المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الترغيب في الصدق، والترهيب من الكذب - الترغيب والترهيب للمنذري - ت عمارة - جـ ٣

[عبد العظيم المنذري]

فهرس الكتاب

- ‌الترهيب من الربا

- ‌ الترهيب من غصب الأرض وغيرها

- ‌الترهيب من البناء فوق الحاجة تفاخراً وتكاثراً

- ‌الترهيب من منع الأجير أجره والأمر بتعجيل إعطائه

- ‌ترغيب المملوك في أداء حق الله تعالى وحق مواليه

- ‌ترهيب العبد من الإباق من سيده

- ‌الترغيب في العتق والترهيب من اعتباد الحر أو بيعه

- ‌كتاب النكاح وما يتعلق به

- ‌الترغيب في غض البصروالترهيب من إطلاقه ومن الخلوة بالأجنبية ولمسها

- ‌الترغيب في النكاح سيما بذات الدين الولود

- ‌ترغيب الزوج في الوفاء بحق زوجته، وحسن عشرتهاوالمرأة بحق زوجها وطاعته، وترهيبها من إسقاطه ومخالفته

- ‌الترهيب من ترجيح إحدى الزوجات، وترك العدل بينهم

- ‌الترغيب في النفقة على الزوجة والعيالوالترهيب من إضاعتهم وما جاء في النفقة على البنات وتأديبهن

- ‌الترغيب في الأسماء الحسنةوما جاء في النهي عن الأسماء القبيحة وتغييرها

- ‌الترغيب في تأديب الأولاد

- ‌الترهيب أن ينتسب الإنسان إلى غير أبيه أو يتولى غير مواليه

- ‌ترغيب من مات له ثلاثة من الأولاد أو اثنان أو واحدفيما يذكر من جزيل الثواب

- ‌الترهيب من إفساد المرأة على زوجها والعبد على سيده

- ‌ترهيب المرأة أن تسأل زوجها الطلاق من غير بأس

- ‌ترهيب المرأة أن تخرج من بيتها متعطرة متزينة

- ‌الترهيب من إفشاء السر سيما ما كان بين الزوجين

- ‌كتاب اللباس والزينة

- ‌الترغيب في لبس الأبيض من الثياب

- ‌الترغيب في القميص

- ‌الترغيب في كلمات يقولهن من لبس ثوباً جديداً

- ‌الترهيب من لبس النساء الرقيق من الثياب التي تصف البشرة

- ‌ترهيب الرجال من لبسهم الحرير وجلوسهم عليه والتحلي بالذهبوترغيب النساء في تركهما

- ‌الترهيب من تشبه الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل في لباس أو كلام أو حركة أو نحو ذلك

- ‌الترغيب في ترك الترفع في اللباس تواضعاً واقتداءً بأشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابهوالترهيب من لباس الشهرة والفخر والمباهاة

- ‌الترغيب في الصدقة على الفقير بما يلبسه كالثوب ونحوه

- ‌الترغيب في إبقاء الشيب وكراهة نتفه

- ‌الترهيب من خضب اللحية بالسواد

- ‌ترهيب الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة، والمتفلجة

- ‌الترغيب في الكحل بالإثمد للرجال والنساء

- ‌كتاب الطعام وغيره

- ‌الترغيب في التسمية على الطعام، والترهيب من تركها

- ‌الترهيب من استعمال أواني الذهب والفضةوتحريمه على الرجال والنساء

- ‌الترهيب من الأكل والشرب بالشمال وما جاء في النهي عن النفخ في الإناءوالشرب من في السقاء ومن ثلمة القدح

- ‌الترغيب في الأكل من جوانب القصعة دون وسطها

- ‌الترغيب في أكل الخل والزيت، ونهس اللحم دون تقطيعه بالسكين إن صح الخبر

- ‌الترغيب في الاجتماع على الطعام

- ‌الترهيب من الإمعان في الشبع، والتوسع في المأكل والمشارب شَرَهاً وبطراً

- ‌الترهيب من أن يدعى الإنسان إلى الطعام فيمتنع من غير عذر والأمر بإجابة الداعي وما جاء في طعام المتباريين

- ‌الترغيب في لعق الأصابع قبل مسحها لإحراز البركة

- ‌الترغيب في حمد الله تعالى بعد الأكل

- ‌الترغيب في غسل اليد قبل الطعام وبعده، والترهيب أن ينام وفي يده ريح الطعام لا يغسلها

- ‌كتاب القضاء وغيره

- ‌الترهيب من تولي السلطنة والقضاء والإمارة سيما لمن لا يثق بنفسه وترهيب من وثق بنفسه أن يسأل شيئاً من ذلك

- ‌ترغيب من ولي شيئاً من أمور المسلمين في العدل إماماً كان أو غيره وترهيبه أن يشق على رعيته، أو يجور، أو يغشهم، أو يحتجب عنهم، أو يغلق بابه دون حوائجهم

- ‌ترهيب من ولي شيئاً من أمور المسلمين أن يولي عليهم رجلاً وفي رعيته خير منه

- ‌ترهيب الراشي والمرتشي والساعي بينهما

- ‌الترهيب من الظلم ودعاء المظلوم وخذله، والترغيب في نصرته

- ‌الترغيب في كلمات يقولهن من خاف ظالماً

- ‌الترغيب في الامتناع عن الدخول على الظلمة والترهيب من الدخول عليهم وتصديقهم وإعانتهم

- ‌الترهيب من إعانة المبطل ومساعدته والشفاعة المانعة من حد من حدود الله وغير ذلك

- ‌ترهيب الحاكم وغيره من إرضاء الناس بما يسخط الله عز وجل

- ‌الترغيب في الشفقة على خلق الله تعالى من الرعية والأولاد والعبيد وغيرهم، ورحمتهم والرفق بهم

- ‌ترغيب الإمام وغيره من ولاة الأمور في اتخاذ وزير صالح وبطانة حسنة

- ‌الترهيب من شهادة الزور

- ‌كتاب الحدود وغيرها

- ‌الترغيب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والترهيب من تركهما والمداهنة فيهما

- ‌الترهيب من أن يأمر بمعروف وينهى عن منكر ويخالف قوله فعله

- ‌الترغيب في ستر المسلم، والترهيب من هتكه وتتبع عورته

- ‌الترهيب من مواقعة الحدود وانتهاك المحارم

- ‌الترغيب في إقامة الحدود، والترهيب من المداهنة فيها

- ‌الترهيب من شرب الخمر وبيعها وشرائها وعصرها وحملها وأكل ثمنها والتشديد في ذلكوالترغيب في تركه والتوبة منه

- ‌الترهيب من الزنا سيما بحليلة الجار والمغيبة والترغيب في حفظ الفرج

- ‌الترهيب من اللواط، وإتيان البهيمة، والمرأة في دبرها سواء كانت زوجته أو أجنبية

- ‌الترهيب من قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق

- ‌الترهيب من قتل الإنسان نفسه

- ‌الترهيب أن يحضر الإنسان قتل إنسان ظلماً أو ضربه وما جاء فيمن جرد ظهر مسلم بغير حق

- ‌الترغيب في العفو عن القاتل والجاني والظالموالترهيب من إظهار الشماتة بالمسلم

- ‌الترهيب من ارتكاب الصغائر والمحقرات من الذنوب والإصرار على شيء منها

- ‌كتاب البر والصلة وغيرهما

- ‌الترغيب في بر الوالدين وصلتهما وتأكيد طاعتهما والإحسان إليهما وبر أصدقائهما من بعدهما

- ‌الترهيب من عقوق الوالدين

- ‌الترغيب في صلة الرحم وإن قطعت، والترهيب من قطعها

- ‌الترغيب في كفالة اليتيم ورحمته، والنفقة عليه والسعي على الأرملة والمسكين

- ‌الترهيب من أذى الجار، وما جاء في تأكيد حقه

- ‌الترغيب في زيارة الإخوان والصالحين وما جاء في إكرام الزائرين

- ‌الترغيب في الضيافة وإكرام الضيف، وتأكيد حقهوترهيب الضيف أن يقيم حتى يؤثم أهل المنزل

- ‌الترهيب أن يحتقر المرء ما قدم إليه أو يحتقر ما عنده أن يقدمه للضيف

- ‌الترغيب في الزرع وغرس الأشجار المثمرة

- ‌الترهيب من البخل والشح، والترغيب في الجود والسخاء

- ‌الترهيب من عود الإنسان في هبته

- ‌الترغيب في قضاء حوائج المسلمين، وإدخال السرور عليهموما جاء فيمن شفع فأهدى إليه

- ‌كتاب الأدب وغيره

- ‌الترغيب في الحياء، وما جاء في فضله، والترهيب من الفحش والبذاء

- ‌الترغيب في الخلق الحسن وفضله، والترهيب من الخلق السيئ وذمه

- ‌الترغيب في الرفق والأناة والحلم

- ‌الترغيب في طلاقة الوجه، وطيب الكلام، وغير ذلك مما يذكر

- ‌الترغيب في إفشاء السلام، وما جاء في فضلهوترهيب المرء من حب القيام له

- ‌الترغيب في المصافحة، والترهيب من الإشارة في السلاموما جاء في السلام على الكفار

- ‌الترهيب أن يطلع الإنسان في دار قبل أن يستأذن

- ‌الترهيب أن يتسمع حديث قوم يكرهون أن يسمعه

- ‌الترغيب في العزلة لمن لا يأمن على نفسه عند الاختلاط

- ‌الترهيب من الغضب، والترغيب في دفعه وكظمه وما يفعل عند الغضب

- ‌الترهيب من التهاجر والتشاحن والتدابر

- ‌الترهيب من قوله لمسلم: يا كافر

- ‌الترهيب من السباب واللعن لا سيما لمعين آدمياً كان أو دابة وغيرهماوبعض ما جاء في النهي عن سب الديك والبرغوث والريح والترهيب من قذف المحصنة والمملوك

- ‌الترهيب من سب الدهر

- ‌الترهيب من ترويع المسلم ومن الإشارة إليه بسلاح ونحوه جاداً أو مازحاً

- ‌الترغيب في الإصلاح بين الناس

- ‌الترهيب أن يعتذر إلى المرء أخوه فلا يقبل عذره

- ‌الترهيب من النميمة

- ‌الترهيب من الغيبة والبهت وبيانهما، والترغيب في ردهما

- ‌الترغيب في الصمت إلا عن خير، والترهيب من كثرة الكلام

- ‌الترهيب من الحسد وفضل سلامة الصدر

- ‌الترغيب في التواضع، والترهيب من الكبر والعجب والافتخار

- ‌الترهيب من قوله لفاسق أو مبتدع:يا سيدي أو نحوها من الكلمات الدالة على التعظيم

- ‌الترغيب في الصدق، والترهيب من الكذب

- ‌ترهيب ذي الوجهين وذي اللسانين

- ‌الترهيب من الحلف بغير الله سيما بالأمانة، ومن قوله أنا بريء من الإسلام أو كافر ونحو ذلك

- ‌الترهيب من احتقار المسلم وأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى

- ‌الترغيب في إماطة الأذى عن الطريق، وغير ذلك مما يذكر

- ‌الترغيب في قتل الوزغ وما جاء في قتل الحيات وغيرها مما يذكر

الفصل: ‌الترغيب في الصدق، والترهيب من الكذب

‌الترغيب في الصدق، والترهيب من الكذب

1 -

عن عبد الله بن كعب بن مالكٍ رضي الله عنه قال: "سمعت كعب بن مالكٍ يُحَدِّثُ حديثهُ حين تخلفَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. قال كعبُ بن مالكٍ: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ غزاها قطُّ إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفتُ في غزوة بدرٍ، ولم يُعَاتِبْ أحداً تخلف عنه (1) إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون يريدون عير قريشٍ حتى جمع الله بينهم، وبين عدوهم على غير ميعادٍ، ولقد شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبةِ حين تواثقنا (2) على الإسلام، وما أحِبُّ أن لي بها مشهدَ بدرٍ، وإن كانت بدراً ذُكِرَ في الناس منها، وكان من خبري حين تخلفتُ (3) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قَطُّ أقوى، ولا أيسرَ مني حين تخلفتُ عنه في تلك الغزوةِ، والله ما جمعتُ قبلها راحلتين قَطُّ حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدُ غزوةً إلا وَرَّى بغيرها (4)

حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍ شديدٍ، واستقبل سفراً بعيداً ومَفَاوِزَ، واستقبل عدواً كثيراً، فَجَلَا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، وأخبرهم بوجههم الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثيرٌ لا يجمعهم كتابٌ حافظٌ، يريد بذلك الديوان، قال كعبٌ: فَقَلَّ رجلٌ يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحيٌ من الله عز وجل، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمارُ والظلالُ فأنا إليها أصْعَرُ، فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجِعُ ولم أقْضِ شيئاً، وأقولُ في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أردتُ، ولم يزل ذلك يتمادى بي (5) حتى استمر بالناس

(1) تخلف عنه كذا (د وع ص 252 - 2)، وفي (ن ط): عنها.

(2)

تواثقنا كذا (د وع)، وفي (ن ط): توثقنا.

(3)

لم أحارب معه.

(4)

ستر وأظهر غيرها: أي يعرض بالعزيمة القوية المستعدة للحرب في جهة أخرى.

(5)

يستمر ويدوم على فعله. ومنه تمادى فلان في غيه. إذا لج.

ص: 580

الْجدُّ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه، ولم أقضِ من جهازي شيئاً، ثم غدوتُ فرجعتُ، ولم أقضِ شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا، وتَفَارَطَ الغزو، فهممتُ أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلتُ، ثم لم يُقَدَّرْ لي ذلك وطفقتُ إذا خرجتُ في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يَحْزُنُني أني لا أرى لي أُسوةً (1) إلا رجلاً مغموضاً عليه في النفاق أو رجلاً ممن عذرَ الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالسٌ في القوم بتبوك: ما فعل كعبُ بن مالكٍ؟ فقال رجلٌ من بني سلمةَ: يا رسول الله حبسهُ بُرْدَاهُ (2) والنظرُ في عِطْفَيْهِ، فقال له معاذ بن جبلٍ: بئسما قلت، والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما هو على ذلك، فرأى رجلاً مُبيضاً يزول به السرابُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كُنْ أبا خَيْثَمَةَ، فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الذي تَصَدَّقَ بصاعِ التمر حين لَمَزَهُ المنافقون (3).

قال كعبٌ: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً (4) من تبوك حضرني بَثِّي (5) فطفقتُ أتذكرُ الكذبَ وأقولُ بما أخرجُ من سخطه غداً وأستعينُ على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظلَّ قادماً راح عني الباطلُ حتى عرفتُ أني لن أنجو منه بشيء أبداً فأجمعتُ صدقةً، وصَبَّحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قَدِمَ من سفر بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءهُ المُخَلّفُونَ (6)، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً، فَقَبِلَ (7) منهم علانيتهم وبايعهم، واستغفر

(1) قدوة.

(2)

منعه حب النعيم والميل إلى الترف وعدم مقابلة الشدائد.

(3)

ذكروه بسوء وعابوه.

(4)

راجعاً.

(5)

حزني: وفي (ن د): همي.

(6)

الذين لم يرافقوه في الحرب كما قال تعالى: "فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر، قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاءً بما كانوا يكسبون"(81 - 82 من سورة التوبة).

(7)

عذرهم.

ص: 581

لهم (1)، وَوَكَلَ سرائرهم (2) إلى الله عز وجل حتى جئتُ، فلما سَلَّمْتُ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المغْضَبِ، ثم قال: تعال فجئتُ أمشي حتى جلستُ بين يديهِ، فقال لي: ما خَلَّفَكَ (3)؟ ألم تكن قد ابتعت (4) ظهرك؟ قلت: يا رسول الله إني والله لو جلستُ عند غيركَ من أهل الدنيا لرأيتُ أني سأخرجُ من سَخَطِهِ (5) بعذرٍ، ولقد أُعطيتُ جدلاً (6)،

ولكني والله لقد علمتُ لئن حدَّثْتُكَ اليوم حديث كذبٍ ترضى به عني لَيُوشِكَنَّ الله أن يُسْخِطَكَ عليَّ، ولئن حدثتك حديث صدقٍ تَجِدْ عليَّ فيه (7) إني لأرجو فيه عُقْبَى (8) الله عز وجل. وفي رواية: عفو الله، والله ما كان لي من عُذرٍ (9) ما كنتُ قَطُّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفتُ (10) عنك. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك، فقمتُ وثارَ رجالٌ (11) من بني سلمةَ، فاتبعوني، فقالوا: والله ما علمناك أذنبتَ ذنباً قبل هذا، لقد عجزتَ في أن لا تكون اعتذرتَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المُخَلَّفُونَ، فقد كان كافيكَ ذنبكَ استغفارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، قال: فوالله مازالوا يؤنبونني (12) حتى أردتُ أن أرجعَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُكْذِبَ نفسي قال: ثم قلتُ لهم: هل لقيَ هذا معي أحدٌ؟ قالوا: نعم لَقِيَهُ معك رجلانِ قالا مثل ما قلتَ، وقيل لهما ما قيل لك. قال: قلتُ: من هما؟ قالوا: مُرارةُ بن ربيعة العامري، وهلالُ بن أمية الواقفي. قال:

(1) طلب من الله تعالى غفرانه.

(2)

بواطنهم.

(3)

أي شيء دعاك إلى ترك القتال؟

(4)

اتفقت معي على الجهاد والتضحية والدفاع في سبيل الدين، ولو فيه إراقة الدم وثقل كاهلك وتعب جسمك واستشهادك.

(5)

من غضبه بحجة مقبولة.

(6)

لساناً فصيحاً وبياناً مقنعاً، جدلاً كذا (ع ص)، وفي (ن ط): جلالا، أي عظمة ورفعة.

(7)

تعتب وتحفظ عليَّ تقصيري.

(8)

عاقبة محمودة لصدقي وحسن طويتي وإخلاصي له جل جلاله.

(9)

اعترف بتقصيره ونفى عنه العذر.

(10)

لم أحارب معك.

(11)

هاج، ومنه قيل للفتنة ثارت واحتدت، وثار إلى الشر: نهض.

(12)

يزجرونني.

ص: 582

فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً فيهما أسوةٌ (1)، قال فمضيتُ (2) حتى ذكروهما لي قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين مَنْ تخلف عنه. قال: فَاجْتَنَبَنَا الناسُ، أو قال: تَغَيَّرُوا لنا حتى تَنَكَّرَتْ (3) لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرفُ فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً، فأما صاحبايَ، فاستكانا (4)

وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنتُ أشَبَّ القومِ (5) وأجلدهم، فكنت أخرجُ فأشهدُ الصلاةَ، وأطوفُ في الأسواقِ فلا يُكلمني أحدٌ، وآتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في مجلسه بعد الصلاةِ، فَأُسَلَّمُ فأقولُ في نفسي: هل حَرَّكَ شفتيهِ بِرَدِّ السلام أم لا؟ ثم أُصلي قريباً منه وأُسَارِقُهُ النظر (6)، فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إليَّ، فإذا التفتُّ نحوه أعرضَ عني حتى إذا طال عليَّ ذلك من جفوة المسلمين مشيتُ (7) حتى تَسَوَّرْتُ (8) جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحَبُّ الناس إليَّ فَسَلَّمْتُ عليه، فوالله ما رَدَّ عليَّ السلام، فقلتُ له: يا أبا قتادة أنْشُدُكَ بالله (9) هل تَعْلَمَنَّ أني أُحِبُّ الله ورسوله؟ قال: فسكتَ، فَعُدتُ فناشدتهُ، فسكتَ، فعدتُ فناشدتهُ، فقال: الله ورسولهُ أعلم، ففاضت عينايَ، وتوليتُ حتى تسورتُ الجدارُ، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نَبَطِيٌّ من أنْبَاطِ (10) أهل الشامِ ممن قَدِمَ بطعامٍ يَبيعهُ بالمدينة يقولُ: من يَدُلُّ على كعب بن مالكٍ؟ قال: فطفق الناس يشيرون له إليَّ حتى جاءني، فدفع إليَّ كتاباً من ملكِ غَسَّانَ، وكنتُ كاتباً فقرأتهُ، فإذا فيه: أما بعدُ، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك (11)، ولم يجعلك الله بدارِ هوانٍ (12)،

(1) فيهما أسوة قال، كذا (ط وع 258 - 2)، وفي (ن د): فقلت فيهما أسوة فمضيت.

(2)

ذهبت.

(3)

تغيرت.

(4)

خضعا وذلا، من السكون أو من السكينة، وهي الحالة السيئة.

(5)

أكثرهم فتوة.

(6)

أترقب فرصة التمتع برؤيته صلى الله عليه وسلم وأختلس أوقات إنشغاله عني.

(7)

ليس في (د) مشيت.

(8)

تسلق السور: ودخل المنزل من البناء المحيط به.

(9)

أقسم عليك به سبحانه وسألتك به، يقال نشدتك الله وأنشدك الله وبالله وناشدتك الله وبالله.

(10)

جبل معروف كانوا ينزلون بالبطائح بين العراقين. أهـ نهاية. أي واحد من هؤلاء.

(11)

هجرك.

(12)

ذل وضياع ومنقصة.

ص: 583

ولا مَضْيَعَةٍ، فَألْحِقْ بنا نُوَاسِكَ (1).

قال: فقلتُ حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء (2) فَتَيَمَّمْتَ بها التنورَ (3) فَسَجَرْتُهَا (4) حتى إذا مضت أربعون من الخمسين، واسْتَلْبَثَ (5) الوحيُ، وإذا رسولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك (6). قال: فقلتُ: أُطلِّقُهَا أم ماذا أفعل؟ قال: لا. بل اعتزلها فلا تقربها، وأرسل إلى صاحبيَّ بمثل ذلك. قال: فقلتُ لامرأتي: ألحِقِي بأهلكِ، فكوني عندهم حتى يقضيَ الله في هذا الأمر. قال: فجاءت امرأةُ هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: إن هلال بن أمية شيخٌ ضائعٌ (7) ليس له خادمٌ، فهل تكرهُ أن أخدمهُ؟ قال: لا، ولكن لا يقربنك. قالت: إنه والله ما به حَرَكَةٌ إلى شيء (8)، ووالله مازال يبكي منذ كان من أمرهِ ما كان إلى يومه هذا. قال: فقال لي بعضُ أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمهُ. قال: فقلتُ: والله لا أستأذنُ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ما يقولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنتهُ فيها؟ وأنا رجلٌ شابٌّ (9)،

قال: فلبثتُ بذلك عشر ليالٍ، فَكَمُلَ لنا خمسون ليلةً من حين نهى عن كلامنا. قال: ثم صليتُ صلاة الصبح صباح خمسينَ ليلةً على ظهر بيتٍ من بيوتنا، فبينا أنا جالسٌ على الحالةِ التي ذكرَ الله عز وجل منا قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرضُ بما رَحُبَتْ، سمعتُ صوت صارخٍ أوْفَى على سَلْعٍ يقول بأعلى صوتهِ: يا كعبُ بن مالكٍ! أبشر، قال فخررتُ ساجداً، وعلمتُ أن قد جاء فرجٌ، قال: وأذنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبةِ الله علينا حين صلى

(1) تقدم لنا نكرمك ونساعدك ونخفف عنك آلامك وتزول هذه الجفوة.

(2)

الفتنة.

(3)

قصدت النار المحماة الموقدة في فرن.

(4)

حرقتها، يقال: سجرت التنور: أوقدته.

(5)

من اللبث: أي أبطأ وتأخر.

(6)

تبتعد عن التمتع بها.

(7)

محنك جريب مطمئن في حاجة إلى معين.

(8)

ليس عنده توقان إلى القرب من النساء وملامستها.

(9)

فتى قوي عندي لهن إربة.

ص: 584

صلاة الفجرِ، فذهب الناس يُبَشروننا، فذهب قِبَلَ صاحبيَّ مُبشرون، وركضَ رجلٌ إليَّ فَرَساً، وسعى ساعٍ من أسْلَمَ من قِبَلِي، وأوْفَى على الجبل فكان الصوتُ أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعتُ صوتهُ يبشرني نزعتُ له ثوبيَّ (1) فكسوتهما إياهُ ببشارته والله ما أمْلِكُ غيرهما يومئذٍ، واستعرتُ ثوبين فلبستهما، وانطلقتُ أُيَمِّمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقاني الناس فوجاً فوجاً (2) يُهنئوني بالتوبة، ويقولون: وَلْيَهْنَكَ توبةُ الله عليك حتى دخلنا المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله الناس، فقام طلحةُ ابن عبيد الله يهرول (3) حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إليَّ رجلٌ من المهاجرين غيرهُ. قال: فكان كعبٌ لا ينساها لطلحةَ. قال كعبٌ: فلما سَلَّمْتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وهو يَبْرُقُ (4) وجهه من السرور، قال: أبشر بخير يوم مَرَّ عليك منذ ولدتك أمك. قال فقلتُ: أمِنْ عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: بل من عند الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعةُ قمرٍ (5)

قال: وكنا نعرف ذلك. قال: فلما جلستُ بين يديه قلتُ يا رسولُ الله: إن من توبتي أن أتَخَلَّعَ من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسولهِ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك. قال: فقلتُ فإني أُمْسِكُ سهمي الذي بخيبرَ. قال: وقلتُ: يا رسول الله إنما أنجاني الله بالصدقِ، وإن من توبتي أن لا أُحَدَّثَ إلا صدقاً ما بقيتُ، قال: فوالله ما علمتُ أحداً أبلاهُ اللهُ في صدقِ الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بَقيَ (6). قال: فأنزل الله عز وجل: (لَقَدْ تَابَ اللهُ على النبيِّ وَالمُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ (7) الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) (8) حتى بلغ (إنَّهُ بِهمْ

(1) قدمتهما له بشرى قبولي عند الله صادقاً.

(2)

جماعات.

(3)

يجري بسرعة.

(4)

يتلألأ ويضيء.

(5)

جزء من البدر الساطع المنير.

(6)

مدة حياتي.

(7)

من إذنه للمنافقين في التخلف، أو برأهم عن علقة الذنوب.

(8)

في وقت الضيق والشدة، وهي في غزوة تبوك، كانوا في عسرة الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد، الزاد حتى قيل إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة، والماء حتى شربوا اللفظ "من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم" أي عن الثبات عن الإيمان أو عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 585

رَءوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ (1) الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) (2) حتى بلغ (اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين). قال كعبٌ: والله ما أنعم الله عليَّ من نعمةٍ قَطُّ بعد إذ هداني الله للإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكونَ كذبْتُهُ، فَأهْلِكَ كما هَلكَ الذين كذبوا، إن الله عز وجل قال للذين كذبوا حين نزل الوحي شر ما قال لأحدٍ فقال:(سَيَحْلِفُونَ باللهِ لَكُمْ إذَا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ (3) فَأعْرِضُوا عَنْهُمْ (4) إنَّهُمْ رِجْسٌ (5) وَمَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ (6)

فَإنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإن اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الفَاسِقِينَ). قال كعبٌ: كُنا خُلِّفْنَا أيها الثلاثة عن أمرِ

(1) ساداتنا: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع.

(2)

بما وسعت: أي برحبها لإعراض الناس عنهم بالكلية، وهو مثل لشدة الحيرة "وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين"(118 - 119 من سورة التوبة). (أنفسهم): أي قلوبهم من فرط الوحشة والغم بحيث لا يسعها أنس ولا سرور (وظنوا): وعلموا أن لا نجاة من سخط الله إلا إلى استغفاره، ثم تاب عليهم بالتوفيق للتوبة، أو أنزل قبول توبتهم ليعدوا من جملة التائبين، أو رجع عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم، سبحانه تواب لمن عاد وأناب رحيم منعم عليهم بالنعم ومتفضل (اتقوا الله) فيما لا يرضاه، وخافوه وأدوا أوامره (مع الصادقين): في إيمانهم وعهودهم، أو في دين الله نية وقولاً وعملاً، أو في توبتهم وإنابتهم.

لقد رأيت صدق سيدنا كعب؛ حفظ له الإيمان وسهل له التوبة ورحمة الله ورضوانه، وهكذا يكون الثبات على الحق والصبر وانتظار فرج الله والأمل في الخير والرجاء في الطاعة وحسن الامتثال. يهجره رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة فيزداد تلهفاً وشغفاً بأخباره وتطلعاً لأوامره وشوقاً لحديثه وهياماً في محادثاته والنظر إليه والتأني وعدم الذهاب إلى الأعداء.

(3)

فلا تعاتبوهم.

(4)

ولا توبخوهم.

(5)

مثل النجاسة لا ينفع فيهم تطهير أو تأنيب، وهذه علة الإعراض وترك المعاتبة: أي قلوبهم قاسية لا يؤثر فيها لوم أو زجر، ويقصد من المعاتبة التطهير والإنابة إلى الله.

(6)

بحلفهم فتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم: أي فإن رضاكم لا يستلزم رضا الله سبحانه وتعالى، ورضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كانوا في سخط الله وبصدد عقابه، وإن أمكنهم أن يلبسوا عليكم لا يمكنهم أن يلبسوا على الله فلا يهتك سترهم، ولا ينزل الهوان بهم، قال تعالى:"إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون"(93 - 94 من سورة التوبة).

ص: 586

أولئك الذين قَبِلَ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم، واستغفر لهم، وأرْجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله تعالى فيه بذلك. قال الله عز وجل:(وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) وليس الذي ذكره ما خُلِّفْنَا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تَخْلِيفُهُ إيانا، وإرجاؤهُ أمرنا عمن حلفَ له، واعتذر إليه، فَقَبِلَ منه" رواه البخاري ومسلم، واللفظ له، ورواه أبو داود والنسائي بنحوه مفرقاً مختصراً، وروى الترمذي قطعة من أوله، ثم قال: وذكر الحديث.

[وَرّى عن الشيء]: إذا ذكره بلفظ يدل عليه، أو على بعضه دلالة خفية عند السامع.

[المفاز] والمفازة: هي الفلاة لا ماء بها.

[يتمادى بي]: أي يتطاول ويتأخر.

[وقوله: تفارط الغزو]: أي فات وقته من أراده، وبَعُدَ عليه إدراكه.

[المغموض] بالغين والضاد المعجمتين: هو المعيب المشار إليه بالعيب.

[ويزول به السراب]: أي يظهر شخصه خيالاً فيه.

[أوْفَى على سَلَع]: أي طلع عليه، وسلع جبل معروف في أرض المدينة.

[أيمم] أي أقصد.

[أرجأ أمرنا]: أخره، والإرجاءُ: التأخير.

[وقوله: فانا إليها أصعر] بفتح الهمزة والعين المهملة جميعاً وسكون الصاد المهملة: أي أميل إلى البقاء فيها، وأشتهي ذلك، والصعر: الميل، وقال الجوهري: في الخد خاصة.

2 -

وعن عبادةَ بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اضمنوا لي (1) سِتاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم (2)، وأوفوا إذا وعدتم (3)،

وأدُّوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم (4)، وغضوا أبصاركم (5)، وكُفُّوا

(1) احفظوا وداوموا عليها ليتحتم الوفاء بدخول الجنة.

(2)

انطلقوا بالواقع، وقولوا الحق.

(3)

الزموا الوفاء إذا حصل وعد.

(4)

امنعوها من المعاصي والوقوع في الفاحشة.

(5)

أبعدوها عن النظر إلى ما حرم الله.

بمكارم الأخلاق كن متحلياً

واصدق وجد ونافس الأبطالا

ص: 587

أيديكم (1) " رواه أحمد وابن أبي الدنيا وابن حبان في صحيحه، والحاكم والبيهقي كلهم من رواية المطلب بن عبد الله بن حنطب عنه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.

[قال الحافظ]: المطلب لم يسمع من عبادة.

3 -

وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تَقَبَّلُوا لي ستاً (2) أتَقَبَّلْ لكمُ الجنة: إذا حَدَّثَ أحدكم فلا يكذب، وإذا وعدَ (3) فلا يُخْلِفُ، وإذا ائتمنَ فلا يَخُنْ (4) غُضوا أبصاركم (5)، وكُفُّوا أيديكم (6)، واحفظوا فروجكم (7) " رواه أبو بكر بن أبي شيبة وأبو يعلى والحاكم والبيهقي، ورواتهم ثقات إلا سعد بن سنان.

(1) لا تقدموا بها أي أذى.

ست خصال تجلب نعيم الله ورضوانه في الدنيا والآخرة:

(أ) الصدق.

(ب) الوفا.

(جـ) الأمانة.

(د) الاستقامة وعدم غشيان الفجور.

(هـ) عدم التطلع إلى ما يغضب الله، والحياء والخشوع.

(و) عدم السرقة والتعدي والظلم، بمعنى التحلي بالرأفة والرحمة وتقديم الخير للمسلمين، وقد عد الله من صفات الأبرار المؤمنين "والذين هم لفروجهم حافظون ..... والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون"(5 - 8 من سورة المؤمنون).

"ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون"(من سورة الفرقان). العاملين بقول الله تبارك وتعالى: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم

وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن" (من سورة النور).

وفي الجامع الصغير (اضمنوا): أي اضمنوا فعل ست خصال بالمداومة عليها أضمن لكم دخول الجنة مع السابقين الأولين نظير فعلها، أو من غير سبق عذاب (اصدقوا): أي لا تكذبوا في شيء من حديثكم إلا أن يترتب على الكذب مصلحة كالإصلاح بين الناس، وأدوا الأمانة لمن ائتمنكم عليها، واحفظوا فروجكم من فعل الحرام، وغضوا أبصاركم عن النظر إلى ما لا يحل، وكفوا أيديكم: أي امنعوها من تعاطي ما لا يجوز تعاطيه شرعاً. وقال الحفني: الأمانة في مال وديعة، ويحتمل أن المراد أدوا جميع المأمورات التي ائتمنتم عليها واجتنبوا جميع المنهيات. أهـ ص 211 جـ 1

(2)

تكفلوا وأقيموا هذه السنة أتكفلُ لكم بدخول الجنة، يعني مع السابقين، أوبغير عذاب.

(3)

أعطى أخاه وعداً لمصلحة، وكان الوفاء خيراً.

(4)

فلا يغدر من ائتمنه.

(5)

لا تنظروا إلى ما لا يجوز.

(6)

فلا تبسطوها إلى ما لا يحل.

(7)

امنعوها عن الزنا واللواط وإتيان البهائم ومقدمات ذلك والسحاق.

ص: 588

4 -

وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا زعيمٌ (1) ببيتٍ في وسط الجنة لمن ترك الكذب، وإن كان مازحاً" رواه البيهقي بإسناد حسن، ورواهُ أبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجة في حديث تقدم في حُسن الخلق.

5 -

وعن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي قُرادٍ السُّلَميَّ رضي الله عنه قال: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بطَهُورٍ (2)، فغمس يده فتوضأ فتتبعناهُ فَحَسَوْنَاهُ (3) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما حَمَلَكُمْ على ما فعلتمُ؟ قلنا: حُبُّ الله ورسولهِ (4) قال: فإن أحببتم (5) أن يُحِبَّكُمُ الله ورسولهُ، فأدُّوا إذا ائتمنتم، واصدقوا إذا حدَّثتُم، وأحسنوا جوارَ من جاوركم" رواه الطبراني.

6 -

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربعٌ إذا كُنَّ فيكَ (6) فلا عليك ما فاتك من الدنيا (7): حفظُ أمانةٍ، وصدقُ حديثٍ، وحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ في طُعْمَةٍ" رواه أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني والبيهقي بأسانيد حسنة.

7 -

وعن الحسن بن عليٍ رضي الله عنهما قال: "حفظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم: دَعْ ما يَرِيُبكَ (8) إلى ما لا يَرِيُبكَ، فإن الصدقَ طمأنينةٌ، والكذب رِيبَةٌ" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

(1) كفيل بحفظ قصر في الجنة لمن هجر الكذب في كلامه حتى في هزله ومجونه وتسرى همومه يلتزم الصدق.

(2)

ماء مطهر.

(3)

أخذنا ملء الفم.

(4)

أي دعانا إلى ذلك حب التبرك والتقرب لمحبة الله ورسوله، فانظر رعاك الله إلى تيمن الصحابة وتناول شيء من طهوره رجاء القبول وعنوان الامتثال والحب والتبرك.

(5)

فإن كذا (ط وع ص 262 - 2)، وفي (ن د): إن، والمعنى محبة الله ورسوله في طاعته سبحانه وتعالى، وفي التخلق بأخلاق الكرام مثل أداء الأمانة وصدق القول وإخلاص العمل وحسن الجوار وإكرام الجار، والإحسان إليه وحسن معاملته ونصحه وإرشاده.

(6)

أي إذا تحليت بها وحافظت على أدائها.

(7)

لا يهمك عرض الدنيا الذي فاتك:

(أ) أداء الأمانة.

(ب) قولك موافق للواقع وللحق وللعدل.

(جـ) الاستقامة والاتصاف بمكارم الأخلاق.

(د) الأكل من الطيبات والطعام الحلال مع العفة والقناعة والرغبة في الزهد واجتناب المحرمات. قال تعالى: "كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله"(من سورة البقرة).

(8)

اجتنب الذي يدخلك في شبهة، قال في النهاية يروى بفتح الياء وضمها. قال المناوي: وفتحها أكثر: =

ص: 589

8 -

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "قلنا: يا نبي الله من خيرُ الناس؟ قال: ذو القلب المخْمُومِ، واللسان الصادقِ. قال: يا نبيَّ الله: قد عرفنا اللسان الصادق فما القلبُ المخموم؟ قال: التقيُّ الذي لا إثم فيه (1)، ولا بغيَ، ولا حسد. قال: قلنا يا رسول الله، فمن على أثَرِهِ (2)؟ قال: الذي يَشْنَأُ الدنيا (3)، ويُحبُّ الآخرة. قلنا ما نعرفُ هذا فينا إلا رافعٌ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن على أثرهِ؟ قال: مؤمنٌ في خُلُقٍ حسنٍ (4). قلنا: أما هذه ففينا" رواه ابن ماجة بإسناد صحيح، وتقدم لفظه، والبيهقي، وهذا لفظه، وهو أتمّ.

9 -

وعن منصور بن المعتمرِ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحروا الصدق (5)، وإن رأيتمُ أن الهلكةَ فيه فإن فيه النجاة" رواه ابن الدنيا في كتاب الصمت هكذا معضلا، ورواته ثقات.

= أي دع ما تشك فيه إلى ما لا تشك فيه من الحلال البيِّن، لأن من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. أهـ. يأمرك صلى الله عليه وسلم أن تتجنب الشبهات وتترك مواطن الريبة وتتحرى الصالحات وتواظب على فعل الخيرات. قال الحفني: والمراد بالصدق في هذا الحديث الأمر الحق، وإن كان يستعمل أيضاً في الخبر المطابق للواقع كما أن الخبر غير المطابق كذب وباطل، أي فإن استعمالك الصدق: أي الأمر الذي لا شبهة فيه ينجي بخلاف ما فيه شبهة فقد يكون من أسباب الهلاك، فإن الصدق: أي الأمر المطابق للحق طمأنينة: أي ذو طمأنينة، أي تطمئن إليه نفوس أهل الأنوار، والكذب بعكس ذلك تطمئن إليه نفوس أهل الشر، وفي الجامع الصغير: أي اترك ما تشك في كونه حسناً أو قبيحاً أو حلالاً أو حراماً إلى ما لا تشك فيه، يعني ما تتيقن حسنه وحله (طمأنينة): أي يطمئن إليه القلب ويسكن (ريبة): أي يقلق له القلب ويضطرب. أهـ ص 265 جـ 2.

(1)

أي الخالي من الذنوب والظلم والحسد.

(2)

الذي يتبعه في درجته.

(3)

يكره ويبغض أي يكد فيها ويجد ويعمل ويتاجر ويربح أو يصنع أو يزرع مع تشييد الصالحات للآخرة، قال تعالى:"وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين"(77 من سورة القصص).

(4)

صفات حميدة جليلة مرضية.

(5)

اقصدوا، من تحريت في الأمر، طلبت أحرى الأمرين، وهو أولاهما، والصدق مهما صادف عقبات، وأشواك فعاقبته السلامة، ومآله النجاح، وآخر أمرك الفوز. قال الشاعر:

عليك بالصدق ولو أنه

أحرقك الصدق بنار الوعيد

عليك بالصدق في كل الأمور ولا

تكذب فأقبح ما يزري بك الكذب

قل للذين تخلفوا في سنة

نبوية لا تهملوا إهمالا

وأمامكم در الحديث موضح

سبل الحياة لمن يريد كمالا

ولنعم دار المتقين أحبتي

فيها نعيم العيش عز مثالا =

ص: 590

10 -

وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق (1)، فإن الصدق يهدي إلى البر (2)، والبر يهدي إلى الجنة، وما يزالُ الرجلُ يصدقُ (3)، ويتحرى الصدقَ حتى يُكتبَ عند الله صِدِّيقاً (4)، وإياكم والكذب (5)، فإن الكذب يهدي إلى الفجور (6)، والفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبدُ يكذبُ (7)، ويتحرى الكذب حتى يُكتبَ عند الله كَذَّاباً (8) " رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه، واللفظ له.

11 -

وعن أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصِّدْقِ، فإنه مع البر، وهما في الجنة، وإياكم والكذب، فإنه مع الفجورِ، وهما في النار" رواه ابن حبان في صحيحه.

= الصدق عز فلا تعدل عن الصدق

واحذر من الكذب المذموم في الخلق

ما أحسن الصدق في الدنيا لقائله

وأقبح الكذب عند الله والناس

(1)

الزموه.

(2)

يوصل إلى الخيرات.

(3)

في السر والعلانية.

(4)

بلغ في الصدق إلى غايته ونهايته حتى دخل في زمرة الصديقين الصالحين كثيري الصدق فاستحق ثوابهم ونال درجاتهم وحشر معهم.

(5)

اتركوه.

(6)

الفسوق والمعاصي.

(7)

يتكرر ذلك منه ويستمر على طغيانه وافترائه.

(8)

يحكم له بذلك ويظهره للمخلوقين من الملأ الأعلى ويلقي ذلك في قلوب أهل الأرض وألسنتهم فيستحق بذلك صفة الكذابين وعقابهم ويزدري ويحتقر ولا يوثق بأقواله وتضيع درجة احترام قوله وتبور تجارته وتكسد صنعته.

قلب نظرك في أسواق العالم تجد الرابحين الصادقين يتقدم ذكرهم وتحسن حالهم ويكثر مالهم ويتكاثر الوافدون عليهم. يود صلى الله عليه وسلم من المسلم أن يكون شريفاً شجاعاً طاهر الذمة حسن السمعة ناجحاً في أعماله موثوقاً به في قوله وفعله لينال ما يريد وليحظى بالخير ولينعم بالسعادة، قال الشاعر:

عود لسانك قول الصدق تحظ به

إن اللسان لما عودت معتاد

وأصدق الناس إذا حدثتهم

ودع الناس فمن شاء كذب

الله أكبر. إن الصادق يدر عليه الخير والبر والعز في الدنيا قبل الآخرة، ولقد جربت الحياة وسبرت غور التجار فعلمت أن الأغنياء منهم صادقو المعاملة، ولقد أعد لك في القاهرة طائفة قليلة تعد على الأصابع يشار إليهم بالبنان، ويقبل الناس عليهم زرافات ووحدانا من جراء صدقهم وتحديد ثمن بضاعتهم حتى لقد قال أحد العلماء إن وجود فلان هذا نعمة من نعم الله على عباده الشارين وحسبك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان تاجراً صادقاً ولقد يذوق الكاذبون الخسارة في تجارتهم والكساد والخيبة في حياتهم وبعد مماتهم فلا حول ولا قوة إلا بالله.

ص: 591

إذا صدق العبد بَرَّ

12 -

وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدقِ فإنه يهدي إلى البر، وهما في الجنة، وإياكم والكذب فإنه يهدي إلى الفجور، وهما في النار" رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن.

13 -

وعن عبد الله بن عمروٍ رضي الله عنهما: "أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما عملُ الجنة؟ قال: الصدقُ، إذا صَدَقَ العبدُ بَرَّ (1)، وإذا بَرَّ آمَنَ (2)، وإذا آمن دخل الجنة. قال يا رسول الله: وما عملُ النار؟ قال: الكذبُ، إذا كذبَ العبدُ فَجَرَ (3)، وإذا فَجَرَ كَفَرَ (4)، وإذا كَفَرَ، يعني دخل النار" رواه أحمد من رواية ابن لهيعة.

14 -

وعن مالكٍ أنه بلغهُ أن ابن مسعودٍ قال: "لا يزالُ العبدُ يكذبُ ويتحرى الكذبَ (5)، فَتَنْكُتَ (6) في قلبهِ نُكْتَةً حتى يَسْوَدَّ قلبهُ، فيكتبَ عند الله من الكاذبين (7) " ذكره مالك في الموطأ هكذا، وتقدم بنحوه متصلاً مرفوعاً.

15 -

وعن سَمُرَةَ بن جُندبٍ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ الليلةَ رجلين أتياني قالا لي: الذي رأيته يُشَقُّ شِدْقُهُ (8) فَكَذَّابٌ يكذبُ الكذبةَ فتُحْملُ عنه حتى تبلغَ الآفاقَ (9)، فيُصْنَعُ به هكذا إلى يوم القيامة" رواه البخاري هكذا مختصراً في الأدب من صحيحه، وتقدم بطوله في ترك الصلاة.

(1) أحسن، ومنه بر الوالدين: أي لم يسيء إليهم ولم يضيع حقهم، واسم الله تعالى البر: أي العطوف على عباده ببره ولطفه.

(2)

صدق بوجود الله تعالى وخشيه وعمل صالحاً له.

(3)

فسق، والفاجر المنبعث في المعاصي والمحارم.

(4)

زاد طغيانه وعم ضلاله وجحد نعمة ربه، والمعنى زيادة الضلال تجر إلى الكفر ونسيان حقوق الله تعالى والغفلة عن ذكره وتسبيحه.

(5)

يتتبع.

(6)

تؤثر أثراً قليلاً كالنقطة شبه الوسخ في المرآة والسيف ونحوهما.

(7)

يحشر معهم ويعذب عذابهم.

(8)

يقطع، والشق نصف الشيء وانفراج فيه، وانشق: انفرج فيه فرجة.

(9)

تعم السموات والأرضين، والمعنى أن الله تعالى ينتقم من الكاذب بتقطيع شفتيه وتمزيق أعضاء الكلام تعذيباً من جراء نطق الكذب، هكذا رآه صلى الله عليه وسلم حينما صعد إلى السموات مع سيدنا جبريل عليه السلام، قال تعالى:"لقد رأى من آيات ربه الكبرى"(18 من سورة النجم).

ص: 592

آية المنافق ثلاث

16 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافِق ثلاثٌ (1) إذاحَدَّثَ كذب، وإذا وعد أخلف (2)، وإذا عاهد غدر (3) " رواه البخاري ومسلم.

وزاد مسلم في رواية له: "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلمٌ (4) ".

17 -

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربعٌ من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خَصْلَةٌ منهن كانت فيه خصلة النفاق حتى يدعها: إذا ائتُمِنَ خان (5)،

وإذا حَدَّثَ كذب، وإذا عاهد غدر،

(1) علامة الذي يظهر خلاف ما يبطن أعدها ثلاثة.

(2)

لم يف بوعده.

(3)

أعطى عهداً ونفق نفاقاً فنكث ونقض عهده ولم يرع إلاًّ ولا ذمة، قال الشاعر:

ومن يوف لا يذمم ومن يهد قلبه

إلى مطمئن البر لا يتجمجم

يرشدك صلى الله عليه وسلم إلى علامات واضحة في قوم خبثت ضمائرهم وفسدت بواطنهم يظهرون لك المحبة والولاء والمودة والصفاء وقلوبهم تضطرم من الحقد والبغض لك ويبدو عليهم الصلاح والتقوى، ولكن باطنهم مملوء نفاقاً وخداعاً وكذباً وملقاً لتكون أيها المسلم العاقل الصالح الحازم على حذر فتتجنب هذه الصفات الذميمة:

(أ) الكذب.

(ب) الخيانة.

(جـ) الغدر.

وتتحلى بثلاثة:

(أ) الصدق.

(ب) الأمانة.

(جـ) الوفاء.

(4)

وإن رأيته مؤدياً حقوق الله تعالى، ولكن في قصر إيمانه ثغرة شوهته وشقوق صدعته ولم ينفع طلاؤه الحسن بإزالة علامات عدم الإيمان الكامل. لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من الكذب، لأنه يجر إلى كذبات وأضرار جمة ويضيع الثقة بالكذب، ويجلب عليه الحزن الدائم والخوف من فضيحته فيصيبه الخزي والعار، ويكرهه الله ورسوله، وحذر صلى الله عليه وسلم من الخيانة لأنها نقيصة ورذيلة، والخائن مبغض مذموم مستحق سخط الله، ومقت الناس، وعقوبة القانون، وهو متهجم على أوامر الله تعالى مخالف شرعه قال تعالى:"إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"(من سورة النساء).

ومن وصية عبد الله بن شداد لابنه: وعليك بصحبة الأخيار، وصدق الحديث، وإياك وصحبة الأشرار فإنه عار، وكن كما قال الشاعر:

اصحب الأخيار وارغب فيهمو

رب من صاحبته مثل الجرب

ودع الناس فلا تشتمهم

وإذا شاتمت فاشتم ذا حسب

إن من شاتم وغدا كالذي

يشتري الصفر بأعيان الذهب

واصدق الناس إذا حدثتهم

ودع الناس فمن شاء كذب

(5)

أودع عنده شيء من سر أو مال أظهر السر وأذاعه، أو تصرف في الشيء وأتلفه، ولا يؤدي ما عليه من حقوق الله جل جلاله كالصلاة، والزكاة، والحج، والصوم. قال تعالى: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل =

ص: 593

وإذا خاصم فَجَرَ (1) " رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.

18 -

وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ثلاثٌ من كُنَّ فيه فهو مُنافقٌ، وإن صام وصلى وحجَّ واعتمرَ، وقال: إني مُسلمٌ: إذا حَدَّثَ كذبَ، وإذا وعد أخلفَ، وإذا ائتُمِنَ خان" رواه أبو يعلى من رواية الرقاشي، وقد وثق، ولا بأس به في المتابعات.

19 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن العبدُ الإيمان كلهُ حتى يترك الكذب في المزاحةِ (2) والمراء (3) وإن كان صادقاً" رواه أحمد والطبراني.

20 -

ورواه أبو يعلى من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولفظه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغُ العبدُ صريحَ الإيمانِ (4) حتى يَدَعَ (5)

المزاحَ والكذبَ، ويَدَعَ المراء، وإن كان مُحقاً" وفي أسانيدهم من لا يحضرني حاله، ولمتنه شواهد كثيرة.

21 -

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

= المبطلون" (172 - 173 من سورة الأعراف). فهذه التكاليف والأوامر والنواهي أمانة معنوية يقوم بها المؤمن النقي التقي الوفي.

(1)

اشتد غضبه وفسق وأعلن الحرب وانتقم، وفي النهاية وحديث عمر. استحمله أعرابي؛ وقال إن ناقتي قد نقبت، فقال له كذبت، ولم يحمله فقال:

أقسم بالله أبو حفص عمر

ما مسها من نقب ولا دبر

فاغفر له اللهم إن كان فجر

أي كذب، ومال عن الصدق؛ والفجور الميل عن الصدق وأعمال الخير. أهـ. والفجور في المخاصمة عدم الوقوف فيها عند حدود الحق كأن ينكر حق صاحبه، أو يستحل ماله وعرضه أو يسترسل في النزاع والعداء ويكيد لخصمه بما استطاع فيحط منه؛ ويثلم عرضه، ويفتري عليه؛ ويخلق التهم له جزافاً، ويسعى به لدى الحكام والولاة؛ ويدبر المكايد، وينصب العقبات في سبيله.

(2)

الضحك والهزل؛ وفي المصباح مزح مزاحة بالفتح، والاسم المزاح؛ والمزحة المرة؛ ومازحته ممازحة ومزاحاً، من زحت الشيء عن موضعه، وأزحته عنه. إذا نحيته لأنه تنحيةس عن الجد وفيه ضعف.

(3)

الجدال والمخاصمة، والمعنى المؤمن يتحرى الصدق في جده وهزله.

(4)

خالصه وكماله.

(5)

يترك السخرية من الناس وقول الباطل ويترك الجدل والرياء، وإن كان صاحب حق لا يكثر الجدل بل ينصح ويصمت:

(أ)"وكان الإنسان أكثر شيء جدلا".

(ب)"ادفع بالتي هي أحسن".

ص: 594

"يُطبعُ (1) المؤمن على الخِلَالِ كلها إلا الخيانة والكذب" رواه أحمد قال: حدثنا وكيع سمعت الأعمش قال: حُدثت عن أبي أمامة.

22 -

وعن سعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُطبعُ المؤمن على كل خَلَّةٍ غيرَ الخيانةِ والكذب" رواه البزار وأبو يعلى، ورواته رواة الصحيح، وذكره الدارقطني في العلل مرفوعاً وموقوفاً، وقال: الموقوف أشبه بالصواب، ورواه الطبراني في الكبير والبيهقي من حديث أبي عمر مرفوعاً.

23 -

وعن أبي بكرٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكذبُ مُجَانِبُ الإيمانِ" رواه البيهقي، وقال: الصحيح أنه موقوف.

24 -

وعن صفوان بن سُليمٍ قال: "قيل يا رسول الله أيكونُ المؤمنُ جباناً (2)؟ قال: نعم. قيل له: أيكونُ المؤمنُ بخيلاً (3)؟ قال: نعم. قيل له: أيكونُ المؤمنُ كذَّاباً؟ قال: لا" رواه مالك هكذا مرسلاً.

25 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجتمعُ الكفرُ والإيمانُ في قلب امرئٍ، ولا يجتمعُ الصدقُ والكذبُ جميعاً، ولا تجتمعُ الخيانةُ والأمانةُ جميعاً (4) " رواه أحمد من رواية ابن لهيعة.

26 -

وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَبُرَتْ خيانةً (5) أن تُحَدَّثَ أخاك حديثاً هو لك مُصَدِّقٌ، وأنت له كاذبٌ" رواه أحمد عن شيخه عمر بن هارون، وفيه خلاف، وبقية رواته ثقات.

(1) يعود على الخصال جميعها، وتكون كسجية، وتنقش صورها عنده إلا خصلتين هو براء منهما فلا تجده كاذباً خائناً.

(2)

خائفاً غير شجاع.

(3)

شحيحاً مقتراً غير جواد، ثم نفى صلى الله عليه وسلم الكذب عن المؤمن لرداءة عاقبته، ووخامة صفته.

(4)

والمعنى إذا تجلت صفة في قلب إنسان امتنعت الثانية، فالإيمان يطرد الكفر، والصدق يبعد الكذب، والأمانة لا تقبل الخيانة معها، فمن تحلى بواحدة منهما بعدت عنه الثانية، فعلامة المؤمن الكامل وجود الثلاثة في قلبه:

(أ) إيمان.

(ب) صدق.

(جـ) أمانة.

(5)

عظم عقابها عند انتهاز فرصة التصديق، الاسترسال في تغيير الوقائع، وقلب الحقائق.

ص: 595

27 -

وعن سفيان بن أسيدٍ الحضرميِّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كَبُرَتْ خِيانةً أن تُحَدِّثَ أخاك حديثاً هو لك مصدقٌ، وأنت له به كاذبٌ" رواه أبو داود من رواية بقية بن الوليد، وذكر أبو القاسم البغويّ في معجمه سفيان هذا، وقال: لا أعلم روى غير هذا الحديث.

28 -

وعن أبي بُريدةَ الأسلمي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا إن الكذب يُسَوِّدُ الوجه (1)، والنميمة عَذابُ القبرِ (2) " رواه أبو يعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه والبيهقي كلهم من رواية زياد بن المنذر عن نافع بن الحارث، وتقدم الكلام عليها في النميمة.

29 -

وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بر الوالدين (3) يزيدُ العمر (4)،

والكذب يَنْقُصُ الرزقَ (5)، والدعاء يَرُدُّ القضاء (6) " رواه الأصبهاني.

(1) يجعله أسود مثل ظلام الليل الحالك يوم القيامة.

(2)

السعي بالإفساد بين الناس، وللمأمون، في ذم النميمة، وبيان أضرارها في الدنيا قبل الآخرة: النميمة لا تقرب مودة إلا أفسدتها، ولا عداوة إلا جددتها، ولا جماعة إلا بددتها، ثم لابد لمن عرف بها، ونسب إليها أن يجتنب ويخاف من معرفته (بددتها): فرقتها.

ولمحمود سامي البارودي:

واخش النميمة واعلم أن قائلها

يصليك من حرها ناراً بلا شعل

كم فرية صدعت أركان مملكة

ومزقت شمل ود غير منفصل

(3)

إكرامهما وطاعتهما، والإحسان إليهما.

(4)

يضع البركة فيه بإزالة الأمراض بإذن الله تعالى وحبه، والأمانة على وجود الأعمال الصالحة فيه بتوفيق الله تعالى، ومساعدته، ومنح الصحة التامة، والنعمة العامة للبار.

(5)

ينزع منه البركة، ويجلب الضيق والعسر، ويزيل الثقة من الكاذب فتكسد بضاعته، وتخسر تجارته، فالموظف، أو الصانع، أو التاجر، أو الزارع يضرهم الكذب ويؤخرهم، ويفسد حالهم ويجعلهم عرضة للخطر.

(6)

أي التضرع إلى الله جل وعلا يخفف في قدره ويلطف، وينتقل النازل من صعب شديد إلى خفيف سهل وفي كتابي (النهج السعيد) الله تعالى ينزل لطفه بالداعي كما إذا قضى عليه قضاء مبرماً بأن ينزل عليه صخرة، فإذا دعا الله حصل له اللطف بأن تصير مفتتة كالرمل وتنزل عليه. اللهم الطف بنا في قضائك وقدرك لطفاً يليق بكرمك. ومعنى الدعاء الطلب على سبيل التذلل والخشوع، وقيل رفع الحاجات إلى رافع الدرجات، ينفع الأحياء والأموات إن دعوت لهم، ويضرهم إن دعوت عليهم، وإن صدر من كافر على الراجح، لحديث "دعوة المظلوم مستجابة ولو كافراً" أهـ ص 108. =

ص: 596

إذا كذب العبد تباعد الملك عنه ميلاً من نتن ما جاء به

30 -

وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كذب العبدُ تباعد الملك عنه ميلاً من نتن ما جاء به" رواه الترمذي وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت، وقال الترمذي: حديث حسن.

31 -

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما كان من خُلُقٍ أبغضَ (1) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب ما اطلع على أحدٍ من ذاك بشيء، فيخرج من قلبه حتى يعلم أنه قد أحدث توبةً (2) " رواه أحمد والبزار واللفظ له، وابن حبان في صحيحه، ولفظه قالت:"ما كان من خُلُقٍ أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذبِ، ولقد كان الرجلَ يكذبُ عندهُ الكذبةَ، فما يزالُ في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث فيها توبةً"، ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، ولفظه قالت:"ما كان شيء أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، وما جَرَّبَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحدٍ وإن قَلَّ، فيخرج له من نفسه حتى يُجَدَّدَ له توبةً".

32 -

وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: "فقلت يا رسول الله إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهيه يُعَدُّ ذلك كذباً؟ قال: إن الكذب يُكتبُ كذباً حتى تُكتب الكُذَيْبَةُ كُذَيْبَةً" رواه أحمد في حديث، وابن أبي الدنيا في الصمت والبيهقي كلهم من رواية يونس بن يزيد الأيلي عن أبي شداد عن شهر بن حوشب عنها، وعن أبي شداد أيضاً عن مجاهد عنها، وقد زعم بعض مشايخنا أنا أبا شداد مجهول لم يرو عنه غير ابن جريح فقد روى عنه يونس أيضاً كما ذكرنا وغيره، وليس بمجهول، والله أعلم.

33 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

= يبين صلى الله عليه وسلم أسباب السعادة، ورغد العيش واكتساب السلامة الشاملة:

(أ) طاعة الوالدين.

(ب) الصدق.

(جـ) الدعاء.

(1)

صفة أشد كراهة.

(2)

يجتهد صلى الله عليه وسلم في التنفير من الكذب وكأنه جدد توبة للكاذب وإنابة لله، والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم إذا سمع كاذباً توبه ونفره من الكذب كأن الكاذب أجرم فرجع إلى ربه واستغفر.

ص: 597

من قال لصبيٍ تعالَ هَاكَ (1)، ثم لم يُعْطِهِ، فهيَ كذبةٌ (2) " رواه أحمد وابن أبي الدنيا كلاهما عن الزهري عن أبي هريرة، ولم يسمع منه.

34 -

وعن عبد الله بن عامرٍ رضي الله عنه قال: "دعتني أمي يوماً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدٌ في بيتنا، فقالت: هَا تعال أُعْطِكَ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أردتِ أن تُعطيهِ (3)؟

قالت: أردتُ أن أعطيهَ تمراً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو لم تُعْطِهِ شيئاً كُتبتْ عليكِ كذبةٌ" رواه أبو داود والبيهقي عن مولى عبد الله ابن عامر، ولم يسمياه عنه، ورواه ابن أبي الدنيا فسماه زياداً.

35 -

وعن بَهْزِ بن حكيمٍ عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ويلٌ (4) للذي يُحَدِّثُ بالحديث لِيُضْحِكَ به القوم فيكذب، ويلٌ له، ويلٌ له" رواه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والبيهقي.

36 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1) أي أقبل خذ.

(2)

فعل معه كذبة واحدة، والمعنى يصدق الإنسان في كل أقواله وأفعاله حتى لو مازح، أو داعب، أو نادى طفلاً، ثم لم يؤدّ ما قال فيحسب عليه أنه كذب: أي خالف الواقع ففيه التحذر واليقظة، وتحري الصدق في كل شيء.

(3)

استفهام منه صلى الله عليه وسلم ليستبين قولها، وليعطيها درساً في الصدق: أي هل أردت عطاءه؟ وهنا تدفقت الحكمة وصادفت أهلها ووقعت في النفس موقع الماء العذب للظمآن. أفهمها صلى الله عليه وسلم أن نادته لتقدم له شيئاً ولم تنفذه، كتبت كذبة واحدة في صحيفتها كما قال تعالى:"ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد"(18 من سورة ق). إن هذا أمر يسير سهل نغفل عنه ونتهاون في إرسال القول، ولكن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرنا بتقييد ذلك بأنه عدم وفاء، وكذب صراح:

لا يكذب المرء إلا من مهانته

أو فعله السوء أو من قلة الأدب

لبعض جيفة كلب خير رائحة

من كذبة المرء في جد وفي لعب

إياك من كذب الكذوب وإفكه

فلربما مزج اليقين بشكه

ولربما كذب امرؤ بكلامه

وبصمته وبكائه وبضحكه

إذا عرف الإنسان بالكذب لم يزل

لدى الناس كذابا ولو كان صادقا

فإن قال لم تصغ له جلساؤه

ولم يسمعوا منه ولو كان ناطقا

(4)

واد في جهنم يعذب فيه الكذاب الماجن المتهاون في كلامه، ثم كرر صلى الله عليه وسلم الثبور والهلاك له.

ص: 598

"ثلاثةٌ لا يُكلمهم الله (1) يوم القيامة، ولا يُزَكِّيهِمْ (2)، ولا ينظرُ إليهم (3)، ولهم عذابٌ أليمٌ: شيخٌ زانٍ (4)، ومَلِكٌ كذابٌ (5) وعائلٌ مُستكبرٌ" رواه مسلم وغيره.

(1) لا يحدثهم حديث رحمة ونعمة.

(2)

ولا يطهرهم من أدران ذنوبهم، ولا يسامحهم.

(3)

ولا يتجلى عليهم برضوانه ليفوزوا بإحسانه.

(4)

كبير السن الفاحش مرتكب الموبقة.

(5)

حاكم وال نافذ الأمر مطاع: إن هؤلاء الثلاثة يضاعف الله عليهم العقاب، ويشتد عليهم سخطه جل جلاله. لماذا؟ لأن داعية الكذب مفقودة في الأمير السلطان؛ وشهية الجماع في الهرم زالت ففحشه شدة إجرام، وكذا الفقير يأنف العمل ويحب البطالة والكسل.

ثمرات الصدق وأضرار الكذب كما بَيَّنَها صلى الله عليه وسلم:

أولاً: الصدق ينجي، ويدعو إلى حسن الخاتمة، ويدل على القبول؛ ويزيد المسلم نوراً وثباتاً على الحق كسيدنا كعب رضي الله عنه.

ثانياً: يدخل صاحبه الجنة.

ثالثاً: يجلب محبة الله ورسوله.

رابعاً: يدل على سجية كاملة، وفطرة سليمة، وخليقة مستقيمة:(أربع من كن فيه).

خامساً: يعد الصادق من الأخيار الأبرار (القلب المخموم).

سادساً: يهدي إلى البر. قال في الفتح: من الهداية؛ وهي الدلالة الموصلة إلى المطلوب؛ والبر: التوسع في فعل الخير، ويطلق على العمل الخالص الدائم؛ قال ابن بطال: مصداقه في كتاب الله تعالى: "إن الأبرار لفي نعيم"(13 من سورة الانفطار) أهـ ص 389 جـ 10

سابعاً: يميل الكاذب إلى الفساد وحب الإجرام والانبعاث في المعاصي.

ثامناً: يستحق الصادق كل ثناء وإطراء.

تاسعاً: يعلم المخلوقون من الملائكة أنه صادق، ويلقى ذلك في قلوب أهل الأرض (صديق).

عاشراً: يدخل الكاذب النار وكلما زاد كذبه ترك نقطاً سوداء على قلبه تضله وتغويه وتنسيه حقوق الله (يسود قلبه).

الحادي عشر: يسلط على الكاذب زبانية جهنم فترميه في فمه بالحديد والمدي (يشق شدقه).

الثاني عشر: تظهر علامات النفاق والخداع في وجه الكاذب (آية).

الثالث عشر: إيمان الكاذب ناقص وضعيف، وإن أكثر من العبادة ونفسه لم تتهذب (لا يبلغ).

الرابع عشر: يختم الكذب على وجهه فيراه أهل الأنوار (يطبع المؤمن) الكاذب كثير الخيانة فاقد الأمانة لص، الحديث (كبرت خيانة).

الخامس عشر: يحشر الكاذب ووجهه مظلم وحالته سيئة وصورته بشعة قذرة موحشة مقفرة (يسود).

السادس عشر: رزق الكاذب ضيق وعيشه نكد وأهله في فقر وأولاده في شقاء (ينقص الرزق).

السابع عشر: يحيا الكاذب وجسمه جيفة قذرة وينشر برائحته الكريهة (من نتن).

الثامن عشر: استمرار الكاذب على كذبه يساعده على اقتراف الذنوب ولا يتوب إلى الله تعالى إلا إذا صدق (أحدث توبة). =

ص: 599

37 -

وعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

= التاسع عشر: إظهار القول على خلاف ما تتمنى كذيبة، وكذا مناداة إنسان لتعطيه ولم تعطه كذبة ولو طفلاً (تعال هاك).

العشرون: جهة محددة للماجنين الكذابين الضحكة (ويلٌ له).

الحادي والعشرون: يغضب الله على الكاذب ويحرمه من رؤية جلاله واستطلاع عظمته، ونيل رحماته والتمتع بظلاله (ثلاثة لا يكلمهم الله).

الآيات الدالة على فضيلة الصدق ورذيلة الكذب:

(أ) قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين"(119 من سورة التوبة).

(ب) وقال تعالى: "رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدقٍ واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً"(80 من سورة الإسراء).

(جـ) وقال تعالى: "واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً"(41 من سورة مريم).

(د) وقال تعالى: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفوراً رحيماً"(23 - 24 من سورة الأحزاب). من الثبات مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمقاتلة لإعلاء دين الله فإن المعاهد إذا وفى بعهده فقد صدق فيه (نحبه) نذره بأن قاتل حتى استشهد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر، وما غيروا العهد.

(هـ) وقال تعالى: "ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين"(60 من سورة الزمر). أي وصفوه بما لا يجوز كاتخاذ الولد (مسودة) مظلمة بما ينالهم من الشدة أو بما يتخيل عليها من ظلمة الجهل (مثوى): مقام، وفيها تهاون الكاذب على الله بمخالفة أمره.

(و) وقال تعالى: "وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبه، وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب"(28 من سورة غافر). من أقارب فرعون: أي لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله إلى البينات، ولما عضده بتلك المعجزات، وعرض بفرعون أنه على ضلال لم يهده الله إلى سبيل الصواب.

(ز) وقال تعالى: "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً"(54 من سورة مريم).

(ح) وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولاً قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً"(70 - 71 من سورة الأحزاب).

(ط) وقال تعالى في بيان طلبات سيدنا إبراهيم عليه السلام: "رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم"(83 - 85 من سورة الشعراء). (حكماً): كمالاً في العلم والعمل أستعد به لخلافة الحق ورياسة الخلق، ووفقني للكمال في العمل لأنتظم به في عداد الكاملين في الصلاح الذي لا يشوب صلاحهم كبير ذنب ولا صغيره (لسان صدق): قولاً فصيحاً بليغاً مسدداً وجاهاً وحسن صيت في الدنيا يبقى أثره إلى يوم الدين، ولذلك ما من أمة إلا وهم محبون له مثنون عليه، أو صادقاً من ذريتي يجدد أصل ديني ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. =

ص: 600

"ثلاثةٌ لا يدخلون الجنة: الشيخُ الزاني، والإمامُ الكذَّابُ، والعائلُ المزهو" رواه البزار بإسناد جيد.

= (ي) وقال تعالى: "إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر"(54 - 55 من سورة القمر). (مقعد صدق): مكان مرضي خاص بالمتقين المقربين عنده تعالى، وقد رأيت في الحديث (لا يجتمع إيمان وكذب في قلب).

(ك) وقال تعالى: "واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً ورفعناه مكاناً علياً"(56 - 57 من سورة مريم).

وقال الثوري في قوله تعالى: "ويوم القيامة ترى الذين كذبوا" هم الذين ادعوا محبة الله تعالى ولم يكونوا بها صادقين. وقال الجنيد في قوله تعالى: "ليسأل الصادقين عن صدقهم" قال يسأل الصادقين عند أنفسهم عن صدقهم عند ربهم، وهذا أمر على خطر، وأجمع الفقهاء والعلماء على ثلاث فيها النجاة: الإسلام الخالص عن البدعة والهوى والصدق لله تعالى في الأعمال، وطيب المطعم، وقال محمد بن سعيد المروزي: إذا طلبت الله بالصدق آتاك الله مرآة بيدك حتى تبصر كل شيء من عجائب الدنيا والآخرة.

بيان حقيقة الصدق ومعناه ومراتبه كما قال الغزالي:

اعلم أن لفظ الصدق يستعمل في ستة معان: صدق في القول، وصدق في النية والإرادة وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، وصدق في العمل، وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها، فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صديق.

(1)

صدق اللسان يكون في الأخبار، وفيه يدخل الوفاء بالوعد والخلف فيه، وقيل في المعاريض مندوحة عن الكذب ورخص في تأديب الصبيان والنساء، وفي الحذر عن الظلمة، وفي قتال الأعداء والاحتراز عن اطلاعهم على أسرار الملك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توجه إلى سفر ورى بغيره، وذلك كي لا ينتهي الخبر إلى الأعداء، قال صلى الله عليه وسلم (ليس الكذب من أصلح بين اثنين فقال خيراً أو أنمى خيراً) وكذا، ومن كان له زوجتان، ومن كان في مصالح الحرب.

(2)

في النية والإرادة ويرجع ذلك إلى الإخلاص.

(3)

صدق العزم على العمل لله تعالى.

(4)

في الوفاء بالعزم بتذليل العقبات.

(5)

في الأعمال حتى لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف به.

(6)

الصدق في مقامات الدين كالخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب:

أ - قال تعالى: "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون"(15 من سورة الحجرات).

ب - وقال تعالى: "ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون"(177 من سورة البقرة).

وسئل أبو ذر عن الإيمان فقرأ هذه الآية فقيل له سألناك عن الإيمان، فقال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم =

ص: 601