الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فعلى هذا قال أبو الخطاب
(1)
: يقصُّ منه ما انكسر. وقال ابن أبي موسى
(2)
: إن انكسر ظفره فقصَّه فلا فدية عليه، وبه قال ابن عباس. ولا بدَّ أن يكون الانكسار بغير فعلٍ منه.
وأما الشعر إذا خرج في عينه وآلمه فإنه هو الذي اعتدى عليه. وأما إذا نزل على عينيه شعرُ حاجبه ورأسه
…
(3)
فإنه يقصّ منه ما نزل على عينيه.
فصل
ولا بأس أن يحلق المحرم رأس الحلال ويَقْلِم أظفاره، ولا فدية عليه. وليس لحلالٍ ولا حرامٍ أن يحلق رأس محرم أو يقلم أظفاره، فإن فعل ذلك بإذنِ
(4)
المحلوق فالفدية عليه دون الحالق، وإن فعل ذلك الحلالُ بالمحرم وهو نائم أو أكرهه عليه، فقرار الفدية على الحالق. وهل تجب على المحرم ثم يرجع بها عليه؟ على وجهين سيأتي ذكرهما.
مسألة
(5)
: (الثالث: لُبس المَخيط إلا أن لا يجد إزارًا فيلبس سراويلَ، أو لا يجد نعلين فيلبسْ خفينِ، ولا فدية عليه)
.
في هذا الكلام فصلان:
(1)
في «الهداية» (ص 179).
(2)
في «الإرشاد» (ص 161).
(3)
في النسختين: «خاصة رأسه» وبعدها بياض. ولعل الصواب ما أثبته.
(4)
في المطبوع: «فأذن» ، تحريف.
(5)
انظر «المستوعب» (1/ 461) و «المغني» (5/ 119، 120) و «الشرح الكبير» (8/ 245، 246) و «الفروع» (5/ 419، 423).
أحدهما
أن المحرم يحرم عليه أن يلبس على بدنه المَخِيط المصنوع على قدر العضو؛ مثل القميص والفَرُّوج
(1)
والقَبَاء
(2)
والجُبّة والسراويل والتُبَّان
(3)
والخفّ والبُرنس
(4)
ونحو ذلك. وكذلك لو صُنِع
(5)
على مقدار العضو بغير خياطة مثل أن يُنسَج نسجًا، أو يُلْصَق بلصوقٍ، أو يُرْبط بخيوط، أو يُخلّل بخلال أو يُزرّ، ونحو ذلك مما يُوصَل به الثوب المقطَّع حتى يصير كالمخيط، فإن حكمه حكم المخيط، وإنما يقول الفقهاء «المَخِيط» بناء على الغالب.
فأما إن خِيط أو وُصِل لا ليُحِيط
(6)
بالعضو ويكون على قدره، مثل الإزار والرداء الموصل والمرقّع ونحو ذلك= فلا بأس به، فإن مناط الحكم هو اللباس المصنوع على قدر الأعضاء، وهو اللباس المُحِيط
(7)
بالأعضاء واللباس المعتاد
(8)
.
والأصل في ذلك ما روى الزهري عن سالم عن أبيه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
هو القميص الصغير.
(2)
ثوب يُلبس فوق الثياب أو القميص، ويُتمنطق عليه.
(3)
سراويل قصيرة إلى الركبة فما فوقها.
(4)
كل ثوب رأسُه منه ملتزق به.
(5)
في المطبوع: «لوضع» ، خطأ.
(6)
في النسختين: «ليخيط» .
(7)
في النسختين بالخاء، ولعل الصواب بالحاء كما أثبت.
(8)
في المطبوع: «المعاد» خلاف النسختين.
ما يلبس المحرم؟ قال: «لا يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا البُرنُس، ولا السراويل، ولا ثوبًا مسَّه ورسٌ ولا زعفران، ولا الخفّين إلا أن لا يجد نعلين، فليقطَعْهما حتى يكونا أسفلَ من الكعبين» . متفق عليه
(1)
.
ورواه أحمد
(2)
: قثنا عبد الرزاق أبنا معمر عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر أن رجلًا نادى يا رسول الله! ما يجتنب المحرم من الثياب؟ فقال:«لا يلبس السراويل، ولا القميص، ولا البرنس، ولا العمامة، ولا ثوبًا مسَّه زعفران ولا وَرْس، وليُحرِم أحدكم في إزار ورداء ونعلين، فإن لم يجد نعلين فليلبس خفّين، وليقطعْهما حتى يكونا أسفلَ من الكعبين» .
وفي رواية صحيحة لأحمد والنسائي
(3)
عن نافع عن ابن عمر أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا؟ قال: «لا تلبسوا القُمُص
(4)
ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس
(5)
ولا الخِفاف
(6)
، إلا أن يكون رجل ليست له نعلانِ، فليلبس الخفَّين ويجعلهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسَّه الزعفران ولا الورس».
وفي رواية لأحمد
(7)
عن ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال:
(1)
البخاري (5806) ومسلم (1177).
(2)
رقم (4899). وقد سبق تخريجه مفصلًا (ص 265 - 266).
(3)
أحمد (5166، 5472) والنسائي (2675).
(4)
في المطبوع: «القميص» ، وهو خلاف ما في النسختين و «المسند» .
(5)
في النسختين: «البرنس» بالإفراد، والمثبت من «المسند» ، وهو المناسب للسياق.
(6)
في هامش النسختين إشارة إلى أن في نسخة: «الخفين» . وفي «المسند» بالوجهين.
(7)
رقم (4868).
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر وهو ينهى الناس ــ إذا أحرموا ــ عما يُكْرَه لهم: «لا تلبسوا العمائم، ولا القُمُص، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفَّين إلا أن يُضطَرَّ مضطرٌّ فيقطعهما أسفلَ من الكعبين، ولا ثوبًا مسَّه الورس ولا الزعفران» . قال: وسمعته ينهى النساء عن القُفَّاز
(1)
والنِّقاب وما مسَّ
(2)
الورس والزعفران من الثياب.
ورواه أبو داود
(3)
أيضًا بهذا الإسناد عن ابن عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى النساء في الإحرام عن القُفَّازينِ والنِّقاب، وما مسَّ الورس والزعفران من الثياب، ولتلبَسْ بعد ذلك ما أحبّتْ من ألوان الثياب: معصفرًا، أو خزًّا، أو حليًّا، أو سراويلَ
(4)
، أو قميصًا.
قال أبو داود ــ وقد رواه من حديث أحمد عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن إسحاق ــ: روى هذا الحديثَ عن ابن إسحاق عبدةُ ومحمد بن سلمة
(5)
إلى قوله: «وما مسَّ الورس والزعفران من الثياب» ، [ق 231] لم يذكرا ما بعده.
(1)
لباس الكفّ من نسيج أو جلد.
(2)
في المطبوع: «مسه» . وهو خلاف النسختين و «المسند» .
(3)
رقم (1827) وإسناده حسن، إلا أن فيه زيادة في آخره لا تثبت من حيث الرواية وإن كان معناها صحيحًا، تفرّد بها إبراهيم بن سعد الزهري عن ابن إسحاق ولم يُتابَع عليها، كما ذكر أبو داود عقب الحديث.
(4)
في النسختين: «سراويلا» . والمثبت من السنن. والأشهر فيها منع الصرف. انظر «تاج العروس» (سرول).
(5)
س: «مسلمة» . ق: «مسلم» . وكلاهما تحريف. والتصويب من السنن. وفي النسختين بعده: «عن ابن إسحاق» ، وهو تكرار لا داعي له.
قلت: وكذلك رواه أحمد
(1)
عن يعلى بن عبيد ويزيد بن هارون عن ابن إسحاق. وقد قيل: إنه ليس فيه ذكر سماع ابن إسحاق عن نافع، وإنما هو معنعن أو قال نافع
(2)
.
وفي روايةٍ لأحمد والبخاري وأبي داود والنسائي والترمذي
(3)
من حديث نافع عن ابن عمر قال: قام رجل فقال: يا رسول الله، ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلبس القميص، ولا السراويلات، ولا العمائم، ولا البرانس
(4)
، ولا الخفّ إلا أن يكون أحد ليست له نعلان فليلبس الخفين، وليقطَعْها أسفلَ من الكعبين، ولا تلبسوا شيئا مسَّه الزعفران ولا
(5)
الورس، ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القُفَّازين». قال الترمذي: هذا حديث صحيح
(6)
.
قال أبو داود
(7)
: «وقد روى هذا الحديثَ حاتمُ بن إسماعيل ويحيى بن أيوب عن موسى بن عقبة عن نافع على ما قال الليث، يعني مرفوعًا. ورواه
(1)
رقم (4740) و (4868) ولاءً.
(2)
إلا رواية إبراهيم بن سعد عند أبي داود، ففيها: «عن ابن إسحاق قال: فإن نافعًا مولى عبد الله بن عمر حدثني
…
» إلخ.
(3)
أحمد (6003) والبخاري (1838) وأبو داود (1825) والنسائي (2673) والترمذي (833) كلهم من طريق الليث عن نافع.
(4)
في المطبوع: «البرنس» خلاف ما في النسختين والمصادر.
(5)
«لا» ليست في س.
(6)
كذا في النسختين، وفي الترمذي:«حسن صحيح» .
(7)
في «سننه» عقب الحديث السابق.
موسى بن طارق [عن موسى بن عقبة]
(1)
موقوفًا على ابن عمر، وكذلك رواه عبيد الله بن عمر ومالك وأيوب موقوفًا، وإبراهيم بن سعيد المديني عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم:«المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القُفَّازينِ» . وإبراهيم بن سعيد شيخ من أهل المدينة ليس له كثير حديث.
وعن ابن إسحاق قال: ذكرتُ لابن شهاب قال: حدثني سالم أن عبد الله بن عمر كان يصنع [ذلك]
(2)
، يعني يقطع الخفَّين للمرأة المحرمة، ثم حدَّثتْه صفية بنت أبي عبيد أن عائشة حدثتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخَّص للنساء في الخفين، فترك ذلك. رواه أحمد وأبو داود
(3)
.
وفي رواية لأحمد
(4)
: «ولا يلبس ثوبًا مسَّه الورس والزعفران إلا أن يكون غسيلًا» . رواه عن أبي معاوية قثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر.
وفي رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبس المحرم ثوبًا مصبوغًا بزعفران أو ورس
(5)
.
(1)
زيادة من السنن.
(2)
ليست في النسختين، زيدت من السنن.
(3)
أحمد (4836، 24067) وأبو داود (1831). وأخرجه أيضًا ابن خزيمة (2686). وابن إسحاق صدوق حسن الحديث، وقد تابعه الإمام الشافعي في «الأم» (3/ 367) عن ابن شهاب الزهري به، إلا أنه وقَفَه على عائشة، ولفظه: «
…
حتى أخبرَتْه صفية عن عائشة أنها كانت تفتي النساء أن لا يقطعن، فانتهى عنه».
(4)
رقم (5003).
(5)
أخرجه مالك (1/ 325)، ومن طريقه أحمد (5336) والبخاري (5852) ومسلم (1177/ 3).
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خمسة أنواع من اللباس تشمل جميع ما يحرم، فإنه قد أوتي جوامعَ الكلم، وذلك أن اللباس إما أن يُصنع [للبدن]
(1)
فقط فهو القميص وما في معناه من الجبة والفَرُّوج ونحوهما، أو للرأس فقط وهو العمامة وما في معناها، أو لهما وهو البُرنس وما في معناه، أو للفخذين والساق وهو السراويل وما في معناه من تُبَّانٍ ونحوه، أو للرجلين وهو الخفّ ونحوه. وهذا مما أجمع المسلمون عليه.
الفصل الثاني
إذا لم يجد إزارًا فإنه يلبس السراويل، ولا يَفْتِقه بل يلبسه على حاله، وإذا لم يجد نعلين فإنه يلبس الخفين وليس عليه أن يقطعهما، ولا فدية عليه. هذا هو المذهب المنصوص عنه في عامة المواضع، في رواية أبي طالب ومهنا وإسحاق وبكر بن محمد
(2)
، وعليه أصحابه.
ورُوي عنه أنه عليه أن يقطعهما
(3)
؛ قال في رواية حنبل: الزهري عن سالم عن ابن عمر، وذكر الحديث إلى قوله:«وليقطعْهما حتى يكونا أسفلَ من الكعبين» . وظاهره أنه أخذ به.
وقد حكى ابن أبي موسى
(4)
وغيره الروايتين، إحداهما: عليه أن يقطعهما أسفل من الكعبين، فإن لم يقطعهما فعليه دم؛ لأن ذلك في حديث
(1)
زيادة ليستقيم المعنى.
(2)
كما في «التعليقة» (1/ 347). وانظر رواية الكوسج (1/ 541) ورواية ابن هانئ (807).
(3)
كما في «المغني» (5/ 121).
(4)
في «الإرشاد» (ص 165).
ابن عمر، وهو مقيَّد، فيُقْضَى به على غيره من الأحاديث المطلقة، فإن الحكم واحد والسبب واحد، وفي مثل هذا يجب حملُ المطلق على المقيَّد وفاقًا. ثم هذه زيادة حفظها ابن عمر ولم يحفظها غيره، وإذا كان في أحد الحديثين زيادةٌ وجب العمل به.
ووجه الأول ما روى ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات: «من لم يجد إزارًا فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفَّين»
(1)
. وفي لفظ
(2)
: «السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفاف لمن لم يجد النعلين» . متفق عليه.
قال مسلم
(3)
: لم يذكر أحد منهم «يخطب بعرفات» غير شعبة وحده.
وفي رواية صحيحة لأحمد
(4)
قال: «من لم يجد إزارًا ووجد سراويلَ فليلبسه، ومن لم يجد نعلين ووجد خفَّين، فليلبسهما» . قلت: ولم يقل: ليقطعهما؟ قال: لا.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يجد نعلين فليلبس خفَّين، ومن لم يجد إزارًا فليلبس سراويل» . رواه أحمد ومسلم
(5)
.
وعن بكر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاة، فلما انصرف لبَّى
(1)
أخرجه البخاري (1841، 1843، 5804).
(2)
عند مسلم (1178).
(3)
عقب الحديث المذكور.
(4)
رقم (2015).
(5)
أحمد (14465) ومسلم (1179).
ولبَّى القوم، وفي القوم رجل أعرابي عليه سراويل، فلبَّى معهم كما لبَّوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السراويل إزارُ من لا إزار له، والخفاف نعلان لمن
(1)
لا نعل له» رواه [ق 232] النجّاد
(2)
، وهو مرسل.
وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: رأيت عبد الرحمن بن عوف يطوف وعليه خفَّانِ، قال له عمر: تطوف وعليك خفان؟ فقال: لقد لبستُهما مع
(3)
من هو خير منك، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أبو حفص في شرحه
(4)
. ورواه النجّاد
(5)
، ولفظه:«فرأى عليه خفَّين وهو محرم» .
فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلُبس الخفين عند عدم النعلين، والسراويل عند عدم الإزار، ولم يأمر بتغييرهما، ولم يتعرَّض لفدية، والناس محتاجون إلى البيان، لأنه كان بعرفاتٍ، وقد اجتمع عليه خلق عظيم لا يحصيهم إلا الله يتعلَّمون وبه يقتدون، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
فلو وجب تغييرهما أو وجبت فيهما فدية لوجب بيان ذلك، لا سيما ومن جهل جواز لبس الإزار والخفين فهو يوجب الفدية أو التغيير
(1)
في المطبوع: «لم» خطأ مطبعي.
(2)
عزاه إليه القاضي في «التعليقة» (1/ 343).
(3)
في النسختين: «لبسهما من» . والتصحيح من «التعليقة» و «المغني» ومصادر التخريج. وسيأتي على الصواب قريبًا.
(4)
عزاه إليه القاضي في «التعليقة» (1/ 348) وابن قدامة في «المغني» (5/ 122). وأخرج أحمد (1668) والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (5429) نحوه من وجهٍ آخر. قال في «مجمع الزوائد» (3/ 219): «فيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف» .
(5)
عزاه إليه القاضي في «التعليقة» (1/ 351).
وأجهل
(1)
، ألا ترى أن الله سبحانه ورسوله حيث أباح شيئًا لعذرٍ فإنه يذكر الفدية، كقوله:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن عُجْرة:«احلِقْ رأسك، وصُمْ ثلاثة أيام أو أطعِمْ ستة أو انسُكْ شاةً»
(2)
.
وأيضًا فإن اللام في السراويل والخفّ لتعريف ما هو معهود ومعروف عند المخاطبين، وذلك هو السراويل الصحيح والخفّ الصحيح، فيجب أن يكون هو مقصود المتكلم، وأن يُحمل كلامه عليه.
وأيضًا فإن المفتوق والمقطوع لا يسمَّى سراويلًا
(3)
وخفًّا عند الإطلاق؛ ولهذا لا ينصرف الخطاب إليه في لسان الشارع، كقوله:«أَمرنا أن لا نَنْزِع خِفافنا»
(4)
، وقوله:«امسحوا على الخفين والخِمار»
(5)
وغير ذلك، ولا في خطاب الناس مثل الوكالات والأيمان وغير ذلك من أنواع الخطاب.
(1)
كذا في النسختين، ولعل «وأجهل» كان مشطوبًا عليه في الأصل المنسوخ عنه.
(2)
سبق تخريجه قريبًا.
(3)
كذا مصروفًا في النسختين هنا وفيما يأتي. والأشهر فيه منع الصرف كما سبقت الإشارة إليه فيما مضى.
(4)
جزء من حديث صفوان بن عسّال المرادي في المسح على الخفين ثلاثة أيام في السفر. أخرجه أحمد (18091) والترمذي (96) والنسائي (126) وابن ماجه (478). وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح» وصححه ابن خزيمة (17) وابن حبان (1100).
(5)
أخرجه أحمد (23892، 23893) من حديث بلال رضي الله عنه مرفوعًا. وإسناده فيه لين، والثابت من حديث بلال أنه روى فِعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين والخمار. هكذا أخرجه مسلم (275) وغيره. وانظر «السلسلة الضعيفة» (2935).
والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بلبس الخفَّين والسراويل، فعُلِم أنه أراد ما يسمَّى خفًّا وسراويلًا عند الإطلاق.
وأيضًا فإنه وإن سُمِّي خفًّا وسراويلًا فإنه ذكره باللام الذي
(1)
يقتضي تعريف الحقيقة، أو بلفظ التنكير الذي يقتضي مجرد الحقيقة، فيقتضي ذلك أن يجوز مسمَّى الخفّ والسراويل على أي حالٍ كان، كسائر أسماء الأجناس.
وأيضًا فإن وجود المغيَّر
(2)
عن هيئة
(3)
الخفاف والسراويلات نادر جدًّا، لا يكون إلا بقصد، واللفظ العام المطلق لا يجوز أن يُحمل على ما يندُر وجوده من أفراد الحقيقة، فكيف ما يندر وجوده من مجازاته؟
وأيضًا فإنه لو افتقر ذلك إلى تغييرٍ أو وَجَبَتْ فيه
(4)
فدية لوجب أن يبيّن مقدار التغيير الذي يبيح لبسه، أو مقدار الفدية الواجبة، فإن مثل هذا لا يُعلم إلا بتوقيف.
وأيضًا فقد رأى على الأعرابي سراويل وأقرَّه على ذلك، وبيَّن أن السراويل بمنزلة الإزار عند عدمه، والخف بمنزلة النعل عند عدمه، ومعلوم أن الإزار
(5)
والنعل لا فدية فيهما.
(1)
كذا في النسختين: «الذي» .
(2)
في النسختين والمطبوع: «المعبر» ، وهو تصحيف، كما تدلُّ عليه كلمة «تغيير» في الفقرة التالية وفي (ص 459).
(3)
ق: «ماهية» .
(4)
في النسختين: «أوجبت» كأنها كلمة واحدة، وكذا في المطبوع. والصواب ما أثبت، وسيأتي على الصواب بعد سبعة أسطر.
(5)
في المطبوع: «الأزر» خلاف النسختين.
وأيضًا فإنه إنما جوّز لبسهما عند عدم الأصل، فلو افتقر ذلك إلى تغيير أو وجبتْ فدية لاستوى حكم وجود الأصل وعدمه في عامة المواضع.
وبيان ذلك أنهما إذا غُيِّرا: إن صارا بمنزلة الإزار والنعل فيجوز لبسُهما مغيَّرينِ مع وجود الإزار والنعل، إذ لا فرقَ بين نعل ونعل وإزار وإزار، وهذا مخالف لقوله:«السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفاف لمن لم يجد النعلين» ، فجعلَهما لمن لم يجد، كما في قوله:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43، المائدة: 6] وقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196، المائدة: 89] وقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [النساء: 92، المجادلة: 4] إلى غير ذلك من المواضع، ومخالف لقوله:«من لم يجد إزارًا فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين» ، ومخالف لقوله: «السراويل إزارُ من لا إزارَ له، والخفّانِ نعلا من
(1)
لا نعلَ له». وهذا واضح.
وإن لم يصيرَا
(2)
بالتغيير بمنزلة الإزار والخف فلا فائدة في التغيير، بل هو إتلافٌ بغير فائدة أصلًا وإفسادٌ له، والله لا يحبُّ الفساد.
وأيضًا فإن عامة الصحابة وكبراءهم على هذا؛ فروي عن الأسود قال: سألت عمر بن الخطاب قلت: من أين أُحرِم؟ قال: من ذي الحليفة، وقال: الخفّانِ نعلان لمن لا نعلَ له
(3)
.
(1)
في النسختين والمطبوع: «نعلان من» . وصوابه ما أثبت أو «نعلان لمن» كما سبق وكما سيأتي.
(2)
في النسختين: «لم يصير» بدون الألف.
(3)
عزاه القاضي في «التعليقة» (1/ 351) إلى أبي بكر النجاد. وأخرجه ابن أبي شيبة (16022) عن عمير ــ ويقال: عمرو ــ بن الأسود العَنْسي عن عمر، بنحوه.
وعن الحارث عن علي قال: السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفّان لمن لم يجد النعلين
(1)
.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إذا لم يجد المحرم الإزار فليلبس السراويل، وإذا لم يجد نعلين فليلبس الخفَّين
(2)
.
وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: كنت مع عبد الرحمن بن عوف في سفر ومعنا حادٍ [ق 233] أو مغنٍّ
(3)
، فأتاه عمر في بعض الليل، فقال: ألا أرى أن يطلع الفجر؟ اذكُرِ الله، ثم التفت فرأى عليه خفّين وهو محرم، قال: وخفَّين؟ فقال: قد لبستُهما مع من هو خير منك
(4)
.
وعن مولى الحسن بن علي قال: رأيت على المِسْور بن مَخْرمة خفَّين وهو محرم، فقيل له: ما هذا؟ فقال: أمرتْنا عائشة به
(5)
.
(1)
أخرجه عبد الله بن أحمد في «السنة» (283) بتحقيق عادل آل حمدان، وابن حبان في «صحيحه» (3780 - 3783) وغيرهما ضمن قصة لحماد بن زيد مع أبي حنيفة، إذ أفتى أبو حنيفة من لم يجد إزارًا ونعلين فلبس سراويل وخفين أن عليه دمًا، فأنكر عليه حماد وأسند له حديث ابن عباس
…
ثم قام حماد من عنده فلقي الحجاجَ بن أرطاة وسأله عن المسألة، فحدثّه الحجاجُ بهذا الأثر عن أبي إسحاق عن الحارث الأعور عن علي. والحجاج والحارث كلاهما فيه لين.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (16024).
(3)
في النسختين: «حادي أو مغني» بإثبات الياء فيهما.
(4)
سبق تخريجه قريبًا.
(5)
ذكره أبو يعلى في «التعليقة» (1/ 351) وعزاه إلى أبي بكر النجاد. وقال ابن حزم في «المحلَّى» (7/ 81): «ورُوِّينا عن عائشة أم المؤمنين والمسور بن مخرمة إباحة لباس الخفين بلا ضرورة للمحرم من الرجال» .
وأما حديث ابن عمر فحديث صحيح، وزيادته صحيحة محفوظة
(1)
، وقد زعم القاضي وأصحابه وابن الجوزي وبعض أصحابنا أنه اختُلِف في اتصاله
(2)
، فقال أبو داود
(3)
: رواه موسى بن طارق عن موسى بن عقبة موقوفًا على ابن عمر، قال: وكذلك رواه عبيد الله بن عمر ومالك وأيوب.
قالوا: وقد رُوي فيه القطع وتركه؛ فإن النجّاد روى عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفاف لمن لم يجد النعلين»
(4)
.
وهذا غلط؛ فإنه لم يختلف أحد من الحفّاظ في اتصاله، وأن هذه الزيادة متصلة. وإنما تكلَّم أبو داود في قوله:«لا تنتقب المرأة الحرام، ولا تلبس القُفَّازين» ، وذكر أن هذه الزيادة مِن الناس من وقفها، ومنهم من رفعها، مع أنه قد أخرجها البخاري. وهذا بيِّن في «سنن أبي داود»
(5)
، فمن توهَّم أن أبا داود عنى زيادة القطع فقد غلِطَ عليه غلطًا بيِّنًا فاحشًا.
(1)
أي زيادة: «وليقطعهما أسفل من الكعبين» .
(2)
انظر: «التعليقة» (1/ 350)، و «التحقيق» (2/ 133 - 134)، و «المغني» (5/ 121).
(3)
عقب الحديث (1825). وقد سبق ذكره.
(4)
عزاه في «التعليقة» (1/ 350) إلى النجّاد. وأخرجه أيضًا عبد الله بن أحمد في «السنة» (283) وابن حبان (3782). وفي إسناده إبراهيم بن الحجاج الناجي، قال الحافظ:«ثقة يهم قليلًا» ، وقد وهم في موضعين: أولًا في ذكر السراويل لمن لم يجد الإزار في حديث ابن عمر، فالحديث مروي في «الصحيحين» وغيرهما من طرق صحاح عن نافع، وليس في شيء منها ذلك، وإنما صحّ ذلك من حديث ابن عباس. ثانيًا: إنه لم يذكر قطع الخفّين، وهو ثابت في جميع طرق حديث ابن عمر. وانظر «علل الدارقطني» (2935).
(5)
انظر الأحاديث (1823 - 1826) وكلامَ أبي داود عقب الحديث (1825).
واعتذر بعضهم
(1)
عنه بأن عائشة روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخَّص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما. وكان ابن عمر يُفتي بقطعهما، قالت صفية فلما أخبرتُه بهذا رجع
(2)
.
وهذا غلط بيِّنٌ أيضًا، فإن حديث عائشة إنما هو في المرأة المحرمة. لكن هذه الزيادة متروكة في حديث ابن عباس وجابر وغيرهما.
وليس هذا مما يقال فيه: الزيادة من الثقة مقبولة، لأن ابن عمر حفظ هذه الزيادة، وغيرُه عقلَها وذهلَ عنها أو نسيها؛ فإن هذين حديثان تكلَّم النبي صلى الله عليه وسلم بهما في وقتين ومكانين:
فحديث ابن عمر تكلَّم به النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة قبل أن يُحرِم، على منبره لما سأله السائل عما يلبس المحرم من الثياب. وقد تقدم
(3)
أن في بعض طرقه: «سمعته يقول على هذا المنبر وهو ينهى الناس ــ إذا أحرموا ــ عما يُكْره لهم» ، وذلك إشارة إلى منبره بالمدينة.
وفي رواية «أن رجلًا نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد» . رواه الدارقطني
(4)
.
وتقدم
(5)
في لفظ آخر صحيح: «أن رجلًا سأله ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا؟» . فعُلِم أنهم سألوه قبل أن يُحرِموا.
(1)
في هامش النسختين: «ابن أبي موسى» . وانظر كلامه في «الإرشاد» (ص 165).
(2)
سبق تخريجه قريبًا.
(3)
(ص 454).
(4)
في «السنن» (2/ 230).
(5)
(ص 453).
وحديث ابن عباس كان وهو مُحرِمٌ بعرفات كما تقدَّم
(1)
، وقد بيَّن فيه أنه لم يذكر القطع.
قال الدارقطني
(2)
: سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: في حديث ابن جريج وليث بن سعد وجويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر قال: نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد: ما يترك المحرمُ من الثياب؟ وهذا يدلُّ على أنه قبل الإحرام بالمدينة، وحديث شعبة وسعيد بن زيد عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات، هذا بعد حديث ابن عمر.
فمن زعم أن هذه الزيادة حفظها ابن عمر دون غيره فقد أخطأ.
قال المرُّوذي
(3)
: احتججتُ على أبي عبد الله بقول ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقلت: هو
(4)
زيادة في الخبر، فقال: هذا حديث وذاك حديث.
ويبيِّن ذلك أنهما حديثان متغايرا اللفظِ والمعنى، في هذا ما ليس في هذا، وفي هذا ما ليس في هذا.
وإذا كان كذلك فحديث ابن عباس هو الحديث المتأخر، فإما أن يُبنى على حديث ابن عمر ويُقيَّد به، أو يكون ناسخًا له، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أولًا بقطعها، ثم رخصَّ لهم في لبسها مطلقًا من غير قطعٍ، وهذا هو الذي
(1)
(ص 458).
(2)
في «سننه» (2/ 230).
(3)
كما في «التعليقة» (1/ 352).
(4)
في المطبوع: «قلت وهو» ، خلاف النسختين.
يجب حملُ الحديثين
(1)
عليه
(2)
لوجوه:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بلبس الخفاف والسراويلات، وموجب هذا الكلام هو لبس الخفّ المعروف، ولا يجوز أن يكون ترك ذكر القطع لأنه قد تقدَّم منه أولًا بالمدينة؛ لأن الذين سمعوا ذلك منه بالمدينة كانوا بعض الذين اجتمعوا بعرفات، وأكثر أولئك الذين جاءوا بعرفات من النواحي ليسوا من فقهاء الصحابة، بل قوم حديثو عهدٍ بالإسلام، وكثير منهم لم ير النبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل تلك الأيام، وفيهم الأعراب ونحوهم، وقد قال لهم في الموسم:«لتأخذوا عني مناسككم»
(3)
. فكيف يجوز أن يأمرهم بلُبس الخفافِ والسراويلات، ومراده الخفُّ المقطوع والسراويلات المفتوقة، من غير أن يكون هناك قرينة مقالية ولا حالية تدل على ذلك؟ بل [ق 234] القرائن تقضي بخلاف ذلك بناءً على أنه أمر بالقطع لناسٍ غيرهم. هذا لا يجوز أن يحمل عليه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك تلبيس وتأخير للبيان عن وقت الحاجة، وذلك لا يجوز عليه.
وما هذا إلا بمثابة أن يقول رجل لخيّاط: خِطْ لي قميصًا أو خفًّا، فيخيط له صحيحًا، فيقول: إنما أردتُ قميصًا بَقِيرًا
(4)
أو خفًّا مقطوعًا، لأني
(5)
قد أمرتُ بذلك للخياط الآخر، فيقول: وإذا أمرتَ ذاك ولم تأمرني أفأعلم الغيب؟ بل
(1)
ق: «الحديث» .
(2)
«عليه» ليست في المطبوع.
(3)
أخرجه مسلم (1297) من جابر.
(4)
في النسختين: «نفيرًا» . والصواب ما أثبته، والمعنى: ما بُقِرتْ (أي شُقَّت) أكمامُه، كما سيأتي في الوجه الخامس.
(5)
س: «لأن» .
أمْره صلى الله عليه وسلم بلبس الخف والسراويل وسكوته عن تغييرهما يدلُّ أصحابَه الذين سمعوا الحديث الأول أنه أراد لُبسهما على الوجه المعروف، وأنه لو أراد تغييرهما لذكره، كما ذكره أولًا، كما فهموا ذلك منه على ما تقدم.
ويوضِّح ذلك أنه لو كان صلى الله عليه وسلم مكتفيًا بالحديث الأول لاكتفى به في أصل الأمر بلبس الخف لمن لم يجد النعل، ولم يُعِدْه ثانيًا. فإذا لم يستغنِ عن أصل الأمر فكيف يستغني عن صفته ويتركه ملبَّسًا مدلَّسًا؟ وقد كان الإعراض عن ذكر أصله وصفته أولى في البيان لو كان حاصلًا بالحديث الأول من ذكرِ لفظٍ يُفهِم خلاف المراد.
الثاني: أن حديث ابن عمر فيه: نهى النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
ــ وهم بالمدينة قبل الإحرام ــ عن لبس السراويل مطلقًا كما نهى عن لبس العمامة والقميص، ولم يأذن في لبسه بحال، ونهى عن لبس الخف إلا إذا عَدِم النعلَ فيلبس مقطوعًا. ففهم ابن عمر منه الأمر بالقطع للرجال والنساء لعموم الخطاب لهما، كما عمَّهم النهي عن لبس ثوبٍ مسَّه وَرْس أو زعفران، وإن لم يعمَّهم النهيُ عن لبس ثوب القميص والبرانس والسراويلات، فإن المرأة محتاجة إلى ستر بدنها ورأسها، فكان ذلك قرينة عند ابن عمر تُعلِمه أنها لم تدخل في النهي عن ذلك، وليس بها حاجة إلى الخف الصحيح، فجوَّز أن تُنْهى
(2)
عن لبس ما يصنع لرجلها كما نُهِيتْ عن القفَّاز والنقاب، فلو ترك الناس وهذا الحديث لم يجز لأحد لبسُ السراويل إلا أن يَفْتِقه، أو يفتدي بلبسه صحيحًا. وكان معناه أن عدم الإزار والنعل لا يبيح غيره إلا أن يكون قريبًا
منه، وذكر هذا في ضمن ما نهى عنه من سائر الملابس؛ مثل العمامة والبرنس والقميص والمصبوغ بالورس والزعفران.
فمضمون هذا الحديث: هو المنهيُّ عنه من اللباس ليجتنبه الناس في إحرامهم، وكان قطع الخف إذ ذاك مأمورًا
(1)
به، وإن أفسده اتباعًا لأمر الله ورسوله حيث لا رخصة في البدل، ثم جاء حديث ابن عباس بعد هذا بعرفة ليس فيه شيء من المنهيَّات، إنما فيه الأمر لمن لم يجد الإزار أن يلبس السراويل، ولمن لم يجد النعل أن يلبس الخف، وترك ذكر بقية الملابس.
وهذا يبيِّن لذي لبٍّ أن هذه رخصة بعد نهْيٍ، حيث رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أيام الإحرام المشقة والضرورة بكثير من الناس إلى السراويلات والخفاف، فرخّص فيهما بدلًا عن الإزار والنعل، وأعرض عن ذكر بقية الملابس إذ لا بدلَ لها لعدم الحاجة إلى البدل منها. فإنَّ بالناس حاجةً عامة إلى ستر العورة شرعًا، وبهم حاجة عامة إلى الاحتذاء طبعًا، فإن الاحتفاء فيه ضرر عظيم ومشقة شديدة، خصوصًا على المسافرين في مثل أرض الحجاز.
واقتطع ذكر الخف والسراويل دون غيره: ليبيِّن أنه إنشاء حكمٍ غير الحكم الأول وبيانه، وأنه ليس مقصوده إعادة ما كان ذكره بالمدينة. إذ لو كان مقصوده بيان أنواع الملابس لذكر ما ذكره بالمدينة، فسمع ذلك ابن عباس وجابر وغيرهما، وأفتى بمضمونه خيار الصحابة وعامتهم، ولم يسمع ابن عمر هذا، فبقي يفتي بما سمعه أولًا. كما أن حديثه في المواقيت ليس فيه ميقات أهل اليمن، لأنه وُقِّت بعدُ. وكما أفتى النساء بالقطع حتى حدَّثته
(1)
في النسختين: «مأمور» بالرفع.
عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخّص للنساء في الخفاف مطلقًا، وأنهن لم يُعنَينَ بهذا الخطاب.
ولهذا أخذ بحديثه بعض المدنيين في أن السراويل لا يجوز لبسه، وأن لابسه للحاجة عليه الفدية حيث لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم فيه. ومعلوم أن هذا مُوجَب حديثه. فإذا نُسِخ موجب حديثه في السراويل نُسِخ موجبه في الخف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهما جميعًا وسبيلهما واحد.
قال مالك
(1)
وقد سُئل [عما ذُكِر عن] النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لم يجد إزارًا فليلبس سراويل» ، قال مالك: لم أسمع بهذا، ولا أرى أن يلبس المحرم سراويل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس السراويلات فيما نَهى عنه من لُبس الثياب التي لا ينبغي للمحرم أن يلبسها، ولم يستثنِ فيها كما استثنى في الخفين.
[ق 235] فهذا قول من لم يبلغه حديث ابن عباس. وقد أحسن فيما فهم مما سمع.
الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم لما قال: «الخِفاف لمن لم يجد النعلين، والسراويل لمن لم يجد الإزار» لو قصد بذلك الخف
(2)
المقطوع لوجب أن يقصد بذلك السراويل المفتوق؛ لأن المقصود بقطع الخف تشبيهه بالنعل، فكذلك السراويل ينبغي أن يشبَّه بالإزار، بل فَتْق السراويل أولى لوجوه:
أحدها: أنه مُحيطٌ
(3)
بأكثر مما يحيط به الخف.
(1)
في «الموطأ» (1/ 325). وما بين المعكوفتين منه، وفي النسختين بياض.
(2)
«الخف» ليست في ق.
(3)
في النسختين «مخيط» بالخاء، والصواب ما أثبت، كما يدل عليه السياق.
والثاني: أنه ليس في فتْقِه إفسادٌ له، بل يمكن إعادته سراويلًا بعد انقضاء الإحرام.
والثالث: أن فَتْق السراويل يجعله بمنزلة الإزار، حتى يجوز لبسه مع وجود الإزار بالإجماع، بخلاف قطع الخف، فإنه يقرِّبه إلى النعل ولا يجعله مثله. فإذا لم يُقصَد بالسراويل [إلا السراويل]
(1)
المعروف كما تقدم، فالخف أولى أن لا يُقصَد به إلا الخف المعروف. وإن جاز أن يُدَّعى أنه اكتفى بما ذكره أولًا
(2)
من القطع، جاز أن يُدَّعى أنه اكتفى بالمعنى الذي نبَّه عليه في الأمر بالقطع، وهو تغيير صورته إلى ما يجوز لبسه، وذلك مشترك بين الخف والسراويل، بل هو بالسراويل أولى، فإن تقييد المطلق بالقياس جائز كتقييده بلفظ آخر. لكن هذا باطل لما تقدم، فالآخر مثله. وهذا معنى ما ذكره مهنّا
(3)
لأبي عبد الله وقد حكى له أنه ناظر بعض أصحاب الشافعي في قطع الخفين، وأن سبيل السراويل وسبيل الخف واحد. فتبسَّم أبو عبد الله، وقال: ما أحسنَ ما احتججتَ عليه!
الوجه الرابع: أن المطلق إنما يُحمل على المقيَّد إذا كان اللفظ صالحًا له عند الإطلاق ولغيره، فيتبيَّن باللفظ المقيد أنما المراد هو دون غيره، مثل قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، فإنه اسم مطلق يدخل فيه المؤمنة والكافرة، فإذا عُني به المؤمنة جاز لأنها رقبة وزيادة. وكذلك صوم ثلاثة أيام يصلح للمتتابعة وللمتفرقة، فإذا بيّن أنها متتابعة جاز.
(1)
ما بين المعكوفتين ليس في النسختين، والسياق يقتضيه.
(2)
في النسختين: «إلا» . والصواب ما أثبت بدلالة السياق.
(3)
كما في «التعليقة» (1/ 341، 342).
وهنا أمر بلبس الخفّ والسراويل، ومتى قُطِع الخف حتى صار كالحذاء وفُتِقَ السراويل حتى صار إزارًا، لم يبقَ يقعُ عليه اسم خف ولا سراويل. ولهذا إذا قيل: امسح على الخف، ويجوز المسح على الخف، وأمرنا أن لا ننزِعَ خفافنا= لم يدخل فيه المقطوع والمَدَاس
(1)
، ولا يُعرف في الكلام أن المقطوع والمَدَاس ونحوهما يسمَّى خفًّا، ولهذا في حديث: «فليلبس [الخفَّين]
(2)
وليقطَعْهما حتى يكونا أسفلَ من الكعبين»، فسماهما خفَّين قبل القطع، وأمر بقطعهما كما يقال: افْتِقِ السراويلَ إزارًا، واجعلِ القميصَ رداء، ومعلوم أنه إنما يسمى قميصًا وسراويل قبل ذلك. فعُلِم أن المقطوع لا يسمَّى بعد قطعه خفًّا أصلًا، إلا أن يقال: خف مقطوع، كما يقال: قميص مفتوق، وهو بعد الفتق ليس بقميص ولا سراويل، وكما يقال: حيوان ميت، وهو بعد الموت ليس بحيوان أصلًا، فإن حقيقة الحيوان الشيء الذي به حياة، وكما يقال لعظام الفرس: هذا فرس ميت، ويقال لخلّ الخمر: هذا خمر مستحيل، ومعلوم أنه ليس خمرًا؛ يسمَّى الشيء باسم ما كان عليه إذا وُصِف بالصفة التي هو عليها الآن؛ لأن مجموع الاسم والصفة يُنبِئ عن حقيقته، فإذا ذُكِر الاسم وحده لم يجز أن يراد به إلا معناه الذي هو معناه. والنبي صلى الله عليه وسلم أمر هنا بلبس الخف، وما تحت الكعب لا يسمى خفًّا، فلا يجوز حملُ الكلام عليه، فضلًا عن تقييده به، بخلاف الرقبة المؤمنة والأيام المتتابعات، فإنها رقبة وأيام، وهذا بيِّن واضح.
الوجه الخامس: أنه لو سُمِّي خفًّا فإن وجوده نادر، فإن الأغلب على
(1)
نوع من الأحذية لا يغطّي أعقاب الرجلين.
(2)
زيادة من الحديث المشار إليه، وقد سبق ذكره.
الخفاف الصحة، وإنما يقطع الخفَّ من له في ذلك غرضٌ. والنبي صلى الله عليه وسلم قال:«السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفاف لمن لم يجد النعال» ، فذكر الخفاف بصيغة الجمع معرَّفةً بلام التعريف، وهذا يقتضي الشمول والاستغراق، فلو أراد بذلك ما يقلُّ وجوده من الخفاف لكان حملًا للفظ العام على صورةٍ
(1)
نادرة، وهذا غير جائز أصلًا.
ولهذا أبطل الناس تأويل من تأوَّل قوله: «أيُّما امرأةٍ نكحتْ نفسَها بغير إذن وليِّها»
(2)
على المكاتبة، فكيف إذا كانت تلك الصورة
(3)
النادرة بعض مجازات اللفظ؟ فإنه أعظم في الإحالة، لأن من تكلَّم بلفظ عام، وأراد به ما يقلُّ
(4)
وجوده من أفراد ذلك العام ويندر، ولا يسمَّى به إلا على وجه التجوُّز مع نوع قرينة، مع أن الأغلب وجودًا واستعمالًا غيرُه= لا يكون مبينًا بالكلام بل مُلْغِزًا، وهذا أصل ممهَّد في موضعه.
وكذلك رواية من روى: «من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزارًا فليلبس سراويل» ، فإن [ق 236] الخفين مطلق، وتقييد المطلق مثل تخصيص العام، فلا يجوز أن يقيَّد بصورة نادرة الوجود، ولا يقع عليها الاسم إلا مجازًا بعيدًا، وصار مثل أن يقول: البسْ قميصًا، ويعني به قميصًا
(1)
س: «صور» .
(2)
أخرجه أبو داود (2083) والترمذي (1102) وابن ماجه (1879) من حديث عائشة. وحسَّنه الترمذي، وصححه ابن حبان (4074) والحاكم (2/ 168). وقد بسط الكلام عليه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 105 - 107) والحافظ في «التلخيص الحبير» (3/ 156، 157).
(3)
س: «الصور» .
(4)
في النسختين بعدها: «به» . ولا حاجة إليها.
بُقِرتْ أكمامه وفُتِقتْ أوصاله، فإن وجود هذا نادر، وبتقدير وجوده لا يسمُّونه قميصًا.
ولما تفطَّن جماعة من أهل الفقه لمثل هذا [و] علموا أن أحد الحديثين لا يجوز أن يُعنى به ما عُني بالآخر، لم يكن لهم طريق إلا أن قالوا: هما حديث واحد، فيه زيادة حفظها بعضهم وأغفلها غيره.
وقد بيّنا أنهما حديثان. وبهذا الذي ذكرنا يتبيَّن بطلان ما قد يُورَد على هذا، مثل أن يقال: التخصيص والتقييد أولى من النسخ، أو أن من أصلنا أن العام يُبنى على الخاص، والمطلق على المقيد، وإن كان العام والمطلق هما المتأخران في المشهور من المذهب، فإنما ذاك حيث يجوز أن يكون التخصيص والتقييد واقعًا، فيكون الخطاب الخاصّ المقيّد يبيّن مراد المتكلم من الخطاب العام المطلق. أما إذا دلَّنا دليل على أن المراد باللفظ إطلاقه وعمومه، أو
(1)
أن تخصيصه وتقييده لا يجوز، أو أن اللفظ ليس موضوعًا لتلك الصورة المخصوصة المقيدة، أو كان هناك قرينة تبيِّن قصد النسخ والتغيير، إلى غير ذلك من الموجبات= فإنه يجب المصير إليه. وببعض ما ذكرناه صار قولُه:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] ناسخًا
(2)
لقوله: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217]، و
(3)
قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ناسخًا لقوله: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 191]، فكيف وما ذكرناه بعيد عن المطلق والمقيد.
(1)
ق: «و» .
(2)
س: «ناسخ» . وسيأتي بالنصب فيما يلي.
(3)
«قولُه
…
و» ساقطة من ق.
الوجه السادس: أن عبد الرحمن لما أنكر عليه عمر الخفَّ قال: «قد لبستُه مع من
(1)
هو خير منك» يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد بيَّن أنه لبس الخف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما كان خفًّا صحيحًا، وهذا بيِّن.
السابع: أن أكابر الصحابة مثل عمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وعائشة وابن عباس رخّصوا في لبس الخفين والسراويلات وتَرْك قطعهما، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى المحرم عن لبس الخفاف والسراويلات نهيًا عامًّا قد علم ذلك كل أحد، فترخيصهم لمن لم يجد الإزار والنعل أن يلبس السراويل والخف لا يجوز أن يكون باجتهادٍ، بل لا بدَّ أن يكون عن علمٍ عندهم بالسنة. ثم ابن عمر أمر بالقطع، وغيرُه لم يأمر به، بل جوَّز لبسَ الصحيح، ومعلوم أن ابن عمر اعتبر سماعه بالمدينة، فلو لم يكن عند الباقين علمُ ناسخٍ ينسخ ذلك، ومجيءِ الرخصة في بعض ما قد كان حُظِر
(2)
، لم يُحِلّوا الحرام، فإن القياس لا يقتضي
…
(3)
.
الثامن: أن من أصحابنا من حملَ حديث ابن عمر على جواز القطع كما سيأتي، ويكون فائدة التخصيص أن قطعهما في غير الإحرام يُنهى عنه بخلاف حال الإحرام، فإن فيه فائدة وهو التشبيه بفعل المحرم، ويقوِّي ذلك أن القطع كان محظورًا لأنه إضاعة للمال، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال
(4)
، وصيغة
(1)
في النسختين: «لبسه من» خطأ.
(2)
ق: «حضر» تصحيف.
(3)
بياض في النسختين.
(4)
كما في حديث المغيرة بن شعبة الذي أخرجه البخاري (2408، 5975) ومسلم (بعد رقم 1715)، وحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم (1715).
«افْعَلْ» إذا وردت بعد حَظْرٍ إنما تفيد مجرد الإذن والإباحة.
وهذا الجواب فيه نظر.
فعلى هذا هل يُستحبُّ قطعهما؟ قال بعض أصحابنا: يُستحبُّ لأن فيه احتياطًا وخروجًا من الخلاف.
وقال القاضي
(1)
وابن عقيل وأبو الخطاب في حديث ابن عمر: يُحمل قوله «وليقطعهما» على الجواز، ويكون فائدة التخصيص أنه يُكره قطعهما لغير الإحرام لما فيه من الفساد، ولا يُكره للإحرام لما فيه من التشبيه بالنعلين اللتين
(2)
هما شعار الإحرام.
وقال أحمد في رواية مهنا
(3)
: ويلبس الخفين ولا يقطعهما. حديث ابن عباس لا يقول فيه: يقطعهما. هُشيم، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب: «إذا لم يجد المحرم نعلين فليلبس الخفين» ، وذكر حديث ابن عباس قال: وقد رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أبو الزبير عن جابر
(4)
، وقد كره القطع عطاء وعكرمة، فقالوا: القطع فساد
(5)
.
(1)
في «التعليقة» (1/ 352).
(2)
في النسختين: «التي» .
(3)
أشار إليها القاضي في «التعليقة» (1/ 347)، ولم يوردها.
(4)
رواه أحمد ومسلم، وقد سبق.
(5)
أثر عكرمة أخرجه ابن أبي شيبة (14858) بلفظ: «يتخفَّف إذا لم يجد نعلين» قيل: أيشقّهما؟ قال: «إن الله لا يحبّ الفساد» . وأثر عطاء نقله الخطابي في «معالم السنن» (2/ 345) وابن عبد البر في «الاستذكار» (11/ 32) بنحوه.
وقال في رواية أبي طالب
(1)
: ويُروى عن علي بن أبي طالب: قطعُ الخفَّين فساد
(2)
. يلبسهما كما هما. ولو كان عليه كفارة في لُبسهما ما كان رخصة.
وهذا الكلام يقتضي كراهة قطع الخف. وهذا أصح؛ لأن الأمر بقطعهما منسوخ كما تقدم، وقد اطلعوا على ما خفي على غيرهم.
فإن قيل: فهلّا أوجبتم الفدية مع اللُّبس؟ لأن أكثر ما فيه [ق 237] أنه قد لبس السراويل والخف لحاجة. والمحرم إذا استباح
(3)
شيئا من المحظورات لحاجة فلا بدَّ له من الفدية، كما لو لبس القميص أو العمامة لبردٍ أو حرٍّ أو مرضٍ.
قلنا: لو خُيِّل إلينا أن هذا قياس صحيح لوجب تركه، لأن الذي أوجب في حلق الرأس ونحوه للحاجةِ الفديةَ هو الذي أباح لبس السراويل والخف بغير فدية، حيث أباح ذلك. ولو أوجب الفدية لما أمر بقطعه أولًا وسِيَّما
(4)
من غير فديةٍ كما تقدم تقريره. فإذا قِسْنا أحدهما بالآخر كان ذلك بمنزلة قياس البيع على الربا، فإنه لا يجوز الجمع بين ما فرَّق الله بينه، فكيف وقد
(1)
أشار إليها القاضي في المصدر السابق. ونحوها رواية أبي داود في «مسائله» (ص 173).
(2)
لم أقف على قول علي مُسندًا إليه.
(3)
ق: «احتاج» .
(4)
الكلمة في النسختين مرسومة بدون نقطة، وهكذا استظهرتها. والأصل استخدامها مع «لا» ، فيقال:«ولاسيَّما» . وربّما تُحذف «لا» للعلم بها، وهي مرادة، لكنه قليل. انظر «تاج العروس» (سوو).
تبيَّن لنا أنه قياس فاسد.
وذلك أن ترك واجبات الحج وفعل محظوراته يوجب الفدية إذا فُعِلَت لعذرٍ خاص يكون ببعض الناس بعضَ الأوقات، فأما ما رُخِّص فيه للحاجة العامة وهو ما يُحتاج إليه في كل وقت غالبًا فإنه لا فدية معه. ولهذا رخّص للرُّعاة والسُّقاة في ترك المبيت بمنى من غير كفارة؛ لأنهم يحتاجون إلى ذلك كلَّ عام، ورخّص للحائض أن تنْفِر قبل الوداع من غير كفارة؛ لأن الحيض أمر معتاد غالب. فكيف بما يحتاج إليه الناس وهو الاحتذاء والاستتار، فإنه لمَّا احتاج إليه كلُّ الناس لِمَا في تركهما من الضرر شرعًا وعرفًا وطبعًا= لم يَحتجْ هذا المباح إلى فدية، لاسيَّما وكثيرًا ما يُعدَل إلى السراويل والخف للفقر، حيث لا يجد ثمن نعل وإزار، فالفقر أولى بالرخصة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن الصلاة في ثوب واحد، قال:«أوَ لكلِّكم ثوبانِ؟»
(1)
.
فإن قيل: فهو يحتاج إلى سَتْر منكبيه أيضًا للصلاة، فينبغي إذا لم يجد رداءً
(2)
أن يلبس القميص.
قلنا: يمكنه أن يتَّشِح بالقميص كهيئة الرداء من غير تغييرٍ لصورته، وذلك يُغنيه عن لبسه على الوجه المعتاد.
فصل
ومعنى كونه لا يجده: أن لا يُباع، أو يجده يُباع وليس معه ثمن فاضل
(1)
أخرجه البخاري (358) ومسلم (515) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
في النسختين: «ازارا» . والمثبت يقتضيه السياق.
عن حوائجه الأصلية، كما قلنا في سائر الأبدال في الطهارة والكفارات وغير ذلك، بحيث لا يجب عليه قبوله هبةً، ويقدّم على ثمنه قضاء دينه ونفقة طريقه ونحو ذلك. فإن بُذِل له عاريةً فينبغي أن لا يلزمه قبوله، وإن أوجبنا عليه قبوله إعارة السترة في الصلاة؛ فإنّ لُبسَ النعل والإزار مدة الإحرام تؤثِّر فيه وتُبلِيه
(1)
، ومثل ذلك لا يخلو عن مِنَّة، بخلاف لبس الثوب مقدار الصلاة.
فإن غلب على ظنه أنه يجده بالثمن عند الإحرام لم يلزمه حملُه، فإن وجده وإلا انتقل إلى البدل. وإن غلب على ظنه أنه لا يجده فهل عليه اشتراؤه من مكان قريب وبعيد، وحملُه إذا لم يشُقَّ؟
…
(2)
.
فإن فرَّط في ذلك ....
وأما العبد إذا كان سيده يقدر أن يُلبِسه إزارًا ونعلًا فهل يلزمه ذلك؟ على روايتين:
إحداهما: لا يلزمه ذلك كالحرّ الفقير؛ لأنه لا مال له، قال في رواية الميموني في حديث عائشة وأنها كانت تُلْبِس مماليكَها التَّبابِين
(3)
، علَّله بأنهم مماليك.
والثانية: يلزمه ذلك، قاله
(4)
في رواية الأثرم.
ومثل هذا إذا تمتَّع بإذنه هل يلزمه دم التمتع؟ فيه وجهان.
(1)
كذا بتأنيث الفعلين توهمًا لرجوع الضمير فيهما إلى «مدة» .
(2)
بياض في النسختين هنا وفيما يلي.
(3)
صحّ ذلك عنها، وسيأتي لفظه و تخريجه.
(4)
س: «قال» .
فأما إن أحرم بدون إذن السيد ولم يُحلِّله أو لم يمكِّنه من تحليله، فلا يلزمه لباسه بلا تردُّد، كالدماء التي تجب بفعل العبد لا يلزم السيدَ منها شيء.
فإن وجده ولم يُمكِنه لبسُه فقد قال أحمد في رواية أبي داود
(1)
فيمن لبس الخف وهو يجد النعل إلا أنه لا يمكنه لبسهما: يلبسه ويفتدي.
وهذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رخَّص في لُبسهما لمن لم يجد، فإذا وجد انتفت هذه الرخصة، وبقيت الرخصة للعذر، وتلك لا بدّ فيهما من فدية.
وقال:
…
(2)
وهذا نوعان:
أحدهما
(3)
: أن يضيق عن رجله بحيث لا يدخل في قدمه، لكبر قدمه
(4)
أو لصغرها
(5)
، أو يكون الإزار ضيِّقًا لا يستر عورته ونحو هذا، فهذا بمنزلة من وجد ماء لا يُتوضأ به، أو رقبةً لا يصحُّ عتقها هو كالعادم. وكلام أحمد ليس في
(6)
هذا.
الثاني: أن يسع قدَمَه لكن لا يُمكِنه لُبسها لمرضٍ في قدمه، أو لم يعتَدِ المشيَ فيها، فإذا مشى فيها تعثَّر وانقطعت
(7)
ونحو ذلك، أو يصيب أصابعَه
(1)
في «مسائله» (ص 173). ونقلها القاضي في «التعليقة» (1/ 347).
(2)
بياض في النسختين.
(3)
«أحدهما» ساقطة من المطبوع.
(4)
«لكبر قدمه» ساقطة من المطبوع.
(5)
في المطبوع: «لصغره» خلاف ما في النسختين، والضمير يرجع إلى القدم.
(6)
«في» ساقطة من المطبوع.
(7)
ق: «أو انقطعت» .
شوكٌ أو حصًى، أو لا يقدر أن يُسرِع
(1)
في السير فيخاف فوتَ
(2)
الرُّفقة، أو يكون عليه عمل [ق 238] لا يُمكِنه أن يعمله.
ووجه [ذلك]
(3)
ما روى عبد الرحمن بن القاسم عن عائشة أنها حجَّت ومعها غلمان لها، فكانوا إذا شدُّوا رحْلَها يبدو منهم الشيء، فتأمرهم أن يتخذوا التَّبابين، فيلبسوها وهم مُحرِمون
(4)
.
وفي رواية عن القاسم قال: رأيت عائشة لا ترى على المحرم بأسًا أن يلبس التبَّان
(5)
.
وعن عطاء أنه كان يرخِّص للمحرم في الخف في الدُّلْجَة
(6)
.
وهذا يقتضي أنه إذا احتاج إلى السراويل والتبَّان ونحوهما للستر لكونه لا يستره الإزار، أو احتاج إلى الخفّ ونحوه لكونه لا يستطيع المشي في النعل= لا فدية عليه.
(1)
س: «يشرع» .
(2)
في المطبوع: «فوات» خلاف النسختين.
(3)
هنا بياض في النسختين.
(4)
أخرجه سعيد بن منصور ــ كما في «تغليق التعليق» (3/ 50) ــ بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة. وأخرجه ابن أبي شيبة (25358، 25364) بنحوه مختصرًا.
(5)
علّقه البخاري في «صحيحه» مع الفتح (3/ 396) بصيغة الجزم عن عائشة بلفظ: «ولم تر عائشة رضي الله عنها بالتبّان بأسًا للذين يرحِّلون هودجها» .
(6)
عزاه في «القِرى» (ص 193) إلى سعيد بن منصور. والدلجة: السير في الليل.
فصل
وأما المقطوع دون الخف والجُمْجُم
(1)
والمَدَاس ونحو ذلك مما يُصنع على مقدار القدم، فالمشهور في المذهب: أن حكمه حكم الخف، لا يجوز إلا عند عدم الخف، وهو المنصوص عنه؛ قال في رواية ابن إبراهيم
(2)
وقد سئل عن لبس الخفين دون الكعبين فقال: يلبسه ما لم يقدر على النعلين إذا اضطُرَّ إلى لبسهما.
وقال في رواية الأثرم
(3)
: لا يلبس نعلًا لها قَيْد، وهو السَّير يُجعل في الزِّمام معترضًا، فقيل له: فالخف المقطوع؟ قال: هذا أشدّ.
وقال في رواية المرُّوذي
(4)
: أكره المَحْمِل الذي على النعل والعَقِب، وكان عطاء يقول: فيه دم.
فإذا مُنِع من أن يجعل على النعل سَيْرًا فأن يُمنَع من الجُمجم ونحوه أولى.
وسواء نصب عقبه أو طواه، فإن عقبه
…
(5)
فإن لبسَه فذكر القاضي
(6)
والشريف وأبو الخطاب وابن عقيل وغيرهم أنه يفتدي
(7)
؛ لأن أحمد منع
(1)
هو نوع من المداس.
(2)
كما في «التعليقة» (1/ 353). وفيه «إبراهيم» بسقوط «ابن» . وهو إسحاق بن إبراهيم بن هانئ، والنصّ في «مسائله» (1/ 157).
(3)
كما في «التعليقة» (1/ 353، 354).
(4)
في المصدر السابق (1/ 354).
(5)
بياض في النسختين.
(6)
في «التعليقة» (1/ 353). وانظر المسألة في «المستوعب» (1/ 462).
(7)
في المطبوع: «يفدي» .
منه، وممنوعات الإحرام فيها الفدية؛ ولأنه قد نُقل عنه أن في النعال المكلَّفة والمعقَّبة
(1)
الفدية، فهذا أولى، وقد حكى قول عطاء كالمفتى به.
وذكر القاضي في «المجرد» وابن عقيل في بعض المواضع من «الفصول» أنه ليس له لباس المقطوعين، وأنه يكره النعال المكلَّفة ونحو ذلك، قال: ولا فدية في ذلك، قال: لأنه أخفّ حكمًا من الخف المقطوع، وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم لبسه، وسقطت الفدية فيه.
وذكر القاضي وابن عقيل في موضع من «خلافهما»
(2)
أنه إذا قطع الخفّين جاز لُبسهما وإن وجد النعلين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جوّز لُبسهما بعد القطع في حديث ابن عمر، فلولا أن قطعهما يخرجهما عن المنع لم يكن في القطع فائدة، وإنما ذكر جواز لبسهما مقطوعين لمن لم يجد النعل، لأنه إذا وجد النعل لم يجز له أن يقطع الخفَّ ويُفسِده، وإن كان لُبس المقطوع جائزًا، فإذا عَدِمَ النعلَ صار مضطرًّا إلى قطعهما
(3)
.
ويؤيِّد هذا أنه قد تقدَّم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخِّص في حديث ابن عمر في لبس السراويل ولا خفٍّ
(4)
، وإنما رخّص بعدُ [في] عرفات، فعُلِم أن قوله: «فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفلَ من
(5)
الكعبين» بيان لما
(1)
المكلَّفة: التي أضيف إليها الكُلْفة، وهي أنواع من رقيق النسيج والشُّرُط. والمعقَّبة: المشدودة بالعَقَب، وهو العَصَب الذي تُعمل منه الأوتار.
(2)
انظر «التعليقة» للقاضي (1/ 348) و «الإنصاف» (8/ 251، 252).
(3)
في المطبوع: «قطعها» .
(4)
في المطبوع: «ولا الخفّ» خلاف النسختين.
(5)
«من» ساقطة من المطبوع.
يجوز لبسه ويخرج به عن حد الخف الممنوع، ويصير بمنزلة النعل المباح، وإلّا لم يكن فرقٌ بين لبسهما مقطوعين وصحيحين، وجعل ذلك لمن لم يجد النعل لما تقدم، ثم إنه رخَّص بعد ذلك في لبس الخف والسراويل للعادم، فبقي المقطوع كالسراويل المفتوق يجوز لبسه بكل حال.
وأيضًا فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى المحرم عن الخف كما رخَّص في المسح على الخف. والمقطوعُ وما أشبهه
(1)
من الجُمْجُم والحذاء ونحوهما ليس بخف ولا في معنى الخف، فلا يدخل في المنع كما لم يدخل في المسح، لاسيَّما ونهيه عن الخف إذنٌ فيما سواه؛ لأنه سئل عما يلبس المُحرِم من الثياب، فقال:«لا يلبس كذا» فحصر المحرَّم، فما لم يذكره فهو مباح.
وأيضًا فإنه إمّا أن يُلْحق بالخف أو بالنعل، وهو بالنعل أشبه، فإنه لا يجوز المسح عليه كالنعل.
وأيضًا فإن القدم عضو يحتاج إلى لُبس، فلا بدَّ أن يباح ما تدعو إليه الحاجة. وكثير من الناس لا يتمكّن من المشي في النعل، فلا بدَّ أن يرخَّص لهم فيما يُشبهه من الجُمْجُم والمَدَاس ونحوهما، وهو في ذلك بخلاف اليد، فإنها لا تُسْتَر بالقفَّاز ونحوه لعدم الحاجة.
ووجه الأول: قوله في حديث ابن عمر «ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين، فليقطَعْهما حتى يكونا أسفلَ من الكعبين» ، وفي لفظ صحيح
(2)
: «إلا
(1)
في المطبوع: «وما أشبه» .
(2)
أخرجه أحمد (5003).
أن يضطرَّ يقطعه من عند الكعبين»، وفي رواية
(1)
: «إلا أن يضطرَّ مضطرٌّ فيقطعهما أسفلَ من الكعبين» ، وفي روايات متعددة
(2)
: «ولا الخفين إلا أحد لا يجد نعلين فليلبسهما أسفل من الكعبين» . فلم يرخِّص في لبس المقطوع إلا لعادم النعل، وعلَّقه باضطراره إلى ذلك، [ق 239] وهذا صريح في نهيه عنه إذا لم يضطر وإذا كان واجدًا، وليس بمفهوم
(3)
.
قالوا: وإنما أمر أولًا بالقطع ليقارب النعلَ، لا ليصير مثلَه من كل وجه، إذ لو كان مثله من كل وجه لم ينه عنه إلا في الضرورة، ثم إنه نسخ ذلك كما تقدم.
ويؤيِّد ذلك أنه قال في حديث ابن عمر: «وليُحرِمْ أحدكم في إزار ورداء ونعلين»
(4)
، فلما كانت الأعضاء التي يحتاج إلى سترها ثلاثةً ذكر لكل واحد نوعًا غير مخيطٍ على قدره، والأمر بالشيء نهيٌ عن ضدّه. فعُلِم أنه لا يجوز الإحرام إلا في ذلك، ولأنه مَخِيط مصنوع على قدر العضو، فمنع منه المحرم كالمخيط لجميع الأعضاء. والحاجة إنما تدعو إلى شيء يَقِيْه مسَّ قدمِه الأرضَ، وذلك يحصل بالنعل، [و] لَمَّا لم يثبتْ بنفسه رُخِّص
(5)
له في سُيورٍ تُمسِكه، كما يُرخَّص في عقد الإزار لمّا لم يثبتْ إلا بالعقد.
(1)
عند أحمد (4868)، وقد سبقت.
(2)
أخرجها مالك (1/ 325) وأحمد (5166، 5325) والبخاري (1543، 5803) ومسلم (1177/ 1) بنحوه.
(3)
أي هذا صريح معنى الحديث، وليس مفهومًا مخالفًا له.
(4)
سبق تخريجه.
(5)
في النسختين: «رخصة» . ولعل الصواب ما أثبت.
فأما ستر جوانب قدمه وظهرها وعَقِبَيْه
(1)
فلا حاجة إليه، فلُبْس ما صُنع لستره ترفُّهٌ ودخولٌ في لباس العادة كلبس القفَّاز والسراويل، ولأن نسبة الجُمْجُم ونحوه إلى النعل كنسبة السراويل إلى الإزار، فإن السراويل
…
(2)
.
فعلى هذا قال أحمد في رواية الأثرم
(3)
: لا يلبس نعلًا لها قيدٌ، وهو السَّير في الزمام معترضًا، فقيل له: فالخف المقطوع؟ فقال: هذا أشدُّ. وقال حرب: سئل أحمد عن النعل يوضع عليها شِراك بالعرض على ظهر القدم كما يفعله المُحْرِس
(4)
يلبسه المحرم، فكرهه. وقال في رواية المرُّوذي
(5)
: أكره المحمل والعَقَب
(6)
الذي يُجعل للنعل، وكان عطاء يقول: فيه دم.
والقيد والمحمل واحد، قال القاضي وغيره: هي النعال المكلَّفات.
واختلف أصحابنا: فمنهم من حمله على التحريم بكل حال على عموم كلامه؛ قال ابن أبي موسى
(7)
: ويزيل ما على نعله من قيدٍ أو عَقبٍ، فإن لم يفعل فعليه دم.
(1)
في المطبوع: «عقيبته» خطأ.
(2)
بياض في النسختين.
(3)
كما في «التعليقة» (1/ 353، 354). وقد سبق ذكرها.
(4)
اسم فاعل من أحْرسَ بالمكان: أقام به حَرْسًا.
(5)
انظر «التعليقة» (1/ 354).
(6)
العَقَب: العصب الذي تُعمل منه الأوتار.
(7)
في «الإرشاد» (ص 166).
وقد روي عن أحمد في القيد في النعل يفتدي؛ لأنا لا نعرف النعال هكذا.
ومعنى القيد: سَيْر ثانٍ على ظهر القدم. والعَقَب: الذي يكون في مؤخر القدم، وهذا لأن القدر الذي يحتاج إليه النعل من السيور: الزِّمام، لأنه يمنع النعل من التقدم والتأخر، والشِّراك فإنه إذا عقده امتنع من أن ينتحي يمينًا وشمالًا. فأما سيرٌ ثانٍ على ظهر القدم مع الشراك، أو عَقَبٌ بإزاء الزِّمام فلا حاجة إليه.
ولأنه ستر ظهر القدم وجانبه بما صنع له مما لا حاجة إليه، فهو كما لو ستره بظهر قدم الجُمْجُم وعقبه، وهذا لأن الظهر والعقب يصير بهما بمنزلة المَدَاس، ويصير القدم في مثل الخف، فأشبه ما لو صنع قميصًا مُشكَّكًا
(1)
، أو لبس خفًّا مخرَّقا، فإنه بمنزلة القميص والخفّ السليمين.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح النعال وأذِنَ فيها، فخرج كلامه على النعال التي يعرفونها، والقيد والعَقَب مُحدَثان يصير بهما النعل شبيهًا بالحذاء؛ كالرداء إذا زرَّره أو خلَّله فإنه يصير كالبَقِير من القُمصان.
وهذا القول مقتضى كلامه، وهو أقيسُ على قول من يمنع المحرم من الجُمْجُم، وهو أتبع للأثر.
(1)
في النسختين: «مشكا» ، وفي المطبوع:«مشبكًا» ، تحريف. والصواب ما أثبته، والمعنى: مخروقًا. يقال: شَكَّ الشيءَ: خرقه. وهو هنا من باب «فَعَّل» للمبالغة، مثل خَرَق وخَرَّق.
وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما: إنما كره ذلك إذا كان العقب والقيد عريضًا يستر بعض الرجل، قالوا: ولا فدية في ذلك، قالوا: لأنه أخفُّ حكمًا من الخفّ المقطوع، وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم لبسه وسقطت الفدية فيه. وتخصيصُهم الكلام بالعريض
(1)
ليس في كلام أحمد تعرُّضٌ له، فإن الرقيق أيضًا يستر بحسبه، ولا حاجة إليه.
وأما إسقاط الفدية فيحتمله كلام أحمد حيث نطق بالكراهة، وحكى عن عطاء أن فيه دمًا، ولم يجزم به.
فأما إذا طوى وجهَ الجُمْجُم وعقبَه، وشدَّ رِجلَه بخيطٍ أو سَيْرٍ ونحوه، أو قيَّد النعل وعقبها ووضع قدمه عليه، أو كان الخف له سفلٌ ولا ظهرَ له
…
(2)
فأما إن [كان] لخُفِّه ظهرُ قدمٍ ولا سفلَ له ....
فصل
ولا فرق بين أن يكون اللباس الممنوع من قطن أو جلود أو ورق، ولا فرق في توصيله على قدر البدن بين أن يكون بخيوطٍ، أو أخِلَّةٍ، أو إبَرٍ، أو لَصوقٍ، أو عقدٍ، أو غير ذلك؛ فإن كل ما عُمل على هيئة المخيط فله حكمه، فلو شقَّ الإزار وجعل له ذيلين وشدَّهما على ساقيه لم يجز؛ لأنه كالسراويل وما على الساقين كالبالكتين
(3)
.
(1)
في المطبوع: «بالعريضة» خلاف النسختين.
(2)
بياض في النسختين هنا وفيما يأتي.
(3)
كذا في النسختين، ولعل الصواب:«كالتبابين» .
فصل
فأما القَباء
(1)
والدُّواج
(2)
والفَرَجِيّة
(3)
ونحو ذلك فإنه لا يُدخِل منكبيه فيه، بل يُنكِّسه إن شاء أو يرتدي به، هذا هو المنصوص عنه في رواية حرب
(4)
: لا يلبس الدُّواج ولا شيئًا يُدخِل منكبيه فيه. وفي رواية ابن إبراهيم
(5)
: إذا لبس القَباء لا يُدخِل عاتقَه فيه.
وقال الخرقي
(6)
: وإن طرح على كتفيه القَباء أو الدُّواج، فلا يُدخِل يديه في كُمَّيه.
وقال ابن أبي موسى
(7)
: لا يلبس القَباء والدُّواج، فإن اضطُرَّ إلى طَرْح الدواج على كتفيه لم يُدخِل يديه في الكُمَّين. [ق 240] وقد رُوِي عنه رواية أخرى أنه قال: لا يلبس المحرم الدُّواج ولا شيئًا يُدخل منكبيه فيه.
فحكى في المضطرِّ إلى لبسه روايتين؛ وذلك لأنه لم يشتمل على بدنه
(8)
على الوجه المعتاد، وهو محتاج في حفظه إلى تكلُّف، فأشبه الارتداء بالقميص.
(1)
ثوب يُلبس فوق الثياب أو القميص ويُتمنطَق به، وقد سبق ذكره.
(2)
هو المِعْطف الغليظ.
(3)
ثوب واسع طويل الأكمام يتزيَّا به العلماء.
(4)
كما في «التعليقة» (1/ 355).
(5)
كما في المصدر السابق. وفيه «إبراهيم» خطأ. وهو إسحاق بن إبراهيم بن هانئ. انظر «مسائله» (1/ 159).
(6)
في «مختصره» بشرحه «المغني» (5/ 128).
(7)
في «الإرشاد» (ص 160).
(8)
في النسختين: «يديه» تصحيف، والتصويب من «التعليقة» (1/ 355).