الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
13 - على مائدة القرآن
وداعا يا رمضان
ها هو رمضان الكريم قد توارى من الأفق هلاله الحبيب بعد أن لقننا أعظم الدروس، وترك آثاره الطيية في النفوس، كما يترك الغيث أثره في المكان الجديب فيحيى الأرض بعد موتها فإذا هي جنه وارفة الظلال، دانية القطوف يانعة الثمار:{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} .
إن أعظم درس لقنه رمضان للنفوس المؤمنة أن راضها على خلق الصبر العظيم، فأصبحت أربط جأشا في الملمات، وأصلب عودا على مكاره الحياة، ويرشدنا إلى ذلك قائدنا العظيم بأسلوبه الحكيم إذ يقول:"ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر" نعم: ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر، فليس أمد الامتحان إلا فترات عابرة من الزمان ثم تنقضي ويبقى الأثر الصالح أو السيء في نفس الإنسان، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام:"إنما الصبر عند الصدمة الأولى" فمن لم يصبر لطارق الحدثان- وليس الصبر إلا أمدا يسيرا- كانت مصيبته مضاعفة بشدة وقعها وسوء أثرها، ومن اعتصم بالصبر عند نزول المكروه هانت عليه المصيبة، لأنه كان أصلب عودا أو أقوى تحملا، وجنى بعد ذلك ثمرة الصبر الحلوة، والصبر غالبا لا يكون من حظ ضيق الأفق ولا ضعيف الإيمان لأنهما ليس لهما من هاتين الدعامتين القويتين ما يحملهما على الثبات لآثار الصدمات ليجنيا بعدها ثمرات الصبر على الملمات، فكم من نفوس عصفت بها الحوادث والأزمات كما تعصف الريح العاتية بضعيف النبات.
فالصبر إذن يقوم على دعامة قوية من الإيمان، فمن عدم الإيمان عدم الصبر، ولذا يفزع ضعاف الإيمان كلما أقبل رمضان- بل إننا نسمع عن كثير من
المسلمين- أنهم ينصبون موائد الطعام في ساعة الزوال من رمضان، ومنهم من يستحي من الناس ولا يستحي من الله فيفر إلى أوروبا كلما أوشك هلال رمضان على الطلوع ليهدر كرامة دينه هناك ويجلس على موائد الخنزير والخمر في نهار رمضان فينتهك حرمات الله ويملأ جوفه مما حرم الله ويقطع صلته بإخوانه في الله، ولكن هذا الصنف في الأمة لا يكون إلا ممن تلقى تعليمه وثقافته في معاهد أروبا التي ليست إلا أجهزة للتبشير ظاهرها التثقيف وباطنها التنصير، وقد ظهر أثر هذه المعاهد في نفوس أبنائنا الذين تلقيا تعليمهم فيها بصفة مفزعة محزنه، وإني إن نسيت كل شيء فهيهات أن أنسى تلك الكلمة الخبيثة الرعناء التي فاه بها ذلك الفم القذر بأم الخبائث إذ قال له أحد أقاربه: إن الصيف قد أقبل بحره الشديد ولا نأمن على أولادنا غائلة البحر، وإن خير ما ينقذنا منها أن ندخل أولادنا المدارس العربية التي لا تعطل تعليمها في الصيف فقال له: إنني أفظل أن يغرق أولادي في البحر على أن يقرأوا العربيه، إن المسلم العربي ما كان ليفوه بهذه الكلمة النكراء لو لم تتلق نفسه بذورها الخبيثة السامة في المعاهد الإفرنجية، فيالله لهذه اللغة التي يحاربها أعداؤها وأبناؤها على السواء!
وإذن فمن رزق الصبر فقد أعطي العصا السحرية التي تصنع المعجزات، وهل صنع المسلمون ما صنعوا من معجزات في فجر تاريخهم إلا بهذه العصا السحرية التي هي الصبر؟ وهل يغلب عشرون مائتين إلا بالصبر؟ كما قال تعالى:{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وكما قال: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} وهل وصلت إلينا هذه الذخيرة الغالية من تعاليم الإسلام السامية إلا على جسر عظيم من الصبر؟ فصبر أولئك الجدود الأبطال على ما أصابهم في سبيل الإحتفاظ بالإسلام من أعداء الإسلام هو الذي أوصل إلينا الإسلام.
وهل سائر الفضائل إلا نابعة من الصبر، فالشجاعة صبر على المكروه، وبذل المال صبر على فقده، والحلم صبر على جهل الجاهل وهكذا.
وفي السلوك الديني يبرز أثر الصبر أكثر حتى قيل: الصبر ثلاثة، صبر على طاعة الله بمعنى الثبات عليها، وصبر عن معصية الله بمعنى كبح النفس عنها، وصبر على قضاء الله بمعنى حبسها عن الجزع، فلا عجب إذن أن يقول الله تعالى:
{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} فيجعل الجزاء بدار النعيم على الصبر وحده لأنه الفضيلة الجامعة لسائر الفضائل والمنبع القوي لجميع الكمالات.