الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القلبِ وهلاكُهُ.
فلو علمَ الناسُ ما في قراءةِ القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كلِّ ما سواها، فإذا قرأهُ بتفكرِ حتى مرَّ بآيةِ بتفكرٍ وتفهمٍ خيرٌ من قراءةِ ختمةٍ بغير تدبرٍ وتفهمٍ، وأنفعُ للقلبِ، وأدعى إلى حصول الإيمانِ وذوق حلاوة القرآن.
وهذه كانت عادة السلف يُرَدِّدُ أحدهم الآيةَ إلى الصباح .. فقراءة القرآن بالتفكر هي أصلُ صلاح القلب" (1).
*
معنى التَّدَبرُ:
التدبر لغةً: مصدر مشتق من مادة دبر، ودبر الشيء خلاف قُبُله، والاستدبار: طلب دبر الشيء. والتدبر لغةَ: النظر في عاقبة الأمر، والتفكر فيه.
وأما في الاصطلاح: هو النُّظرُ في دبر الأُمُورِ؛ أي عواقبها، وهُوَ قريبٌ من التَّفَكُّرِ، إلا أنَّ التَّفكرُ تصرف القلبِ بالنظر في الدليل، والتَّدبرُ تصرفُهُ بالنظر في العواقبِ (2).
تَدبرُ القرآنِ: أمَّا تدبرُ القُرآنِ فهو تحديقُ ناظرِ القلبِ إلى معانيهِ، وجمعُ الفكرِ على تَدَبرِهِ وتعقُّله. وهو المقصودُ بإنزالهِ، لا مُجردُ تلاوتهِ بلا فهمِ ولا تَدَبرِ (3).
(1)"مفتاح دار السعادة"(1/ 553).
(2)
"التعريفات"(76)، و"التوقيف على مهمات التعاريف"(167).
(3)
"مدارج السالكين"(1/ 449).
والتدبر والخشوع والتفكر والتعقل لمعانيه، كلمةً كلمةً وحرفاً حرفاً، ثم العمل بمقتضى القرآن، فذلك هو المقصود الأعظم، والمطلوب الأهم، وبه تنشرحُ الصدور، وتستنيرُ القلوب، وتخشع وتتعظ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه، والعمل به"(1).
ومن بلاغات الإمام مالك أَنَّهُ بَلَغَهُ أن عبد اللهِ بنَ عُمَرَ، مَكثَ على سُورةِ البَقرةِ، ثمانِيَ سِنينَ يَتَعَلمُها (2).
وعن يحيى بن سعيدٍ أَنَّهُ قال: كنتُ أَنَا ومحمدُ بنُ يحيى بن حَبانَ، جالسينِ، فدعا مُحَمد رجلًا، فقال: أَخبِرنِي بِالذِي سمعتَ من أَبِيكَ. فقال الرجُلُ: أَخبرني أَبي أَنَّهُ أَتَى زَيدَ بنَ ثابتٍ، فقال لَهُ: كَيفَ تَرَى فِي قِرَاءَةِ القُرآنِ فِي سَبعِ؟ فقال زيد: حَسَن. وَلأن أَقرَأَهُ فِي نِصفٍ، أَو عَشرِ، أَحَب إِليَّ. وسلني، لِمَ ذَاكَ؟ قال: فَإِني أَسألُكَ. قال زَيد: لِكَي أَتَدَبرهَ وَأَقِفَ عَلَيهِ (3).
قلت: والعاقل من يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يلفظ، فيعرف كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، والوعد والوعيد، ويتعرف على صفات الله سبحانه وأسماءه، وأفعاله، وما يحب وما يبغض، والطرق الموصلة إليه، وكل أمر يقطع عليه الطريق إلى الله سبحانه، وعواقب الأمور، فإن كان مما
(1)"مجموع الفتاوى"(23/ 55).
(2)
"موطأ مالك" كتاب القرآن، باب: ما جاء في القرآن (1/ 205).
(3)
"موطأ مالك" كتاب القرآن، باب: ما جاء في تحزيب القرآن (1/ 201).
قَصَّرَ عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مر بآيةِ رحمةِ استبشر وسأل، أو عذاب أشفق وتعوذَ، أو تنزيه عظم، أو دعاء تضَرَّع وطلب.
أخرج مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة فقرأها، ثم آل عِمرانَ فقرأها، ثم النساء فقرأها، يقرأ مُتَرَسَّلًا، إذا مر بآيةٍ تسبيحٍ سَبَّحَ، وإذا مر بسؤالِ سأل، وإذا مرَّ بتعوذٍ تعوذ.
وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بآية يرددها حتى أصبح.
عن أَبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: قَامَ النبِي صلى الله عليه وسلم بِآيَةِ حَتى أَصبَحَ يُرَدِّدُهَا وَالآيَةُ {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118](1).
عن عبد الوهاب بن عباد بن حمزة عن أبيه عن جده قال: بعثتني أسماء إلى السوق وافتتحت سورة الطور فانتهت إلى قوله {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]، فذهبت إلى السوق ورجعت وهى تكرر {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} .
وعدد الإمام المروَزي المتوفى سنة 294 هـ في كتابة (قيام الليل وقيام رمضان)(64) روايات كثيرة عن السلف في ترديد الآيات بعد مرة يتدبرون فيها مما يدل على وقوعها في قلوبهم.
قال ابن القيم-رحمه الله: وهذه كانت عادةَ السَّلف يُرَدّدُ أحدهم الآيةَ إلى الصباح (2).
(1) حسن. أخرجه ابن ماجه (1350) في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، والنسائي (1010).
(2)
"مفتاح دار السعادة"(1/ 553).