الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
304 -
(1)
عبد الملك ابن صالح
عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، أبو عبد الرحمن الأمير؛ ولي المدينة والصوائف للرشيد، ثم ولي الشام والجزيرة للأمين وتوفي سنة ست وتسعين (2) ومائة، وحدث عن أبيه ومالك بن أنس.
وكان أفصح الناس وأخطبهم، ولم يكن في عصره مثله في فصاحته وصيانته وجلالته، قيل ليحيى بن خالد البرمكي وقد ولى الرشيد عبد الملك المدينة: كيف ولاه المدينة من بين أعماله؟ قال: أحب أن يباهي به قريشاً، ويعلمهم أن في بني العباس مثله.
ودخل على الرشيد يوماً وقد توفي له ولد وجاءه ولد، فقال: يا أمير المؤمنين، سرك الله فيما ساءت، ولا ساءك فيما سرك، وجعل هذه بهذه، جزاء للشاكر، وثواباً للصابر.
وقيل له إن أخاك عبد الله يزعم أنك حقود، فقال:
إذا ما امرؤ لم يحقد الوتر لم تجد
…
لديه لدى النعما (3) جزاءً ولا شكرا ووجه إلى الرشيد فاكهة في أطباق الخيزران وكتب إليه: أسعد الله أمير المؤمنين وأسعد به، دخلت إلى بستان لي أفادنيه كرمك، وعمرته لي نعمك، قد أينعت أشجاره، وآنت ثماره، فوجهت إلى أمير المؤمنين من
(1) أخباره في تاريخ الطبري والمسعودي وابن الأثير وابن خلدون
…
الخ؛ وانظر النجوم الزاهرة 2: 90، 151 وزبدة الحلب 1: 64 وابن خلكان 6: 30.
(2)
ص ر: وسبعين.
(3)
ر ص: النعماء.
كل شيء شيئاً على الثقة والإمكان، في أطباق القضبان، ليصل إلي من بركة دعائه، مثل ما وصل إلي من كثرة عطائه. فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، لم أسمع بأطباق القضبان، فقال الرشيد: يا أبله، إنه كنى عن الخيزران إذ كان اسماً لأمنا.
ولما ودعه الرشيد وقد توجه (1) إلى الشام، قال له الرشيد: ألك حاجة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، بيني وبينك بيت يزيد بن الطثرية (2) حيث يقول:
فكوني على الواشين لداء شغبةً
…
كما أنا للواشي ألد شغوب ثم إن الرشيد جعل ابنه القاسم في حجر عبد الملك بن صالح، فقال عبد الملك يحض (3) الرشيد على أن يوليه العهد بعد أخويه الأمين والمأمون:
يا أيها الملك الذي
…
لو كان نجماً كان سعدا
للقاسم اعقد بيعةً
…
وأقد له في الملك زندا
الله فرد واحد
…
فاجعل ولاة العهد فردا فجعله الرشيد ثالثهما.
ثم وشى به بعد ذلك الناس، وتتابعت الأخبار عنه بفساد نيته للرشيد، فدخل عليه في بعض الأيام وقد امتلأ قلب الرشيد فقال له: أكفراً بالنعمة وغدراً بالإمام؟ فقال عبد الملك: قد بؤت إذاً بأعباء الذم (4) واستحلال (5) النقم، وما ذاك يا أمير المؤمنين إلا بغي حاسدٍ نافسٍ فيك وفي تقديم الولاية ومودة
(1) ر: وجهه.
(2)
ص ر: يزيد بن الدثنية، والبيت منسوب ليزيد بن الطثرية عند ابن سلام: 590 وورد في الأغاني 4: 269 (دار الثقافة) منسوباً لكثير عزة، وانظر ديوانه:523.
(3)
ص ر: يحظ.
(4)
ص: الذم؛ ر: النقمة.
(5)
ص: واستحال؛ ر: استحلال.
القرابة؛ يا أمير المؤمنين إنك خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته، وأمينه على عترته، لك عليها فرض الطاعة وأداء النصيحة، ولها عليك العدل في حكمها والتثبت في حادثها، فقال الرشيد: هذا قمامة كاتبك يخبر بفساد نيتك وسوء سيرتك، ثم أمر بإحضاره، وقال له الرشيد: تكلم غير خائف ولا هائب، فقال: أقول: إنه عازم على الغدر بك يا أمير المؤمنين والخلاف عليك، فقال عبد الملك: وكيف لا يكذب علي من خلفي من يبهتني في وجهي؟ فقال الرشيد: فهذا عبد الرحمن ابنك يقول بقول كاتبك ويخبر عن سوء ضميرك وفساد نيتك، وأنت لو أردت أن تحتج بحجة لم تجد أعدل من هذين فقال: يا أمير المؤمنين، عبد الرحمن بين مأمورٍ أو عاق، فإن كان مأموراً فمعذور، وغن كان عاقاً فهو عدو أخبر الله بعداوته وحذر منها فقال جل ثناؤه في محكم كتابه:" إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم " فنهض الرشيد فقال: أما أمرك فقد وضح، ولكن لا أعجل حتى أعلم ما الذي يرضي الله فيك فإنه الحكم بيني وبينك، فقال عبد الملك: رضيت الله حكماً وبأمير المؤمنين حاكماً، فإني أعلم أنه يؤثر كتاب الله على هواه، وأمر الله على رضاه.
ثم إنه دخل عليه في مجلس آخر وسلم فلم يرد عليه الرشيد، فلم يزل يعتذر ويحتج لنفسه بالبراءة حتى اقبل عليه بوجهه وقال: ما أظن الأمر إلا كما قلت يا أبا عبد الرحمن، فأنت محسد، وأمير المؤمنين يعلم أنك على سريرة صالحة غير مدخولة ولا خسيسة. ثم دعا عبد الملك بشربة ماء، فقال له الرشيد: ما شرابك يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: سحيق الطبرزد بماء الرمان، فقال: بخ بخ عضوان لطيفان يذهبان الظمأ ويلذان المذاق، فقال عبد الملك: صفتك لهما يا أمير المؤمنين ألذ من فعلهما.
ثم إن الرشيد تنكر له بعد ذلك فحبسه عند الفضل بن الربيع، ولم يزل محبوساً حتى توفي الرشيد، فأطلقه الأمين وعقد له بالشام، وجعل للأمين
عهد الله وميثاقه لئن قتل وهو حي لا يعطي للمأمون طاعة، فمات قبل قتل الأمين ودفن في دار الإمارة بالرقة، فلما خرج المأمون يريد الروم أرسل إلى ابن عبد الملك: حول أباك من داري، فنبشت عظامه وحولت. وكتب إلى الرشيد وقد تغير عليه (1) :
أخلاي لي شجو وليس لكم شجو
…
وكل امرئ من شجو صاحبه خلو
من أي نواحي الأرض أبغي رضاكم
…
وأنتم أناس ما لمرضاتكم نحو
فلا حسن نأتي به تقبلونه
…
ولا إن أسأنا كان عندكم عفو فلما وقف عليها قال: والله إن كان قالها فقد أحسن، وإن كان رواها فقد أحسن:
وكتب إليه من السجن:
قل لأمير المؤمنين الذي
…
يشكره الصادر والوارد
يا واحد الأملاك في فضله
…
ما لك مثلي في الورى واحد
إن كان لي ذنب ولا ذنب لي
…
حقاً كما قد زعم الحاسد
فلا يضق عفوك عني فقد
…
فاز به المسلم والجاحد ومن شعره وهو في السجن:
لئن ساءني سجني لفقد أحبتي
…
وأني فيهم لا أمر ولا أحلي
لقد سرني عزي بترك لقائهم
…
وما أتشكى من حجابي ولا ذلي ولما أخرجه الأمين من السجن دفع إليه كاتبه وابنه، فقتل كاتبه، وهشم وجه ابنه بعمود، رحمه الله تعالى.
(1) مناه بيت في الإشارات الإلهية: 26.