهم بذلك قوله تعالى:{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} الذي نزل في أبي طالب!