الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن انقطع إلى الدنيا (1) وَكَلَهُ الله إليه (2) " رواه الطبراني وأبو الشيخ ابن حبان في الثواب، وإسناد الطبراني مقارب، وأملينا لهذا الحديث نظائر في الاقتصاد والحرص، ويأتي له نظائر في الزهد إن شاء الله تعالى.
الترهيب من الغضب، والترغيب في دفعه وكظمه وما يفعل عند الغضب
1 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: لا تغضب (3)،
فردد مراراً، قال: لا تغضب" رواه البخاري.
2 -
وعن حُمَيْدِ بن عبد الرحمن عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال رجلٌ: يا رسول الله أوصني. قال: لا تغضب. قال: ففكرتُ حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضبُ يَجْمَعُ الشرَّ كُلَّهُ" رواه أحمد ورواته محتج بهم في الصحيح.
3 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يُباعدني من غضب الله عز وجل؟ قال: لا تغضب" رواه أحمد وابن حبان في صحيحه إلا أنه قال: ما يمنعني؟
4 -
وعن جارية بن قُدامةَ" أن رجلاً قال يا رسول الله: قُل لي قولاً وأقْلِلْ لعلي
(1) كد فيها بشره وجشع.
(2)
تركه إلى الدنيا ولم يعاونه في حياته. وقد عد الله تعالى من صفات الصالحين:
(أ)"وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً"(63 من سورة الفرقان).
(ب)"وإذا مروا باللغو مروا كراماً"(72 من سورة الفرقان).
(3)
ينهاه صلى الله عليه وسلم عن الغضب وطلب الانتقام والحمق، وفي الغريب الغضب: ثوران دم القلب وإرادة الانتقام، ولذا قال صلى الله عليه وسلم "اتقوا الغضب فأنه جمرة توقد في قلب ابن آدم، ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه" أهـ. وقال القسطلاني: أي اجتنب أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه، قال الله سبحانه وتعالى:"والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون"(37 من سورة الشورى). والمراد بكبائر الإثم ما يتعلق بالبدع والشبهات، وبالقوة ما يتعلق بالقوة الشهوانية، وإذا ما غضبوا من مر دنياهم هم يغفرون. أهـ.
أعِيهِ (1) قال: لا تغضب، فأعاد عليه مراراً، كُلُّ ذلك يقولُ: لا تغضب" رواه أحمد واللفظ له، ورواته رواة الصحيح، وابن حبان في صحيحه، ورواه الطبراني في الكبير والأوسط إلا أنه قال: "عن الأحنف بن قيس عن عمه، وعمُّه جارية بن قدامة أنه قال يا رسول الله: قل لي قولاً ينفعني الله به فَذَكَرَهُ"، وأبو يعلى إلا أنه قال: "عن جارية بن قدامة أخبرني عم أبي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه" ورواته أيضاً رواة الصحيح.
5 -
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "قال رجلٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دُلَّني على عملٍ يُدخلني الجنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تغضب ولك الجنة" رواه الطبراني بإسنادين أحدهما صحيح.
6 -
وعن ابن المسيب رضي الله عنه قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ، ومعه أصحابهُ وقعَ رجلٌ (2)
بأبي بكرٍ رضي الله عنه فآذاهُ، فَصَمَتَ عنهُ أبو بكرٍ، ثم آذاهُ الثانية، فَصَمَتَ عنه أبو بكرٍ، ثم آذاهُ الثالثة فانتصرَ أبو بكر فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكرٍ رضي الله عنه: أوَجَدْتَ (3) عليَّ يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزل مَلَكٌ من السماء يُكذِّبُهُ بما قال لك، فلما انتصرتَ ذهب المَلَكُ، وقَعَدَ الشيطانُ، فلم أكن لأجلس (4) إذن مع الشيطان" رواه أبو داود هكذا مرسلاً ومتصلاً من طريق محمد ابن غيلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة بنحوه، وذكر البخاري في تاريخه أن المرسل أصح.
(1) أرجو أن أحفظه.
(2)
سبه وثلبه، من وقع فلان في فلان وقوعاً ووقيعة. أهـ مصباح، وفي النهاية في حديث ابن عمر فوقع بي أبي: أي لامني وعنفني، يقال وقعت بفلان إذا لمته، ووقعت فيه إذا عبته وذممته. أهـ.
(3)
أغضبت؟ يقال وجد عليه يجد وجداً وموجدة.
(4)
فلم أكن لأجلس إذن مع الشيطان هكذا عبارة (د وع ص 213 - 2)، وفي (ن ط): فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان.
7 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الشديد بالصُّرَعَةِ (1) إنما الشديدُ الذي يملكُ نفسهُ عند الغضب (2) " رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
8 -
ورواه ابن حبان في صحيحه مختصراً: ليس الشديد من غَلَبَ الناس، إنما الشديدُ من غلب نفسه".
9 -
ورواه أحمد في حديث طويل: "عن رجلٍ شهدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبُ ولم يُسَمِّهِ، وقال فيه: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما الصرعةُ؟ قال: قالوا الصَّريعُ. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصُّرعَةُ كُلُّ الصُّرَعَةِ، الصُّرعَةُ كُلُّ الصُّرَعَةِ، الصُّرعَةُ كُلُّ الصُّرَعَةِ: الرجل الذي يغضبُ، فيشتدُّ غضبهُ، ويَحْمَرُّ وجههُ، ويقشعرُ جلدهُ، فَيَصْرَعُ غَضَبَهُ".
[قال الحافظ]: الصرعة بضم الصاد وفتح الراء: هو الذي يصرع الناس كثيراً بقوته، وأما الصرعة بسكون الراء، فهو الضعيف الذي يصرعه الناس حتى لا يكاد يثبت مع أحد، وكل من يكثر عنه الشيء يقال فيه: فُعَلَة بضم الفاء وفتح العين مثل حُفظة وخُدَعة وضُحَكة وما أشبه ذلك، فإذا سكنت ثانيه فعلى العكس: أي الذي يفعل به ذلك كثيراً.
10 -
وعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) أي ليس الشديد من يصرع الناس كثيراً بقوته.
(2)
عند ثورانه فيقهر نفسه ويكظم غيظه. أهـ جامع صغير. وقال الحفني: أي ليس الشديد شدة محمودة المتلبس بصرع الأبطال ورميهم في الأرض، بل هو القاهر لنفسه وهواه لقهره أعداء من الشياطين والنفس الذين هم أشد من أعداء الظاهر. ولذا لما اشتهر عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه الحلم وأراد تفصيل ملبوس عند جماعة صنعوا له كما طويلاً من جهة والجهة الأخرى بدون كم أصلاً ليختبروا حلمه فلما أخذ ذلك ولبسه قال: جزاهم الله خيراً قد صنعوا لي كماً لأضع فيه ما احتاجه وتركوا الكم من الجهة الثانية ليريحوني من ثقله، فالحليم من شأنه هكذا فلا يغضب أصلاً، وإن غضب وتغير لا يعمل بمقتضى غضبه. أهـ ص 213
وقال النووي في شرح مسلم: تعتقدون أن الصرعة الممدوح القوي الفاضل هو القوي الذي لا يصرعه الرجال بل يصرعهم، وليس هو كذلك شرعاً، بل هو من يملك نفسه عند الغضب فهذا هو الفاضل الممدوح الذي قل من يقدر على التخلق بخلقه ومشاركته في فضيلته، وفيه كظم الغيظ وإمساك النفس عند الغضب عن الانتصار والمخاصمة والمنازعة. أهـ ص 162 جـ 16
يوماً صلاة العصر، ثم قام خطيباً، فلم يَدَعْ (1) شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، حَفِظَهُ من حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، وكان فيما قال: إن الدنيا خَضِرَةٌ (2) حُلْوَةٌ وإن الله مُسْتَخلِفُكُمْ فيها فناظرٌ كيف تعملون (3)، ألا فاتقوا الدنيا (4)، واتقوا النساء (5)،
وكان فيما قال: ألا لا يمنعنَّ رجلاً هَيْبَةُ الناس أن يقول بحقٍ إذا عَلِمَهُ (6). قال: فبكى أبو سعيدٍ، وقال: وقد والله رأينا أشياء فَهِبْنَا، وكان فيما قال: الا إنه يُنْصَبُ لكل غادرٍ (7) لواء يوم القيامة بقدر غَدْرَتِهِ، ولا غَدْرَةَ أعظمُ من غَدْرَةِ (8) إمام عامةٍ يَرْكُزُ لواءهُ عند اسْتِهِ (9)، وكان فيما حفظناهُ يومئذٍ: ألا إن بني آدم خُلقوا على طبقاتٍ، ألا وإن منهمُ البطئ الغضبِ السريع الفيء (10)، ومنهم سريعُ الغضبِ سريعُ الفيء، فتلك بِتلكَ، ألا وإن منهم سريع الغضب بطيء الفيء، ألا وخيرهم بطيء الغضب سريعُ الفيء، وشرهم سريع الغضب بطيء الفيء، ألا وإن الغضبَ جمرةٌ في قلب ابن آدم، أما رأتيم إلى حُمرةِ عينيهِ، وانتفاخ أوداجه (11) فمن أحسَّ بشيء من ذلك فليلصقْ بالأرض (12) " رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
11 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: " في قوله تعالى: (ادْفَعْ بالَّتِي هِيَ أحْسَنُ)
(1) يترك.
(2)
أي غضة ناعمة طرية كثيرة الخيرات زائد حسنها وبهجتها.
(3)
تعملون كذا (د وع ص 214 - 2)، وفي (ن ط): تفعلون أي خلق الله الناس وكلفها بالعمل وسيحاسب كلاً على عمله إن خيراً، وإن شراً.
(4)
احذروا فتنتها وغرورها، وزخارفها وزينتها واعملوا صالحاً فيها بتشييد المكرمات واجتناب السيئات.
(5)
احذروا فتنة النساء أن يشغلكن عن طاعة الله سبحانه وتعالى.
(6)
كذا (ط وع)، وفي (ن د): لا يمنعن رجل هيبة الناس أن يقول بحق إذا عمله.
(7)
الفاجر الظالم غير الوفي، يقال غدر به غدراً: نقض عهده.
(8)
ولا ظلم ولا نقض عهد أشد عقاباً عند الله تعالى من خلف رجل نصب نفسه لمصلحة العامة فغدر وفجر وفسق ونكث.
(9)
يدفن عظمته عند مؤخر جسمه، كناية عن تكبره وتجبره، وفي المصباح الاست: العجز ويراد به حلقة الدبر، والأصل سته بالتحريك ويقال استه فهو مسته: أي ضخم الأليتين.
(10)
الرجوع، من فاء يفيء فيئة، ومنه قيل للظل فيء ونفيئها تميلها.
(11)
ما يحيط بالعنق من العروق التي يقطعها الذابح واحدها ودج بالتحريك.
(12)
فليجلس لتهدأ ثورته ولتقل حدته وليذهب غيظه.
قال: الصبرُ عند الغضب، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا عَصَمَهُمُ اللهُ، وخضعَ لهم (1)
عَدُوهم" ذكره البخاري تعليقاً.
12 -
وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ من كُنَّ فيه آواهُ الله (2) في كَنَفِهِ، وسَتَرَ عليهِ برحمتهِ، وأدخلهُ في محبته: من إذا أُعْطِيَ شَكَرَ، وإذا قَدَرَ غَفَرَ، وإذا غضب فَتَرَ (3) " رواه الحاكم من رواية عمر بن راشد، وقال: صحيح الإسناد.
13 -
ورويَ عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دفع غضبهُ (4) دفعَ الله عنه عذابهُ، ومن حفظ لسانهُ (5) سَتَر الله عورتهُ (6) " رواه الطبراني في الأوسط.
14 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من جُرعةٍ (7) أعظمَ عند الله من جُرعةِ غيظٍ كظمها (8) عَبْدٌ ابتغاء وجه الله" رواه ابن ماجة، ورواته محتج بهم في الصحيح.
15 -
وعن معاذ بن أنسٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كظم غيظاً وهو قادرٌ على أن يُنْفِذَهُ (9) دعاهُ الله سبحانه على رءوس الخلائقِ حتى يُخَيِّرَهُ (10)
من الحور العين ما يشاء" رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجة كلهم
(1) ذل، والمعنى حبس النفس عند المكاره فلا تجزع، والصفح عند الإساءة يسببان رضا الله وحفظه تعالى ويذلان الخصوم.
(2)
أحاطه سبحانه بسياج رعايته وأعانه وأكرمه إذا تحلى بخلال ثلاثة:
(أ) الثناء على من صنع فيه معروفاً وكافأه.
(ب) ستر ذنوب من أساء وعدم الانتقام منه إذا سهل أخذ الثأر.
(جـ) التحلم والأناة وإزالة أسباب الغضب من نفسه.
(3)
هدأ وسكت، يقال فتر عن العمل فتوراً: انكسرت حدته ولان بعد شدته، ومنه فتر الحر إذا انكسر.
(4)
أزال.
(5)
صانه من كل قبيح منكر.
(6)
غفر ذنوبه ومحا سيئاته.
(7)
شرب يسير بضم الجيم وبفتحها: الشرب مرة واحدة، وفي النهاية الضم أشبه بالحديث.
(8)
تجرعه وتحمل سببه وصبر عليه طالباً الثواب من الله جل وعلا.
(9)
ينتقم ويعاقب.
(10)
يتزوج من النساء الحسان في الجنة.
من طريق أبي مرحوم، واسمه عبد الرحيم بن ميمون، عن سهل بن معاذ عنه، ويأتي الكلام على سهل وأبي مرحوم إن شاء الله تعالى.
16 -
وعن أبي ذرٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا غضب أحدكم وهو قائمٌ فليجلس، فإن ذهب عنه الغضبُ، وإلا فليضطجع" رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه، كلاهما من رواية أبي حرب بن الأسود عن أبي ذر، وقد قيل: إن أبا حرب إنما يروي عن عمه عن أبي ذر، ولا يحفظ له سماع من أبي ذر، وقد رواه أبو داود أيضاً عن داود، وهو ابن هند عن بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا ذر بهذا الحديث، ثم قال أبو داود: وهو أصح الحديثين، يعني أن هذا المرسل أصح من الأول، والله أعلم.
17 -
وعن سليمان بن صُرَدٍ رضي الله عنه قال: "اسْتَبَّ (1) رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل أحَدُهُما يغضبُ، ويَحْمَرُّ وجههُ، وتنتفخُ أوداجهُ، فنظرَ إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأعلمُ كلمةً لو قالها لذهب عنه ذا: أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم، فقام إلى الرجل رجلٌ ممن سمعَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل تدري ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفاً (2)؟
قال: لا. قال: إني لأعْلَمُ كلمةً لو قالها لذهب عنه ذا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال له الرجل: أمَجْنُوناً تُرَاني؟ " رواه البخاري ومسلم.
18 -
وعن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه قال: "استبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم
(1) تشاتم.
(2)
سابقاً، قال النووي: فيه أن الغضب في غير الله تعالى من نزغ الشيطان وأنه ينبغي لصاحب الغضب أن يستعيذ فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأنه سبب لزوال الغضب، وأما قول الرجل (أمجنوناً تُراني) فهو كلام من لم يفقه في دين الله تعالى ولم يتهذب بأنوار الشريعة المحمدية المكرمة، وتوهم أن الاستعاذة مختصة بالمجنون ولم يعلم أن الغضب من نزغات الشيطان، ولهذا يخرج به الإنسان عن اعتدال حاله، ويتكلم بالباطل ويفعل المذموم وينوي الحقد والبغض وغير ذلك من القبائح المترتبة على الغضب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال له أوصني، قال: لا تغضب فردد مراراً، قال: لا تغضب فلم يزده في الوصية على: لا تغضب مع تكراره الطلب، وهذا دليل ظاهر في عظم مفسدة الغضب وما ينشأ منه، ويحتمل أن هذا القائل كان من المنافقين أو من جفاة الأعراب؛ والله أعلم ص 163 جـ 16
فغضب أحدهما غضباً شديداً حتى خُيِّلَ (1) إليَّ أن أنفهُ يتمرغُ (2) من شدة غضبهِ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجدُ (3) من الغضب، فقال: ما هي يا رسول الله؟ قال تقول: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم. قال: فجعل مُعاذٌ يأمرُهُ، فأبى وضحكَ، وجعل يزدادُ غضباً" رواه أبو داود والترمذي والنسائي، كلهم من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه، وقال الترمذي: هذا حديث مرسل، عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ بن جبل.
مات معاذ في خلافة عمر بن الخطاب، وقتل عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى غلام ابن ست سنين، والذي قاله الترمذي واضح، فإن البخاري ذكر ما يدل على أن مولد عبد الرحمن بن أبي ليلى سنة سبع عشرة، وذكر غير واحد أن معاذ بن جبل توفي في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة، وقيل: سنة سبع عشرة، وقد روى النسائي هذا الحديث عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أُبَّي بن كعب، وهذا متصل، والله أعلم.
19 -
وعن أبي وائلٍ القاصِ قال: "دخلنا على عروة بن محمد السعدي فكلمه رجلٌ فأغضبهُ، فقام فتوضأ فقال: حَدَّثَنِي أبي عن جدي عطية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الغضب من الشيطان (4)، وإن الشيطان خُلق
(1) مثل له في خياله.
(2)
أي ينقطع ويتشقق غضباً. قال أبو عبيد: أحسبه يترمع: أي يرعد يعني بالراء. أهـ نهاية.
(3)
يحصل له.
(4)
باعثه وموقد نار العداوة بين المتحابين ذلك الخناس الوسواس، وقد قال تعالى عنه كما أمر الله تعالى الشيطان أن يسجد لآدم:"قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين"(12 من سورة الأعراف). لأن الشيطان سن التكبر والتجبر والغواية وقال بالحسن والقبح العقليين.
آيات فضيلة كظم الغيظ:
(أ) يروى أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله ما تقضي بالعدل ولا تعطي الجزل، فغضب عمر حتى عرف ذلك في وجهه. فقال له رجل يا أمير المؤمنين: ألا تسمع أن الله تعالى يقول: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين"(199 من سورة الأعراف). فهذا من الجاهلين، فقال عمر: صدقت فكأنما كانت ناراً فأطفئت، ويعجبني قوله رضي الله عنه: من اتقى الله لم يشف غيظه، ومن خاف الله لم يفعل ما يشاء ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون. =
من النار وإنما تُطفأ النارُ بالماء، فإذا غضبَ أحدكم فليتوضأ" رواه أبو داود.
= (ب) قال تعالى: "الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين"(143 من سورة آل عمران).
(جـ) وقال تعالى: "ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور"(43 من سورة الشورى).
(د) وقال تعالى: "فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون"(من سورة الأحقاف).
(هـ) وقال تعالى: "وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم"(من سورة النور).
(و) وقال تعالى: "فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون"(89 من سورة الزخرف).
(ز) وقال تعالى: "إنما المؤمنون إخوة"(من سورة الحجرات).
(ح) وقال تعالى: "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم" (من سورة محمد عليه الصلاة والسلام.
(ط) وقال تعالى: "والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً"(85 من سورة الأحزاب).
وقد أورد البخاري في باب الحذر من الغضب لقول الله تعالى: "والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون"(37 من سورة الشورى). وقوله عز وجل: "الذين ينفقون" الآية، قال في الفتح، وليس في الآيتين دلالة على التحذير من الغضب إلا أنه لما ضم من يكظم غيظه إلى من يجتنب الفواحش كان في ذلك إشارة إلى المقصود. أهـ ص 396 جـ 10
فجاهد نفسك يا أخي بعدم الغضب لتنال خير الدنيا والآخرة تحافظ على صحتك فلا تهيج دورة دمك ولا يصفر وجهك ولا يحصل منك تقاطع أو عدم رفق ولا ينطلق لسانك بالشتم والفحش الذي يستحي منه العاقل ويندم قائله عند سكون الغضب، ويظهر أثره بالضرب أو القتل، وإن فات ذلك بهرب المغضوب عليه رجع الغاضب إلى نفسه فيمزق ثوبه، ويلطم خده وربما سقط صريعاً، وربما أغمي عليه وربما كسر الآنية وضرب من ليس له في ذلك جريمة، والغضب الباطني يولد الحقد في القلب والحسد وإضمار السوء على اختلاف أنواعه ولعلك فهمت قول سيد الخلق صلى الله عليه وسلم (لا تغضب) من الحكمة في استجلاب المصلحة ودرء المفسدة، والله سبحانه وتعالى أعلم، وقد قال لقمان لابنه: يا بني لا تذهب ماء وجهك بالمسألة ولا تشف غيظك بفضيحتك واعرف قدرك تنفعك معيشتك، وقال أيوب: حلم ساعة يدفع شراً كثيراً، وقيل أفضل الأعمال الحلم عند الغضب، والصبر عند الجزع، ومن قول سلمان: لا تغضب، وإن غضبت فأمسك لسانك ويدك، وحكاية معن بن زائدة تفسر قوله صلى الله عليه وسلم: لا تغضب. يروى في كتب الأدب أن معن بن زائدة كان أميراً على العراق، وكان حليماً كريماً يضرب به المثل فيهما، وقد قدم عليه أعرابي يمتحن حلمه فقال له:
أتذكر إذ لحافك جلد شاة
…
وإذ نعلاك من جلد البعير
قال: نعم، أذكر ذلك ولا أنساه، فقال:
فسبحان الذي أعطاك ملكاً
…
وعلمك الجلوس على السرير
قال: سبحانه وتعالى، قال:
فلست مسلماً إن عشت دهراً
…
على معن بتسليم الأمير
قال: يا أخا العرب: السلام سنة، قال:
سأرحل عن بلاد أنت فيها
…
ولو جار الزمان على الفقير
قال: يا أخا العرب إن جاورتنا فمرحباً بك، وإن رحلت فمصحوباً بالسلامة، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال:
فجدلي يا ابن ناقصة بشيء
…
فإني قد عزمت على المسير
قال: أعطوه ألف دينار يستعين بها على سفره فأخذها، وقال:
قليل ما أتيت به وإني
…
لأطمع منك بالمال الكثير
قال: أعطوه ألفاً آخر فأخذها، وقال:
سألت الله أن يبقيك ذخراً
…
فمالك في البرية من نظير
فقال: أعطوه ألفاً آخر، فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين ما جئت إلا مختبراً حلمك لما بلغني عنه فلقد جمع الله فيك من الحلم ما لو قسم على أهل الأرض لكفاهم. فقال معن: يا غلام كم أعطيته على نظمه؟ قال ثلاثة آلاف دينار، فقال: أعطه على نثره مثلها فأخذها ومضى في طريقه شاكراً.
فلقد رأيت الشجاعة وعلو الهمة وقوة العقل في معن، وظهر ضبط نفسه بثلاثة:
(أ) الحلم: أي امتلاك نفسه عند الغضب.
(ب) كبح جماح الشهوات.
(جـ) صيانة اللسان.
قيل للأحنف بن قيس، وهو ممن يضرب بهم المثل في الحلم: ممن تعلمت الحلم؟ قال من قيس بن عاصم. قيل فما بلغ من حلمه؟ قال بينما هو جالس في داره إذ أتت جارية بسفود عليه شواء فسقط السفود من يدها على ابن له فعقره فمات فدهشت الجارية فقال: لا يسكن روعها إلا العتق فقال: (أنت حرة لا بأس عليك).
نصائح الشعراء المأخوذة من قوله صلى الله عليه وسلم: لا تغضب.
قال عبيد بن الأبرص:
إذا ما رأيت الشر يبعث أهله
…
وقام جناة الشر بالشر فاقعد
ولأبي بكر محمد بن دريد:
يعتصم (1) الحلم بجنبي (2) حبوتي (3)
…
إذا رياح الطيش (4) طارت بالحبا
والناس كالنبت فمنهم رائق (5)
…
غصن (6) نضير عوده مر الجني (7)
ومنهم ما تقتحم (8) العين فإن
…
ذقت جناه انساغ (9) عذباً (10) في اللها (11)
عول على الصبر الجميل (12) إنه
…
أمنع (13) ما لاذ به أولو الحجا (14)
وعطف النفس على سبل الأسى (15)
…
إذا استفز (16) القلب تبريح (17) الجوى (18)
وللمثقب العبدي الجاهل:
وكلام سيء قد وقرت
…
عنه أذناي وما به من صمم
ولبعض الصفح والإعراض عن
…
ذي الجفا أبقى وإن كان ظلم
ولعبدة بن الطيب:
_________
(1)
يتمسك.
(2)
بناحيتي.
(3)
شد الإزار على الركبتين والظهر.
(4)
خفة العقل.
(5)
معجب.
(6)
أنضر ناعم.
(7)
الثمر.
(8)
تتركه كرهاً له وتعدوه إلى غيره.
(9)
سهل بلعه.
(10)
حلواً.
(11)
اللحمة المعلقة بأصل الحنك.
(12)
اعتمد عليه.
(13)
أحمى وأقوى.
(14)
العقل.
(15)
التصبر.
(16)
استخف.
(17)
شدة.
(18)
فساد الجوف.