الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العظمة التي لم يدركها الهرم
"بأبي من لم ينم على السرير ولم يشبع من خبز الشعير" (عائشة رضي الله عنه ترثي النبي صلى الله عليه وسلم
لله ما أعلم عائشة رضي الله عنه بمقاييس العظمة.
الصحيحة، في هذه الكلمة الفصيحة!
ولا عجب، فهي قد فتحت عينيها- كامل المدة التي صاحبت فيها الرسول صلى الله عليه وسلم على أكبر عظمة في تاريخ الإنسان قديمه وحديثه، وأتيح لها أن تعيش في جو هذه العظمه، وتعب من فيضها وترشف من عبيرها وتقبس من نورها كل عمرها حتى تلفظ آخر أنفاسها (بين سحرها ونحرها).
فسيرة محمد العظيم صلى الله عليه وسلم التي كانت بجميع مشاهدها وفصولها نصب عين هذه الزوجة المثالية- هي التعبير الصحيح عن العظمة الإنسانية، والغاية البعيدة لما يمكن أن يصل إليه الإنسان من عظمة، والتصحيح الأخير لمعنى العظمة، فلا عجب أن تكون عائشة رضي الله عنه من أعلم الناس بمقاييس العظمة.
لو كانت عظمة العظيم بما يملك من مال، أو بما يصل إليه- بخير الوسائل وشرها- من متاع الحياة الدنيا وطيباتها، لكان رصيد محمد من العظمة ضئيلا، ونصيبه منها قليلا، ولكن العظمة- كما ترى هذه الزوجة العظيمة- أبعد ما تكون عن ذلك، فهي قد رأت زوجها العظيم لم ينم على السرير، ولم يشبع من خبز الشعير، (أي السرير الذي ينام عليه كسرى وقيصر وأضرابهما، وإلا فقد كان للني صلى الله عليه وسلم سرير
ولكن أي سرير؟، إنه من ليف وكان يؤثر في جسده صلى الله عليه وسلم ولقد روي أن عمر رضي الله عنه دخل عليه يوما فلفت نظره خدش في جنب النبي صلى الله عليه وسلم من أثر هذا السرير الذي يتعب أكثر مما يريح، فبكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: تذكرت كسرى وقيصر وما هما فيه من لذة ونعيم، وأنت رسول الله، وقد أثر الشريط في جنبك فقال له صلى الله عليه وسلم:"أولئك قوم عجلت لهم طيباتم في حياتهم الدنيا، ونحن قوم أخرت لنا طيباتنا في الآخرة"، وإن تأثير الشريط في جنب الرسول يدل على أن السرير لا فراش عليه، بل ما اتخذ إلا ليكون فراشا أو أن عليه فراشا لا يغطي سائره.- إذن- فالعظمة، هي أن تكبح جماح نفسك، وتخضع شهوتك لعقلك وتشقى في سبيل إسعاد غيرك، وأن تكون كحبة القمح تموت في باطن الأرض ليحيى الناس على ظهرها، وليست العظمة أن تحيى وحدك ولو هلك الناس جميعا كما نسمع عن أكثر عظماء العالم، ولا يحرم الإسلام على الناس طيبات الحياة الدنيا، ولكن العظمة فوق ما يخضع له الناس، فالعظيم يعيش بين الناس، ولكن لا يعيش كما يعيش الناس، وليس الحصول على أطايب العيش مما يعجز العظيم فلقد عرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون له بطاح مكة ذهبا، فأبى وقال: بل أشبع يوما وأجوع يوما، فإذا شبعت حمدتك وشكرتك، وإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، ولكن في ملاقاة الشدائد والتمرس بالصعاب والمكاره، خير إعداد للعظمة وأعظم توجيه للعظيم، ليستطيع بعد ذلك أن يصمد للعظائم، ويتغلب على الشدائد، والتاريخ أصدق شاهد، فما تغلبت تلك القلة من المسلمين الأولين على الجيوش الجرارة، إلا بعد التغلب على الشهوات التي تخنث الرجولة وتعصف بالبطولة، فلا عجب أن سمى الرسول صلى الله عليه وسلم مخالفة الشهوات مكافحتها: الجهاد الأكبر! عندما كان عائدا من إحدى غزواته المظفرة وقال: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، وقيل له: ما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ فقال: جهاد النفس".
وقد طبع محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه بطابعه، فكانت عظمتهم احتذاء وامتدادا لعظمته، فكان لهم السلطان المطلق على أهوائهم، وكان انتصارهم على أعدائهم ثمرة انتصارهم على أهوائهم، وكان تقللهم من الطعام، قد عوضهم صحة في الأجسام، وصفاء في العقول والأفهام، وشعورا بما يعانيه تعساء الحظ وأنضاء الحرمان من غصص وآلام، ولا عجب، فالبطنة تذهب الفطنة، والمصطلى بالنار أعلم بحرها.
هذه هي عظمة محمد، وأصحاب محمد: عظمة روحية، ضحوا فيها بالجسم للروح، وبالشهوة للعقل، وبالدنيا للدين، فكانوا المثل الأعلى في الأرض، ونقطة الاتصال بين السماء والأرض، والقدوة والمثال لخلافة الله في الأرض، صلى الله على محمد وصحبه ما بقيت السماء والأرض!.