الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترغيب في التواضع، والترهيب من الكبر والعجب والافتخار
1 -
عن عياض بن حمادٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
= لا ذنب لي قد رمت كتم فضائلي
…
فكأنما برقعت وجه نهار
وسترتها بتواضعي فتظلمت
…
أعناقها تعلو على الأستار
ومن الرجال معالم ومجاهل
…
ومن النجوم غوامض ودراري
والناس مشتبهون في إيرادهم
…
وتفاضل الأقوام في الإصدار
عمري لقد أوطأتهم طرق العلا
…
فعموا فلم يقفوا على آثاري
لو أبصروا بقلوبهم لاستبصروا
…
وعمي البصائر من عمى الأبصار
هلا سعوا سعي الكرام فأدركوا
…
أو سلموا لمواقع الأقدار
وفشت خيانات الثقات وغيرهم
…
حتى اتهمنا رؤية الأبصار
ولربما اعتضد الحليم بجاهل
…
لا خير في يمنى بغير يسار
وقال آخر:
ما للزمان على المروءة عار
…
ما عنده في منكر من عار
أشكو إلى الله الزمان فدأبه
…
عز العبيد وذلة الأحرار
لا غرو إن حسدت بنوء مناقبي
…
كل على مجرى أبيه جار
وارحمتا للحاسدين فنارهم
…
قد سعرت بعدا لها من نار
وإذا جرى ذكرى تكاد قلوبهم
…
تنشق أو تغتالني بشرار
كرهوا عطاء الله لي يا ويحهم
…
لشقائهم كرهوا صنيع الباري
ويزيدهم ناراً وقود قريحتي
…
وبلوغ أخباري إلى الأقطار
فاحذر بني الدنيا وكن في غفلة
…
عنهم وجانب كل كلب ضار
واحفظ لصاحبك القديم مكانه
…
لا تترك الود القديم لطاري
وقال المتنبي:
وهبني قلت هذا الصبح ليل
…
أيعمى العالمون على الضياء
تطيع الحاسدين وأنت مرؤ
…
جعلت فداءه وهم فدائي
وهاجي نفسه من لم يميز
…
كلامي من كلامهم الهراء (1)
وقال الطغرائي:
جامل عدوك ما استطعت فإنه
…
بالرفق يطمع في صلاح الفاسد
واحذر حسودك ما استطعت فإنه
…
إن نمت عنه فليس عنك براقد
إن الحسود وإن أراك توددا
…
منه أضر من العدو الحاقد
ولربما رضي العدو إذا رأى
…
منك الجميل فصار غير معاند
ورضا الحسود زوال نعمتك التي
…
أوتيتها من طارف أو تالد
فاصبر على غيظ الحسود فناره
…
ترمي حشاه بالعذاب الخالد =
_________
(1)
أي الساقط من الكلام.
إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا (1) حتى لا يَفْخَرَ (2) أحدٌ على أحدٍ، ولا يبغي (3) أحدٌ على أحدٍ" رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة.
2 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما نقصت صدقةٌ من مالٍ (4)، وما زاد الله عبداً بعفوٍ (5) إلا عزاً، وما تواضعَ أحدٌ للهِ إلا رفعهُ الله (6) " رواه مسلم والترمذي.
3 -
وعن نصيحٍ العنسي عن ركب المصري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طوبى (7) لمن تواضع في غير منقصةٍ (8)، وذَلَّ في نفسهِ (9) من غير مسألةٍ (10)، وأنفق مالاً جمعهُ في غير معصيةٍ، ورحمِ أهل الذل والمسكنةِ، وخالط أهل الفقه والحكمة. طوبى لمن طاب (11) كَسْبهُ، وصلحت سريرته (12)، وكَرُمَتْ علانيتهُ، وَعَزَلَ (13) عن الناس شَرَّهُ. طوبى لمن عمل بعلمهِ، وأنفق الفضلَ (14) من مالهِ، وأمسك الفضلَ من قولهِ (15) " رواه الطبراني، ورواته إلى نصيح ثقات، وقد حسن
= أو ما رأيت النار تأكل نفسها
…
حتى تعود إلى الرماد الهامد
تضفو على المحسود نعمة ربه
…
ويذوب من كمد فؤاد الحاسد
أراني أطنبت في الاستدلال على أضرار الحسد.
(1)
تظهروا اللين والبشاشة وحسن المعاملة.
(2)
يتكبر ويتعاظم.
(3)
يظلم ويتعدى. قال العلقمي: قال ابن رسلان لعله وحي إلهام أو برسالة. قال أبو زيد: مادام العبد يظن أن في الخلق من هو أشر منه فهو متكبر، وقيل التواضع: الاستسلام للحق وترك الإعراض عن الحكم من الحاكم، وقيل هو خفض الجناح للخلق ولين الجانب لهم، وقيل قبول الحق ممن كان كبيراً أو صغيراً شريفاً أو وضيعاً حراً أو عبداً ذكراً أو أنثى. قال بعضهم: رأيت في المطاف إنساناً بين يديه شاكرية يمنعون الناس لأجله عن الطواف. ثم رأيته بعد ذلك على جسر بغداد يسأل الناس فعجبت منه فقال لي إني تكبرت في موضع تتواضع الناس فيه فابتلاني الله بالذل في موضع ترتفع فيه الناس. وقال بعضهم: الشرف في التواضع والعز في التقوى، والحرية في القناعة. أهـ جامع صغير ص 339 جـ 1.
(4)
يبارك فيه ويدفع عنه المضرات فينجبر نقص الصورة بالبركة الخفية والنمو المبارك.
(5)
إقالة مذنب وسمحه.
(6)
زاده عزاً ويرفعه في الدنيا ويثبت له بتواضعه في القلوب منزلة سامية، ويرفعه الله عند الناس ويجل مكانه.
(7)
مكان في الجنة واسع جداً.
(8)
نقص ومعصية وارتكاب دنيئة.
(9)
خشع.
(10)
فقر وحاجة.
(11)
حل.
(12)
نيته.
(13)
منع.
(14)
الزائد عن قوته ودينه وقوت أهله.
(15)
حبس لسانه عن اللغو.
هذا الحديث أبو عمر النمري وغيره. وركب. قال البغوي: لا أدري سمع من النبي صلى الله عليه وسلم أم لا، وقال ابن منده: لا نعرف له صحبة، وذكر غيرهما أن له صحبة، ولا أعرف له غير هذا الحديث.
من مات وهو بريء من الكبر والغلول والدين دخل الجنة
4 -
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات، وهو بريء من الكبر (1) والغلول (2) والدَّيْنِ (3) دخل الجنة" رواه الترمذي، واللفظ له والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما، وقد ضبطه بعض الحفاظ، الكنز بالنون والزاي، وليس بمشهور، وتقدم الكلام عليه في الدَّيْن.
5 -
وعن طارقٍ قال: "خرج عمر رضي الله عنه إلى الشام، ومعنا أبو عبيدة، فأتوا على مخاضةٍ (4)، وعمر على ناقة له، فنزل وخلع خُفيه، فوضعهما على عاتقهِ (5) وأخذ بزمام ناقته (6) فخاض، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أنت تفعل هذا! ما يَسُرُّني أن أهل البلد استشرفوك (7) فقال: أوَّهْ (8)، ولو يَقُلْ ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً (9) لأمة محمدٍ. إنا كنا أذل قومٍ فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب
(1) التعالي على الناس والتعاظم والتجبر.
(2)
كل من خان في شيء خفية يسمى غلولاً: أي بعد عن الخيانة والسرقة الخفية.
(3)
أخذ أموال الناس: أي يدخل الجنة من تحلى بصفات ثلاث:
(أ) التواضع.
(ب) الأمانة.
(جـ) الاقتصاد الداعي إلى عدم الاقتراض.
(4)
مستنقع اجتمع فيه ماء كثير يخوضه المارون.
(5)
ما بين المنكب والعنق، وهو موضع الرداء.
(6)
بحطامها يقودها ويجرها.
(7)
اطلعوا عليك ورأوك.
(8)
كلمة توجع وتضجر.
(9)
مقيداً بسلاسل تمثيلاً به، من نكلته: قيدته ونكلت به إذا فعلت به ما ينكل به غيره واسم ذلك الفعل نكال قال تعالى: "فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها"(من سورة البقرة).
الدرس الأخلاقي من هذا الحديث تواضع ذلك الملك العظيم عزيز الجانب جليل القدر المطاع نافذ الأوامر المرموق بعين الاحترام يقود دابته ويخلع نعليه ويخوض الماء ويستنكر عليه صديقه سيدنا أبي عبيدة بن الجراح ويشهد بأن الله رفع أمة محمد بعد انحطاطها وأعزها بعد إذلالها بالإسلام على شريطة أن تعمل بآداب رسولها صلى الله عليه وسلم، وإذا حاد المسلمون عن قواعد دينهم ذاقوا الذل ألواناً.
العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله" رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرطهما.
6 -
وعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تواضع لله درجةً يرفعهُ الله درجةً حتى يجعلهُ الله في أعلى عِليينَ (1)، ومن تكبر على الله درجةً يضعهُ الله درجةً حتى يجعلهُ في أسفل سافلين (2)،
ولو أن أحدكم يعملُ في صخرةٍ صماء ليس عليها بابٌ، ولا كوةٌ لخرجَ ما غَيَّبَهُ للناس كائناً ما كان" رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه كلاهما من طريق دراج عن أبي الهيثم عنه وليس عند ابن ماجة: ولو أن أحدكم إلى آخره.
7 -
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا أعلمُهُ إلا رفعهُ قال: "يقول الله تبارك وتعالى: من تواضع لي هكذا (وجعل يزيدُ باطنَ كفهِ إلى الأرضِ وأدناها) رفعتهُ هكذا (وجعل باطن كفهِ إلى السماء، ورفعها نحو السماء) " رواه أحمد والبزار ورواتهما محتج بهم في الصحيح والطبراني، ولفظه: "قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه على المنبر: أيها الناس تواضعوا، فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تواضع لله (3) رفعهُ الله (4)، وقال: انتعش (5) نَعَشَكَ الله، فهو في أعين الناس عظيمٌ، وفي نفسهِ صغيرٌ، ومن تكبر قَصَمَهُ الله (6)، وقال: اخسأ (7)
فهو في أعين الناس صغيرٌ، وفي نفسه كبيرٌ".
(1) أسمى مكان في قلوب الناس، وفي الجنة في الفردوس.
(2)
أحط منزلة ويرمى في قاع جهنم، ففيه الترغيب في التواضع، والكوة المشكاة.
(3)
أي لأجل عظمة الله وخشيته.
(4)
زاده الله إجلالاً في الدنيا والآخرة.
(5)
أي ارتفع وانهض من عثرتك.
(6)
كسره وأخره، وفي المصباح قصمه الله: أي أهانه وأذله، وقيل قرب موته.
(7)
أبعد، يقال خسات الكلب: أي طردته وأبعدته والخاسي المبعد، ومنه قوله تعالى:"اخسئوا فيها ولا تكلمون"(108 من سورة المؤمنون). والخاسئ الصاغر القمئ، والمعنى الذي يشعر في نفسه الضعة والذلة لله والاحتياج لمساعدته ونفسه متواضعة احترمه الناس وعظموه وأجلوه والذي يتفاخر ويتكبر على الناس أذله الله وتراه من ضعف عقله معتزلاً مهاناً حقيراً ويحسب أنه كبير:
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر
…
على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه
…
إلى طبقات الجو وهو وضيع =
8 -
وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من آدميٍ إلا في رأسه حكمةٌ بِيَدِ مَلَكٍ، فإذا تواضع قيل للملكِ: ارفع حكمتهُ، وإذا تكبر قيل للملكِ: ضع حكمتهُ (1) " رواه الطبراني والبزار بنحوه من حديث أبي هريرة وإسنادهما حسن.
[الحكمة] بفتح الحاء المهملة والكاف: هي ما تجعل في رأس الدابة كاللجام ونحوه.
9 -
ورويَ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تواضع لأخيه المسلم رفعهُ الله، ومن ارتفعَ عليه (2) وَضَعَهُ الله (3) " رواه الطبراني في الأوسط.
10 -
وعن عبد الله، يعني ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال:"من يُرائي (4) يُرَائي الله به (5)، ومن يُسَمِّعُ يُسَمِّعُ الله به (6)، ومن تطاول تعظيماً (7) يخفضهُ الله (8)، ومن تواضع خشيةً يرفعهُ الله، الحديث" رواه الطبراني من رواية المسعودي، وليس في أصلي رفعه.
11 -
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والكبر (9)، فإن الكبر يكونُ في الرجل، وإن عليه العباءة (10) " رواه الطبراني في الأوسط، ورواته ثقات.
= إذا شئت أن تزداد قدراً ورفعة
…
فلن وتواضع واترك الكبر والعجبا
تواضع إذا ما نلت في الناس رفعة
…
فإن رفيع القوم من يتواضع
تواضع إذا ما كان قدرك عاليا
…
فإن اتضاع المرء من شيم العقل
(1)
كل إنسان بيد الله سبحانه وتعالى إذا أظهر اللين وعدم التكبر زاده الله إجلالاً واحتراماً وإلا أنزله إلى الدرجات الواطية وحقره.
(2)
تكبر جعله ساقطاً لا قدر له.
(3)
يقال تواضع لله: خشع وذل ووضعه الله فاتضع.
(4)
يظهر أعماله مفاخرة وانتظار المدح.
(5)
يفضحه ويظهر سوء نيته ولا يظفر من ريائه إلا بالخيبة والخذلان وسوء المصير.
(6)
أي من أظهر عمله رياءً للناس أظهر الله نيته الفاسدة في عمله يوم القيامة وفضحه على رءوس الأشهاد.
(7)
قهر وغلب وتفاخر.
(8)
يهينه.
(9)
احذروا التكبر.
(10)
أي ربما يلبس رداء فيتفاخر به ويتعاظم فيوجد الكبر: فحذر صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتطاولوا بحسن هندامهم أو يتفاخروا ببداعة حللهم وغلو ثمنها.
العز إزاري والكبرياء ردائي
12 -
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أحَبِّكم إليَّ، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إليَّ، وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون. قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارين والمتشدقين (1) فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون" رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، ورواه أحمد والطبراني، وابن حبان في صحيحه من حديث أبي ثعلبة، وتقدم.
[الثرثار] بثاءين مثلثتين مفتوحتين، وتكرير الراء: هو الكثير الكلام تكلفاً.
[والمتشدق]: هو المتكلم بملء شدقيه تفاصحاً وتعاظماً، واستعلاء على غيره، وهو معنى المتفيهق أيضاً.
13 -
وعن أبي سعيدٍ، وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عزوجل: العزُّ إزارهُ، والكبرياءُ رداؤهُ (2)،
فمن ينازعني عَذَّبْتُهُ (3)" رواه مسلم، ورواه البرقاني في مستخرجه من الطريق الذي أخرجه مسلم، ولفظه: "يقول الله عز وجل: العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني شيئاً منهما عذبتهُ" ورواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة وحده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفتهُ في النار".
(1) أي من الذين يحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسكنون في الجنة في الدرجة العالية بجوار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المتصفون بالأخلاق الكريمة المتحلون بالخلال الحميدة، والذين يكرههم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك المتجبرون المتعاظمون.
(2)
معناه: الله تعالى متصف بالعز والكبرياء. وهذا مجاز واستعارة حسنة، والضمير يعود إلى الله تعالى للعلم به كما تقول العرب: شعاره الزهد ودثاره التقوى ويريدون الصفة، وفي النهاية: والكبرياء العظمة والملك، وقيل هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود لا يوصف بها إلا الله تعالى، يقال كبر يكبر بالضم: أي عظم فهو كبير، والله أكبر: أي أعظم من كل شيء، وقيل أكبر من أن يعرف كنه كبريائه وعظمته، وفي أسماء الله تعالى المتكبر، والكبير: أي العظيم ذو الكبرياء، وقيل المتعالي عن صفات الخلق، وقيل المتكبر على عتاة خلقه، والتاء فيه للتفرد والتخصيص، لا تاء التعاطي والتكلف. أهـ.
(3)
يتخلق بذلك ويتكبر فيصير في معنى المشارك له سبحانه وتعالى، والله واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، فمن شابهه عاقبه "قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد"(1 - 4 سورة الإخلاص).
14 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله جل وعلا: الكبرياء ردائي، والعظمةُ إزاري، فمن نازعني واحداً منهما ألقيتهُ في النار" رواه ابن ماجة واللفظ له، وابن حبان في صحيحه كلاهما من رواية عطاء بن السائب.
15 -
وعن فضالة بن عُبيدٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثةٌ لايُسألُ عنهم: رجلٌ نازع الله رداءهُ، فإن رداءهُ الكبرُ (1)، وإزارهُ العِزُّ، ورجلٌ في شكٍ من أمر الله، والقُنُوطِ من رحمته" رواه الطبراني واللفظ له وابن حبان في صحيحه أطول منه.
16 -
وعن حارثة بن وهبٍ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا أخبركم بأهل النار؟ كُلُّ عُتُلٍ جَوَّاظٍ مُستكبرٍ (2) " رواه البخاري ومسلم.
[العُتُل] بضم العين والتاء وتشديد اللام: هو الغليظ الجافي (3).
[والجواظ] بفتح الجيم وتشديد الواو، وبالظاء المعجمة: هو الجموع المنوع، وقيل: الضخم المختال في مشيته، وقيل: القصير البطين (4).
17 -
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخلُ الجنة الجوَّاظُ (5)، ولا الجعْظَرِيُّ (6) " قال: والجواظُ الغليظ الفظ. رواه أبو داود.
أما أهل الجنة فالضعفاء المغلوبون
18 -
وعن سراقة بن مالك بن جعشمٍ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا سراقةُ ألا أخبرك بأهل الجنة، وأهل النار؟ قُلتُ: بلى يا رسول الله
(1) في (ن د): الكبرياء، وفي (ن ط وع): الكبر ص 254 - 2
(2)
أي الفظ شديد الخصومة، أو الفاحش الآثم ردئ الأخلاق.
(3)
كثير اللحم.
(4)
الفاجر المختال الغرور المعجب بنفسه المحقر دونه، أي صفات أهل النار المعذبين:
(أ) خشونة الطبع وسفاهة الرأي وقلة الأدب والقسوة.
(ب) الممتلئ صحة ونضارة ويقصر في أداء حقوق الله المتبع ملذاته المائل إلى شهواته العاصي ربه.
(جـ) كثير الفخر والكبرياء والرياء يحب الشهرة الكاذبة بلا عمل صالح خالص لوجه الله تعالى ويتعالى على الناس.
(5)
الجموع المنوع المختال في مشيته.
(6)
الفظ الغليظ المتكبر، وقيل هو الذي ينتفخ بما ليس عنده وفيه قصر. أهـ نهاية.
قال: أما أهل النار فكلُّ جَعْظَريٍّ جَوَّاظٍ مُستكبرٍ، وأما أهل الجنة فالضعفاء المغلوبون (1) " رواه الطبراني في الكبير والأوسط بإسناد حسن، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.
19 -
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازةٍ قال: ألا أخبركم بشرِّ عباد الله؟ الفظُّ المستكبرُ. ألا أخبركم بخير عباد الله؟ الضعيفُ المستضعفُ ذو الطِّمْرَيْنِ (2)
لا يُؤبَهُ له، لو أقسم على الله لأبَرَّهُ (3) " رواه أحمد، ورواته رواة الصحيح إلا محمد بن جابر.
20 -
وعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "احْتَجَّتِ (4) الجنة والنار، فقالتِ النارُ: في الجبارون (5) والمتكبرون، وقالت الجنة: في ضعفاء المسلمين (6) ومساكينهم، فقضى الله بينهما: إنك الجنة رحمتي أرْحَمُ بك من أشاء، وإنك النار عذابي أُعذبُ بك من أشاء، ولكليكما عليَّ مِلؤها (7) " رواه مسلم.
21 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ لا يُكلمهم الله (8) يوم القيامة، ولا يُزكيهم (9)،
ولا ينظرُ إليهم ولهم عذابٌ
(1) المقهورون المسلمون في أعمالهم لله تعالى الراضون بتيسير دفة الأمور له وحده.
(2)
تثنية طمر وهو الخلق، والمعنى يظهر عليه الضعف والذلة وخشية الله ملتجئاً إلى مولاه القوى القاهر وحده، لا يحترمه الناس ولا قدر عند الناس فهم يدفعونه عن أبوابهم ويطردونه عنهم احتقاراً له.
(3)
لو حلف على وقوع شيء أجاب الله سؤاله لعظم منزلته عند الله تعالى، والمعنى من أفاضل الناس الصالحين الأخيار الأبرار المتواضعون، ومن أصحاب السوء والشرور أصحاب القبائح السبابون الشتامون المصابون بالكبر.
(4)
أظهرت حجتها بلسان فصيح للأخرى: أي تخلصتما بلسان المقال أو الحال.
(5)
أي اختصصت وأوثرت بالظالمين والمتجبر الممنوع الذي لا يوصل إليه، أو الذي لا يكترث بأمر ضعفاء الناس وسقطهم، والمتكبر المتعظم بما ليس فيه.
(6)
المحتقرون بين الناس الساقطون من أعينهم لتواضعهم لربهم.
(7)
الله تعالى يملأ الجنة بالصالحين، والنار بالظالمين العصاة، قال تعالى:"فريق في الجنة وفريق في السعير"(7 من سورة الشورى). ففيه الترغيب ببشاشة النفس وخشوعها وتذليلها على المكارم وتعويدها المحامد:
إن شئت أن تبني بناء شامخا
…
يلزم لذا البنيان أس راسخ
إن البناء هو الكمال وأسه الصـ
…
خرى فهو الاتضاع الباذخ
(8)
لا يتجلى عليهم برضوانه ولا ينظر إليهم سبحانه وتعالى حين يراه جل جلاله أهل الجنة، فلا يكلم هؤلاء الثلاثة.
(9)
ولا يطهرهم من أدران المعاصي.
أليم: شيخٌ زانٍ (1)، ومَلِكٌ كذابٌ (2)، وعائلٌ مُستكبرٌ (3) " رواه مسلم والنسائي.
[العائل] بالمد: هو الفقير.
لا يدخل الجنة مسكين مستكبر
22 -
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعةٌ يبغضهم الله: البياعُ الحلاّفُ، والفقيرُ المختالُ، والشيخُ الزاني، والإمامُ الجائر" رواه النسائي وابن حبان في صحيحه.
23 -
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عُرِضَ عليَّ أولُ ثلاثٍ يدخلون النار: أميرٌ مُسَلَّطٌ (4)، وذُو ثروةٍ (5) من مالٍ لا يؤدي حق الله فيه، وفقيرٌ فخورٌ" رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما.
24 -
وعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثةٌ لا يدخلون الجنة: الشيخُ الزاني، والإمامُ الكذَّابُ، والعائلُ المزْهُوُّ" رواه البزار بإسناد جيد.
[المزهو]: هو المعجب بنفسه المتكبر.
25 -
وعن نافعٍ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخلُ الجنة مسكينٌ مُستكبرٌ (6)، ولا شيخٌ زانٍ، ولا مَنَّانٌ (7) على
(1) كبير السن فاحش فاسق، وعذابه أشد، لأن الشهوة فقدت منه لضعفه وهرمه ومع ذلك يرتكبها.
(2)
حاكم نافذ الأمر مطاع ومع ذلك يغير القول الحق لدناءته وعدم صدقه مع أن الرعية طوع إرادته، وصدقه لا يشينه ولا يضره، ولكن يميل إلى الباطل فيكذب.
(3)
أي فقير ذو عيال متكبر على السعي على عياله فلا يحترف ولا يسأل لهم، فالله تعالى لا يكلمهم كلاماً يسرهم استهانة بهم وغضباً عليهم، ولا ينظر إليهم نظر رحمة (وشيخ) التزم المعصية مع عدم ضرورته إليها وضعف داعيتها عنده فأشبه إقدامه عليها المعاندة والاستخفاف بحق الله تعالى وقصد معصيته لا لحاجة غيرها، فإن الشيخ ضعفت شهوته عن الوطء الحلال فكيف بالحرام؟ وكمل عقله ومعرفته لطول ما مر عليه من الزمان، وإنما يدعو إلى الزنا غلبة الحرارة وقلة المعرفة وضعف العقل الحاصل، كل ذلك في زمن الشباب (وملك كذاب) لأن الكذب إنما يحتاج إليه من يخاف الناس، والملك لا يخشى من أحد، والعائل يتكبر مع فقد سببه من مال وجاه علامة كونه مطبوعاً: أي الكبر مركوز في طبعه. أهـ جامع صغير ص 188 جـ 2
(4)
حاكم جبار ظالم.
(5)
غني لا يزكي ولا يتصدق ولا ينفق في وجوه الطاعة.
(6)
يتكلف التكبر والتفاخر والتعاظم على غيره.
(7)
الذي يعدد عطاءه على من أعطى ويتمدح بصدقته ويحب الرياء والفخر، وفيه الترغيب في عمل الخير لله بلا انتظار مدح أحد من خلقه سبحانه وتعالى:"ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون"(38 من سورة الروم).
الله بعمله" رواه الطبراني من رواية الصباح بن خالد بن أبي أمية عن نافع، ورواته إلى الصباح ثقات.
لا يدخل الجنة إنسان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر
26 -
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوفٍ قال: "التقى عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمروٍ بن العاص رضي الله عنهم على المروة فتحدثا، ثم مضى عبد الله بن عمرو، وبقيَ عبد الله بن عمر يبكي، فقال له رجلٌ: ما يُبكيك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: هذا، يعني عبد الله بن عمروٍ، زعم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كان في قلبه مثقالُ حبةٍ من خردلٍ (1) من كبرٍ كَبَّهُ الله (2)
لوجهه في النار" رواه أحمد، ورواته رواة الصحيح.
27 -
وفي أخرى له أيضاً رواتهما رواة الصحيح: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخلُ الجنة إنسانٌ في قلبهِ مثقالُ حبةٍ من خردلٍ من كبرٍ".
28 -
وعن عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجلٍ يموت حين يموتُ، وفي قلبهِ مثقالُ حبةٍ من خردلٍ من كبرٍ تَحِلُّ له الجنةُ أن يَريَح ريحها، ولا يراها" الحديث رواه أحمد من رواية شهر بن حوشب عن رجل لم يسمّ عنه.
29 -
وعن عبد الله بن سلامٍ رضي الله عنه: "أنه مَرَّ في السوقِ؛ وعليهِ حُزمةٌ من حطبٍ، فقيل لهُ: ما يحملكُ على هذا؟ وقد أغناك الله عن هذا. قال: أردتُ أن أدفعَ الكبرَ (3) سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يدخل الجنة من في قلبهِ خردلةٌ من كبرٍ" رواه الطبراني بإسناد حسن، والأصبهاني إلا أنه قال: مثقال ذرةٍ من كبرٍ.
(1) أي جزء يسير.
(2)
قلبه على رأسه وألقاه، وفي رسالة الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد، وإلى وزيره خالد بن يحيى: أنهاك عن الشرك والكبر، فإن الله محتجب عنهما. فقال له بعض أصحابه: أمن الكبر أن يكون لك الدابة النجيبة؟ قال: لا، أمن الكبر أن يكون لك الثوب الحسن؟ قال: لا، أمن الكبر أن يكون لي الطعام أجمع الناس عليه؟ قال: لا، إنما الكبر أن تسفه الحق وتغمص الخلق. سفه الحق: جهله، وغمص الخلق: أي احتقرهم، لم يرهم شيئاً.
(3)
أكسر حدته، وفي النهاية: دمغه. أصاب دماغه فقتله، وفي حديث علي: دامغات جيشات الأباطيل: أي مهلكها.
30 -
وعن عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: "يُحْشَرُ المتكبرون يوم القيامة أمثال الذَّرِّ (1) في صور الرجال يغشاهمُ الذُّلُّ (2) من كل مكانٍ يُساقون إلى سجنٍ في جهنم يُقال له: بُولَسٌ تَعْلُوهُمْ نارُ الأنيار يُسقونَ من عُصارةِ أهل النار: طينة الخبال" رواه النسائي والترمذي واللفظ له، وقال: حديث حسن.
[بولس] بضم الباء الموحدة وسكون الواو وفتح اللام بعدها سين مهملة.
[والخبال] بفتح الخاء المعجمة والباء الموحدة.
31 -
وعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخلُ الجنة من كان في قلبه مثقالُ ذرةٍ من كبرٍ، فقال رجلٌ: إن الرجل يحبُّ أن يكون ثوبهُ حسناً، ونعلهُ حسنةً (3)؟
قال: إن الله جميلٌ (4) يحب الجمال. الكبرُ بَطَرُ الحق، وغَمْطُ الناس" رواه مسلم والترمذي.
[بطر الحق] بفتح الباء الموحدة والطاء المهملة جميعاً: هو دفعه ورده.
[وغمط الناس] بفتح الغين المعجمة وسكون الميم وبالطاء المهملة: هو احتقارهم وازدراؤهم وكذلك غمصهم بالصاد المهملة، وقد رواه الحاكم فقال: ولكنَّ الكبر مَنْ بَطَرَ الحق، وازدرى الناس، وقال: احتجا برواته.
(1) صغار النمل.
(2)
يكسوهم ويغطيهم.
(3)
أي يتمتع بأصناف النعيم والطيبات من الرزق.
(4)
حسن الأفعال كامل الأوصاف. أهـ نهاية، أي الله تعالى متصف بكل كمال، منزه عن كل نقص يحب سبحانه أن يرى عبده متحلياً بآثار نعمه ومحامد فضله ومحاسن كرمه في حدود الحلال:
(أ) قال تعالى: "كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله"(من سورة البقرة).
(ب) وقال تعالى: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً"(من سورة المؤمنون).
(جـ) وقال تعالى: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق"(من سورة الأعراف).
وقال النووي: كل أمره سبحانه وتعالى حسن جميل، وله الأسماء الحسنى وصفات الجمال والكمال وجميل الأفعال بكم باللطف والنظر إليكم يكلفكم اليسير من العمل ويعين عليه ويثيب عليه الجزيل ويشكر عليه (الكبر): الارتفاع عن الناس واحتقارهم (بطر الحق): دفعه وإنكاره ترفعاً وتجبراً (غمط الناس): احتقارهم (وذرة من كبر): المراد التكبر عن الإيمان فصاحبه لا يدخل الجنة أصلاً إذا مات عليه أو لا يكون في قلبه كبر حال دخوله الجنة كما قال الله تعالى: "ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً"(من سورة الحجر). أو لا يدخل الجنة بدون مجازاة إن جازاه، لأنه سبحانه قد يتكرم عليه ويسامحه. أهـ مختار الإمام مسلم ص 81 جـ 1.
النهي عن الكبر وسوء عاقبته
32 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجلٌ ممن كان قبلكم (1)
يَجُرُّ إزارهُ من الخيلاء خُسِفَ به، فهو يتجلجلُ في الأرضِ إلى يوم القيامة" رواه البخاري والنسائي وغيرهما.
[الخيلاء] بضم الخاء المعجمة وتكسر وبفتح الياء ممدوداً: هو الكبر والعجب.
[ويتجلجل] بجيمين: أي يغوص وينزل فيها.
33 -
وعن أبي سعيدٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا رجلٌ ممن كان قبلكم خرج في بُرْدَيْنِ أخضرين يختالُ فيهما (2) أمر الله عز وجل الأرض فأخذتهُ، فهو يتجلجلُ فيها إلى يوم القيامة" رواه أحمد والبزار بأسانيد رواةُ أحدها محتج بهم في الصحيح.
34 -
وعن جابرٍ رضي الله عنه، أحسبهُ رَفَعَهُ:"أن رجلاً كان في حُلةٍ حمراء، فتبختر واختالَ فيها، فخسفَ الله به الأرضَ، فهو يتجلجلُ فيها إلى يوم القيامة" رواه البزار، رواته رواة الصحيح.
35 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجلٌ يمشي في حُلَّةٍ (3) تُعجبهُ نفسُهُ مُرَجِّلٌ رأسهُ، يختالُ في مشيتهِ إذ خسفَ الله به فهو يتجلجلُ في الأرض إلى يوم القيامة" رواه البخاري ومسلم.
[مرجل]: أي ممشط.
(1) من الأمم السابقة، وأظنه قارون كما قال الله تعالى:"إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي .. إلى أن قال جل جلاله: "فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين" (76 - 81 من سورة القصص). (فبغى): أي فطلب الفضل عليهم، وأن يكونوا تحت أمره، أو تكبر عليهم أو ظلمهم، قيل وذلك حين ملكه فرعون على بني إسرائيل، أو حسدهم لما روي أنه قال لموسى عليه السلام: لك الرسالة ولهارون الحبورة، وأنا في غير شيء إلى متى أصبر؟ قال موسى: هذا صنع الله. أهـ بيضاوي.
وقال القسطلاني: (رجل) قارون، والله أعلم. وإعجاب المرء بنفسه كما قال القرطبي: ملاحظته لها بعين الكمال مع نسيان نعمة الله تعالى، فإن احتقر غيره مع ذلك فهو الكبر المذموم، ويتجلجل: أي يتحرك أو يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد ويندفع من شق إلى شق. أهـ ص 277 جواهر البخاري.
(2)
يعجب ويتكبر.
(3)
كما قال القسطلاني: إزار ورداء ومرجل: أي مسرح مجتمع شعر رأسه. أهـ.
36 -
ورويَ عن كُريبٍ قال: "كنتُ أقودُ ابن عباسٍ في زُقاقِ أبي لهبٍ فقال: يا كُريبُ بلغنا مكان كذا وكذا؟ قلتُ: أنت عندهُ الآن، فقال: حدَّثني العباسُ بن المطلب رضي الله عنه قال: بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضعِ إذ أقبلَ رجلٌ يتبخترُ بين بُردَيْنِ (1)، وينظرُ إلى عِطْفَيْهِ (2)،
وقد أعجبتهُ نفسُهُ إذ خسف الله به الأرض في هذا الموضع، فهو يتجلجلُ فيها إلى يوم القيامة" رواه أبو يعلى.
37 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جَرَّ ثوبهُ خُيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقال أبو بكرٍ رضي الله عنه: يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهَدَهُ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لست ممن يفعلهُ خُيلاء" رواه مالك والبخاري، واللفظ له، وهو أتمّ، ومسلم والترمذي والنسائي وتقدم في اللباس أحاديث من هذا.
38 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تَعَظَّمَ في نفسهِ أو اختالَ في مشيتِهِ، لقيَ الله تبارك وتعالى وهو عليه غضبانُ" رواه الطبراني في الكبير واللفظ له، ورواته محتج بهم في الصحيح، والحاكم بنحوه، وقال: صحيح على شرط مسلم.
39 -
وعن خولةَ بنت قيسٍ رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(1) ثوبين، والبردة: الشملة المخططة.
(2)
جانبيه من لدن رأسه إلى وركه: وهو الذي يمكنه أن يلقيه من بدنه؛ ويقال ثنى عطفه إذا أعرض وجفا نحو نأى بجانبه وصعر خده، قال تعالى:"ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد"(8 - 10 من سورة الحج).
(ثاني عطفه): كناية عن التكبر. أي متكبراً أو معرضاً عن الحق استخفافاً به بالإقبال على الجدال الباطل وبالخروج من الهدى إلى الضلال (خزي): ما أصابه يوم بدر. أهـ بيضاوي.
ويدخل فيه عقاب من اتصف بالكبر وحب الباطل والتفاخر:
واخفض جناحك للأقارب كلهم
…
بتذلل واسمح لهم إن أذنبوا
إذا مشتْ أمتي المُطَيْطَاءَ، وخدمتهم فارسُ والروم (1) سُلِّطَ بعضهم على بعضٍ (2) " رواه ابن حبان في صحيحه، ورواه الترمذي وابن حبان أيضاً من حديث ابن عمر.
[المطيطاء] بضم الميم وفتح الطاءين المهملتين بينهماياء مثناة تحت ممدوداً ويقصر: هو التبختر، ومد اليدين في المشي.
بئس العبد سها ولها ونسي المقابر والبلى
40 -
ورويَ عن أسماء بنت عُميسٍ رضي الله عنهما قالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بئس (3) العبدُ عبدٌ تخيلَ واختال (4)، ونسيَ الكبيرَ المُتعالَ (5) بئس العبدُ عبدٌ تجبر واعتدى (6)، ونسيَ الجبار الأعلى. بئس العبدُ عبدٌ سَهَا وَلَهَا (7) ونسيَ المقابر والبلى (8) بئس العبدُ عبدٌ عَتَى (9) وطغى (10)، ونسي المُبتدا والمُنتهى (11) بئس العبدُ عبدٌ يَخْتِلُ الدنيا بالدِّينِ (12) بالشهواتِ (13)
بئس العبدُ عبدٌ طَمَعٍ يقودهُ (14)
(1) أي كثرت الفتوح وتعددت المدن التي يملكها المسلمون وزاد الخير ووفرت النعم، وعمهم العز وضرب بجرانه وملكوا الأمم العظيمة، ودخلت في حوزتهم وحكموها وصاروا أعزة.
(2)
حصل الشقاق والتنابذ والتدابر كما قال تعالى: "قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون"(65 من سورة الأنعام).
فانظر رعاك الله لقد عذب الله الأمم السابقة بالغرق، وإرسال الصواعق من السماء كما فعل بقوم نوح ولوط وأصحاب الفيل، وكما أغرق فرعون وخسف بقارون (ويذيق بعضكم): أي يقاتل بعضكم بعضاً (أو يلبسكم): أي يخلطكم فرقاً متحزبين على أهواء شتى فينشب القتال بينكم، قال صلى الله عليه وسلم: هذا أهون، ففيه الإنذار من الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الكبر بالثبور والنفور والخصام. ودليل الآن الأمم العربية.
(3)
كلمة ذم وسخط.
(4)
أعبج بنفسه مرحاً، وخيل الرجل على غيره تخييلاً، مثل لبس تلبيساً وزنا ومعنى إذا وجه الوهم إليه.
(5)
العظيم المنزه عن كل نقص.
(6)
ظلم وجاوز الحد وقسا وأساء.
(7)
غفل عن حقوق الله واشتغل باللهو واللعب.
(8)
لم يذكر الموت، وكل إنسان فان. قال تعالى:"ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر"(1 - 2 من سورة التكاثر).
(9)
استكبر.
(10)
جاوز الحد والمقدار في العصيان وبغى وظلم.
(11)
أصله من نطفة قذرة وآخره الموت والفناء.
(12)
بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين، هذه الجملة في (ع ص 255)، وفي (ن د) وساقطة، في (ن ط): ويختل: أي يطلب الدنيا بعمل الآخرة، يقال ختله: خدعه وراوغه، وختل الذئب الصيد: تخفى له، ومنه حديث الحسن في طلاب العلم، وصنف تعلموه للاستطالة والختل: أي الخداع كأني أنظر إليه يختل الرجل ليطعنه: أي يداوره ويطلبه من حيث لا يشعر. أهـ نهاية. وبجواري صحيفة تنبئ بالقبض على هذا الصنف وسجنه 11/ 1 375 أهـ.
(13)
المعاصي والموبقات، والمعنى يتظاهر بالصلاح ويفعل الفواحش سراً، ويخلط رغبات الدين بملذاته.
(14)
جشع في طلب الدنيا يسوقه.
بئس العبدُ عبدٌ هوىً يُضلُّهُ (1). بئس العبدُ عبدٌ رَغَبٍ يُذِلُّهُ (2) " رواه الترمذي، وقال: حديث غريب، ورواه الطبراني من حديث نعيم بن همار الغطفاني أخصر منه وتقدم.
لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر منه: العُجْبَ
41 -
وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في جهنم وادياً يُقالُ له هَبْهَبُ، حقاً على الله أن يُسكنهُ كل جبارٍ عنيدٍ (3) " رواه أبو يعلى والطبراني والحاكم كلهم من رواية أزهر بن سنان، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
[هبهب] بفتح الهاءين وموحدتين.
42 -
وعن سلمة بن الأكوعِ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزالُ الرجلُ يذهبُ بنفسهِ حتى يُكْتَبَ في الجبارين فَيُصيبهُ ما أصابهم" رواه الترمذي، وقال حديث حسن.
[قوله: يذهب بنفسه]: أي يترفع ويتكبر.
43 -
وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو لم تُذنبوا لخشيتُ عليكم ما هو أكبر منه: العُجْبَ (4) " رواه البزار بإسناد جيد.
(1) أي ميل يجره إلى معصية الله، يقال أهوى بيده إليه: أي مدها نحوه، وأمالها إليه ويأخذ كل واحد ما هوى: أي ما أحب، هوى يهوى هوى.
(2)
الرغب شؤم: أي الشره والحرص على الدنيا، وقيل سعة الأمل وطلب الكثير، ومنه حديث مازن، وكنت امرأ بالرغب والخمر مولعاً: أي بسعة البطن وكثرة الأكل. أهـ نهاية. يذم النبي صلى الله عليه وسلم:
(أ) المتكبر المغرور، وغفل عن إلهه الجليل القدير.
(ب) الظالم وغفل عن وجود القهار الملك العزيز الخافض الرافع.
(جـ) المنهمك في ملذاته المتفاني في قضاء شهواته المقصر في تشييد الصالحات وغفل عن الموت وعذاب القبر وسؤال الملكين والثواب والعقاب.
(د) الطماع الشره.
(هـ) المتبع أهواءه صاحب الغي الفاسق.
(و) عبد الدنيا المتفاني في تحصيل المال وخزنه وعدم التمتع بإنفاقه في وجوه البر.
(3)
عات متكبر على الله معاند للحق كما قال تعالى: "وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ"(15 - 17 من سورة إبراهيم). أي مرصد بها واقف على شفيرها في الدنيا مبعوث إليها في الآخرة، وهذه الآية وإن كانت في الكفار فيدخل فيها الطاغية الجبار.
(4)
الافتخار بالنفس وشعورها بالكمال والتقصير في تشييد الصالحات، يقال لمن يروقه نفسه: فلان معجب بنفسه وبرأيه. =
44 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
= ولابن دريد:
وآفة العقل (1) الهوى (2) فمن علا (3)
…
على هواه عقله فقد نجا
كم من أخ مسخوطة أخلاقه (4)
…
أصفيته الود لخلق مرتضى (5)
وعطف النفس على سبل الأسى (6)
…
إذا استفز (7) القلب تبريح (8) الجوى (9)
والله ليمتنعن، وليبتعدن عن التفاخر والتحادث بمجد الآباء والأجداد الذين فنوا عن الظلم والجهل والكفر وليتذكر المسلمون آداب الإسلام: وما فيهم من نعم الإيمان وإلا تندحر قيمتهم وتضيع درجتهم وعزتهم، ولا يساوون حشرات المراحيض، ثم بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم فضل الله على المسلمين بعدم التفاخر بالحسب والنسب وأن الناس صنفان:
(أ) سعيد منعم محترم، وهو مؤمن تقي.
(ب) شقي مطرود من رحمة الله معذب، وهو فاجر فاسق، قال الله تعالى:"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير"(13 من سورة الحجرات). أي من آدم وحواء عليهما السلام، أو خلقنا كل واحد منكم من أب وأب، فالكل سواء في ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب، ويجوز أن يكون تقريراً للأخوة المانعة عن الاغتياب، والتقوي بها تكمل النفوس وتتفاضل بها الأشخاص فمن أراد شرفاً فليلتمسه منها كما قال صلى الله عليه وسلم "من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله" أهـ بيضاوي:
الناس من جهة التمثال أكفاء
…
أبوهم آدم والأم حواء
فإن لم يكن لهم في أصلهم شرف
…
يفاخرون به فالطين والماء
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهمو
…
على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه
…
والجاهلون لأهل العلم أعداء
وإن أتيت بجود في ذوي نسب
…
فإن نسبتنا جود وعلياء
ففز بعلم تعش حياً به أبدا
…
الناس موتى وأهل العلم أحياء
ومن وصية ابن شداد لابنه: عليك بتقوى الله العظيم، وليكن أولى الأمر شكر الله وحسن النية في السر والعلانية، فإن الشكور يزداد، والتقوى خير زاد، وكن كما قال الحطيئة:
ولست أرى السعادة جمع مال
…
ولكن التقى هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخرا
…
وعند الله للأتقى مزيد
الثمرات الناضجة التي يجنيها المتواضع كما قال صلى الله عليه وسلم:
(1)
يعمل المتواضع بما أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم (حتى لا يفخر).
(2)
يقدمه الله ويجعل له درجات عالية.
(3)
يبارك في ماله ويدفع عنه المضرات فينجبر نقص الصورة بالبركة الخفية، ويسود ويعظم في القلوب ويكرم =
_________
(1)
مضرته ومفسدته.
(2)
الشهوة.
(3)
ارتفع.
(4)
طبائعه.
(5)
مستحسن.
(6)
التصبر.
(7)
استخف.
(8)
شدة.
(9)
فساد الجوف. والمعنى الذي يعجب بنفسه ضل وكرهه إخوانه وذم.
لَيَنْتَهِيَنَّ أقوامٌ يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فَحْمُ جهنم، أو ليكونن أهونَ على الله عز وجل من الْجُعَلِ الذي يُدَهْدِهُ الخُرْء بأنفهِ إن الله أذهبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهلية
= ويرفعه الله في الدنيا ويثبت له بتواضعه في القلوب منزلة محبوبة ومكانة مكينة في الأفئدة دنيا وأخرى (ما نقصت صدقة).
(4)
يدخل الجنة في مكان فسيح (طوبى).
(5)
التواضع شعار الإيمان ونور الإسلام ومنبع الرضا ودلائل قبول الله جل وعلا (فخاض).
(6)
يختص بالفردوس (أعلى عليين).
(7)
يمده الله بعنايته ويحيطه برعايته ويستره ويظله برضوانه (نعشك الله).
(8)
يرافقه ملك الرحمة يهديه إذا ضل ويرشده إذا غوى ويرفعه إذا نزل (حكمته بيد ملك).
(9)
يبتعد عن الشهرة الكاذبة والصيت الزائف ولم يراء أو يسمع.
(10)
المتواضع حبيب الله تعالى ورسوله، ومكانه مجاور له صلى الله عليه وسلم (وأقربكم مني).
(11)
لم ينازع المتواضع الله تعالى في صفتيه الملازمتين له تبارك وعز شأنه (العز إزاره) قال النووي: هذا وعيد شديد في الكبر مصرح بتحريمه، وأما تسميته إزاراً ورداء فمجاز واستعارة حسنة. قال المازري: ومعنى الاستعارة هنا أن الإزار والرداء يلصقان بالإنسان، ويلزمانه، وهما جمال له قال فضرب ذلك مثلاً لكون العز والكبرياء بالله تعالى أحق وله ألزم واقتضاهما جلاله، ومن مشهور كلام العرب: فلان واسع الرداء وغمر الرداء: أي واسع العطية. أهـ ص 147 جـ 16
(12)
من علامات الطرد من رحمة الله ورضوانه التكبر (عتل).
(13)
ينال المتواضع صفات الأخيار ويحظى بدرجات عظيمة من القهار سبحانه وتعالى ولا يعد من أشرار عباد الله.
(14)
يملأ النار المتكبرون، والجنة للمتواضعين (ولكليكما عليَّ ملؤها).
(15)
يكرم الله المتواضع وينظر إليه نظر رحمة ويكلمه كلام رضا (ثلاثة).
(16)
يكب المتكبر على وجهه في النار، ولا يشم ريح الجنة (من خردل).
(17)
يخرج المتكبر من قبره ذليلاً حقيراً مهاناً يزدري به مثل ذراري النمل (بولس).
(18)
عند خروج روحه يخسف به ويستمر عذابه هكذا (يتجلجل).
(19)
يتنعم المتواضع بظل الله تعالى ورحماته، ويشعر المتكبر أن الله عليه غضبان.
(20)
لاشك أن المتكبر مذموم عليه كل لعنة وسخط وغضب (بئس).
(21)
يفوز المتواضع بالسعادة والسيادة والعز قال تعالى: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون"(8 من سورة المنافقون). أي ولله الغلبة والقوة، ولمن أعزه من رسوله والمؤمنين المتواضعين ولا يعلم المنافقون من فرط جهلهم وغرورهم. رزقنا الله التحلي بالتواضع والتخلي عن الكبر.
الاستدلال من القرآن الكريم:
(أ) قال الله تعالى: "ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة"(37 - 39 من سورة الإسراء). أي ذا مرح، وهو الاختيال فلن تجعل فيها خرقاً بشدة وطأتك (طولاً) بتطاولك، وهو تهكم بالمختال وتعليل للنهي بأن الاختيال حماقة مجردة لا تعود بجدوى ليس في التذلل (الحكمة): معرفة الحق لذاته والخير العمل به. =
وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمنٌ تقيٌ، وفاجرٌ شقيٌ، الناسُ بنو آدم، وآدمُ خُلِقَ من
= (ب) وقال تعالى: "ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير"(18 - 19 من سورة لقمان). أي لأجل الفرح والبطر، وتوسط في مشيك بين الدبيب والإسراع، وعنه عليه الصلاة والسلام "سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن" (واغضض): انقص منه وأقصر (أنكر): أوحش، والحمار مثل الذم سيما نهاقه.
(جـ) وقال تعالى: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً استكباراً في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله"(42 - 43 من سورة فاطر). لما بلغ قريشاً أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى، لو أتانا رسول فجاءهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (نفوراً): تباعداً عن الحق.
(د) وقال تعالى: "إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين"(22 - 23 من سورة النحل). الله تعالى أقام الحجج على أنه واحد جل جلاله، ولكن استكبروا عن اتباع الرسول وتصديقه بعد وضوح الحق، وذلك لعدم إيمانهم بالآخرة، والمؤمن يصدق الرسول وينتفع بتعاليمه (لا جرم): حقاً.
(هـ) وقال تعالى: "سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً، ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين"(146 من سورة الأعراف).
(و) وقال تعالى: "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق"(8 - 9 من سورة الحج).
(ز) وقال تعالى: "ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم"(7 - 8 من سورة الجاثية).
(ح) وقال تعالى: "أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون"(87 من سورة البقرة).
(ط) وقال تعالى: "وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً ثم إني دعوتهم جهاراً ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً"(7 - 12 من سورة نوح). (استغشوا): جعلوها غطاء لهم وتغطوا بها لئلا يرون كراهة النظر إليَّ من فرط كراهة دعوتي، أو لئلا أعرفهم فأدعوهم (وأصروا): أي أكبوا على الكفر والمعاصي. فوا أسفا جر الكبر عليهم الخزي والحرمان وأوقع عليهم العذاب.
(ي) وقال تعالى: "إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي =
ترابٍ" رواه أبو داود والترمذي واللفظ له، وقال: حديث حسن، وستأتي أحاديث من هذا النوع في الترهيب من احتقار المسلم إن شاء الله.
= لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعلمون" (40 - 43 من سورة الأعراف). أرأيت الاستكبار مانعاً المجرمين من دخول الجنة حتى يدخل عظيم الجرم في ثقبة الإبرة، وذلك مما لا يكون (مهاد): فراش (غواش): أغطية، ولقد طهر الله قلوب المؤمنين المتواضعين من أسباب الغل والكبر ولم يبق فيها إلا التواضع والتوادد، وعن علي كرم الله وجهه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم. وأنا أقول: إني لآمل أن أكون أنا منهم، وكذا كل من يحب النبي صلى الله عليه وسلم ويعمل بشريعته.
(ك) وقال تعالى: "ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون"(48 من سورة الأعراف). أي من رؤساء الكفرة الفجرة. (جمعكم): أي كثرتكم أو جمعكم المال. فتجد سبب النار تكبر الطغاة عن الحق أو عن الخلق، نسأل الله السلامة، ومن تتمة قول أصحاب الأعراف للرجال "أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة"(من سورة الأعراف). والإشارة إلى ضعفاء أهل الجنة الذين كانت الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون إن الله لا يدخلهم الجنة "ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون"(من سورة الأعراف).
أي فالتفتوا إلى أصحاب الجنة وقالوا لهم ادخلوا، أو فقيل لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة بفضل الله سبحانه وتعالى ورحمته بعد أن حبسوا حتى أبصروا الفريقين وعرفوهم وقالوا لهم ما قالوا، وقيل لما عيروا أصحاب النار أقسموا إن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة، فقال الله تعالى، أو بعض الملائكة "أهؤلاء الذين أقسمتم". أهـ بيضاوي.
(ل) وقال عز وجل: "كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار"(35 من سورة غافر).
(م) وقال تعالى: "لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً"(21 من سورة الفرقان).
(ن) وقال تعالى: "إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين"(60 من سورة غافر).
النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للمتواضعين:
روى البخاري عن أنس رضي الله عنهما قال: "كانت ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء، وكانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين وقالوا: سبقت العضباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه".
درس جميل أخلاقي:
ناقة الملك المتوج فائزة سباقة، وبعبارة أرقى وأحسن وأفسح: ناقة سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخرت مرة في السباق أمام بعير صغير لعربي فتألم المسلمون لهذا المنظر واشتد غضبهم فطمأنهم سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزال ما عندهم بالحكمة الجليلة والأثر الخالد، قال في الفتح المراد بالتواضع إظهار التنزل عن المرتبة لمن يراد تعظيمه، وقيل هو تعظيم من فوقه لفضله، وذكر حديث أنس في ذكر الناقة لما سبقت، وعند النسائي بلفظ "حق على الله أن لا يرفع شيء نفسه في الدنيا إلا وضعه" فإن فيه إشارة إلى الحث على عدم الترفع، والحث على التواضع والإعلام بأن أمور الدنيا ناقصة غير كاملة. قال ابن بطال: فيه هوان الدنيا على الله والتنبيه على ترك المباهاة والمفاخرة، وأن كل شيء هان على الله فهو في محل الضعة، فحق على كل ذي عقل أن يزهد فيه، ويقل منافسته =
[الجُعَل] بضم الجيم وفتح العين المهملة: هو دويبة أرضية.
= في طلبه. وقال الطبري: في التواضع مصلحة الدين والدنيا، فإن الناس لو استعملوه في الدنيا لزالت بينهم الشحناء: ولاستراحوا من تعب المباهاة والمفاخرة. قلت: وفيه أيضاً حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه لكونه رضي أن أعرابياً يسابقه، وفيه جواز المسابقة. أهـ ص 269 جـ 11
ومنه قول الممنوح الدرجة الثانية 1 - 5 - 1955 م:
مولاي إسعادي غداً يتلالا
…
بك بالهدى وبشائري تتوالى
أينال ثانية خويدم "مصطفى"
…
كمدرس نشر الحديث ووالى
هذا عطاء الله يبسط رزقه
…
يعطي يعز يبلغ الآمالا
نور وترغيب جواهر مسلم
…
سطعت شموسا في الورى تتعالى
آمنت أن الله يجعل مخرجا
…
لمن اتقاه وثروة وجمالا
إيضاح الأحاديث وبيان حقيقة الكبر وآفاته:
اعلم أن الكبر ينقسم إلى باطن وظاهر، فالباطن: هو خلق في النفس، والظاهر هو أعمال تصدر عن الجوارح. قال الغزالي: المتكبر عليه هو الله تعالى أو رسله أو سائر خلقه، وقد خلق الإنسان ظلوماً جهولاً، فتارة يتكبر على الخلق، وتارة يتكبر على الخالق. فإذا التكبر باعتبار المتكبر عليه ثلاثة أقسام:
الأول: التكبر على الله، ومثاره الجهل المحض والطغيان، وكان نمرود يحدث نفسه أن يقاتل رب السماء، وفرعون قال: أنا ربكم الأعلى.
(أ) قال تعالى: "إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين"(60 من سورة غافر).
(ب) وقال تعالى: "لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون"(من سورة النساء).
(جـ) وقال تعالى: "وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفوراً"(60 من سورة الفرقان).
الثاني: التكبر على الرسل من حيث تعزز النفس وترفعها عن الانقياد لبشر كما حكى الله تعالى:
(أ)"أنؤمن لبشرين مثلنا"(من سورة المؤمنون).
(ب)"إن أنتم إلا بشر مثلنا"(من سورة يس).
(جـ)"ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون"(34 من سورة المؤمنون).
(د)"وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً"(21 من سورة الفرقان).
(هـ)"وقالوا لولا أنزل عليه ملك"(من سورة الأنعام).
وقال فرعون فيما أخبر الله عنه:
أ
…
"أو جاء معه الملائكة مقترنين"(53 من سورة الزخرف).
ب
…
"واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق"(من سورة القصص).
قال وهب: قال موسى عليه السلام لفرعون: آمن، ولك ملكك، فشاور فرعون هامان، فقال هامان: بينما أنت رب تعبد إذ صرت عبداً تعبد.
وقالت قريش فيما أخبر الله تعالى عنهم:
أ
…
"وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم"(31 من سورة الزخرف).
قال قتادة: عظيم القريتين هو الوليد بن المغيرة، وأبو مسعود الثقفي، طلبوا من أعظم رياسة من النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قالوا: غلام يتيم كيف بعثه إلينا؟
ب
…
فقال تعالى: "أهم يقسمون رحمة ربك"(من سورة الزخرف). وقال تعالى: "ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا"(من سورة الأنعام). أي استحقاراً لهم واستبعاداً لتقدمهم، وفي مسلم قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"كيف نجلس إليك وعندك هؤلاء؟ أشاروا إلى فقراء المسلمين فازدروهم وتكبروا عن مجالستهم فأنزل الله تعالى: "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء =
[يدهده]: أي يدحرج، وَزنه ومعناه.
= فتطردهم فتكون من الظالمين" (52 من سورة الأنعام).
وقال تعالى: "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا"(من سورة الكهف). ثم أخبر الله تعالى عن تعجبهم حين دخلوا جهنم إذ لم يروا الذين ازدروهم "وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار"(63 من سورة ص).
قيل يعنون عماراً وبلالاً وصهيباً والمقداد رضي الله عنهم، ثم كان منهم من منعه الكبر عن التفكر والمعرفة فجهل كونه صلى الله عليه وسلم محقاً، ومنهم من عرف ومنعه الكبر عن الاعتراف، قال الله تعالى مخبراً عنهم:"فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به"(من سورة البقرة). وقال تعالى: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً"(من سورة النمل).
الثالث: التكبر على العباد.
وذلك بأن يستعظم نفسه ويستحقر غيره فتأبى نفسه عن الانقياد لهم وتدعوه إلى الترفع عليهم فيزدريهم ويستصغرهم ويأنف من مساواتهم، وهذا وإن كان دون الأول والثاني فهو أيضاً عظيم من وجهين: أحدهما أن الكبر والعظمة والعز والعلاء لا يليق إلا بالملك القادر، فأما العبد المملوك الضعيف العاجز الذي لا يقدر على شيء، فمن أين يليق بحاله الكبر؟ فمهما تكبر العبد فقد نازع الله في صفة لا تليق إلا بجلاله، ومثاله أن يأخذ الغلام قلنسوة الملك فيضعها على رأسه ويجلس على سريره فما أعظم استحقاقه للمقت وما أعظم تهدفه للخزي والنكال، وما أشد استجراءه على مولاه، وما أقبح ما تعاطاه! وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى في الحديث القدسي:"العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته" أي أنه خاص صفتي، ولا يليق إلا بي والمنازع فيه منازع في صفة من صفاتي. وإذا كان الكبر على عباده لا يليق إلا به فمن تكبر على عباده فقد جنى عليه، وقد نازع الله في حقه.
الوجه الثاني: الذي تعظم به رذيلة الكبر أنه يدعو إلى مخالفة الله تعالى في أوامره؛ لأن المتكبر إذا سمع الحق من عبد من عباد الله استنكف عن قبوله وتشمر لجحده واحتال لدفعه بما يقدر عليه من التلبيس، وذلك من أخلاق الكافرين والمنافقين إذ وصفهم الله تعالى فقال:"وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون"(26 من سورة فصلت).
فكل من يناظر للغلبة والإفحام لا ليغنم الحق إذا ظفر به فقد شاركهم في هذا الخلق، وكذلك يحمل ذلك على الأنفة من قبول الوعظ كما قال الله تعالى:"وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم"(من سورة البقرة). وقال صلى الله عليه وسلم لرجل: "كل بيمينك، قال لا أستطيع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا استطعت فما منعه إلا كبره قال فما رفعها بعد ذلك" أي اعتلت يده، رواه مسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنهم، وتكبر إبليس على آدم بالنسب:"قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين"(12 من سور ة الأعراف). خالف أمر الله تعالى فكان سبب هلاكه أبد الآباد، وقد شرح صلى الله عليه وسلم الكبر بهاتين الآفتين:
(أ) بطر الحق.
(ب) غمص الناس.
وقد عد الإمام الغزالي سبعة أسباب يتطرق إليها الاستعظام، واعتقاد صفة الكمال، وجماع ذلك يرجع إلى كمال ديني أو دنيوي؛ فالديني هو العلم والعمل، والدنيوي هو النسب والجمال والقوة والمال وكثرة الأنصار.
أولاً: العالم يتعزز بعزة العلم ويستشعر في نفسه جماله وكماله ويستعظم نفسه، ويستحقر الناس، وهذا العالم خبيث الدخلة ردئ النفس سيء الأخلاق مشتغل بالصناعات كالطب والحساب واللغة والشعر، بعيد عن العلم الحقيقي الذي يعرف به ربه ونفسه، وخطر أمره في لقاء الله والحجاب منه. قال تعالى:"إنما يخشى الله من عباده العلماء"(من سورة فاطر). =
[والعُبيِّة] بضم العين المهملة وكسرها، وتشديد الباء الموحدة وكسرها، وبعدها ياء مثناة تحت مشددة أيضاً: هي الكبر والفخر والنخوة.
= قال أبو الدرداء من ازداد علماً ازداد وجعاً.
ثانياً: العمل والعبادة، وليس يخلو عن رذيلة العز والكبر واستمالة قلوب الناس الزهاد والعباد. وبترشح الكبر منهم في الدين والدنيا:
أ
…
في الدنيا: العابد يتوقع توقيره. قضاء حاجته. توسع له المجالس، ذكره بالورع والتقوى.
ب -
…
في الدين: هو أن يرى الناس هالكين، ويرى نفسه ناجياً، وهو الهالك تحقيقاً مهما رأى ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:"إذا سمعتم الرجل يقول: هلك الناس فهو أهلكهم" قال الغزالي: لأنه مزدر بخلق الله مغتر بالله آمن من مكره، غير خائف من سطوته، وكيف لا يخاف؟ ويكفيه شراً احتقاره لغيره. أهـ.
ثالثاً: التكبر بالحسب والنسب فالذي له نسب شريف يستحقر من دونه، وإن كان أرفع منه علماً وعملاً، ويأنف من مخالطتهم ومجالسهم، وثمرته على اللسان التفاخر به.
رابعاً: التفاخر بالجمال وتنقص غيره، وذكر عيوبه.
خامساً: الكبر بالمال.
سادساً: الكبر بالقوة وشدة البطش والتكبر به على أهل الضعف.
سابعاً: التكبر بالأتباع والأنصار والتلاميذ والغلمان وبالعشيرة والأقارب والبنين، ثم عد الغزالي البواعث على التكبر: العجب والحقد والحسد والرياء. أهـ ص 204 جـ 3
الآيات القرآنية في ذم العُجْبِ:
أزهار أقوال الصدق أحبها
…
قد طاب غارسها سنا وجلالا
(أ) قال الله تعالى: "لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين"(25 من سورة التوبة). ذكر ذلك في معرض الإنكار.
(ب) وقال تعالى: "وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار"(2 من سورة الحشر). فرد على الكفار في إعجابهم بحصونهم وشوكتهم.
(جـ) وقال تعالى: "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا"(103 - 106 من سورة الكهف).
(ضل) أي ضاع وبطل لكفرهم وعجبهم كالرهابنة، فإنهم خسروا دنياهم وأخراهم (ويحسنون): بعجبهم واعتقاد أنهم على الحق (فلا نقيم): أي فنزدري بهم ولا نجعل لهم مقداراً واعتباراً، أو لا نضع لهم ميزاناً توزن به أعمالهم لانحباطها. أهـ بيضاوي. وقيل لعائشة رضي الله عنها: متى يكون الرجل مسيئاً؟ قالت إذا ظن أنه محسن، وقد قال تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى"(من سورة البقرة).
والمن: نتيجة استعظام الصدقة واستعظام العمل هو العجب. قال الغزالي: العجب يدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها ويتولد منه الكبر، والمعجب يغتر بنفسه وبرأيه ويأمن مكر الله وعذابه ويثني على نفسه ويزكيها، ويستنكف من الاستفادة والاستشارة، وسؤال من هو أعلم منه: ولا يسمع نصح ناصح ولا وعظ واعظ ويصر على خطأه.
ويكون العجب: =