الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والعدل، فحملهم على النطق بعودتهم لهم.
ويؤيد هذا قصة ثُماَمَة بن أثال الحنفي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثَ النبي صلى الله عليه وسلم خَيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت برجُلٍ من بني حنيفةَ، يقالُ له ثُمَامَةُ بن أُثَالٍ، [سيدُ أهلِ اليمامةِ]، فربطوهُ بسارية من سواري المسجد، فخرجَ إليهِ النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ماذا عِندَك يا ثمامة؟ " فقال: عندي خُير يا محمدُ، إِن تقتلني تقتل ذا دَم، وإن تُنعم تُنعِم على شاكر؟ وإن كُنتَ تريدُ المال فَسَل منهُ ما شِئتَ، فتركهُ حتى كان الغدُ، ثم قال له:"ما عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي ما قلت لك، فقال:"أَطلِقُوا ثُمامة".
فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسلَ ثُمّ دخل المسجد، فقال:"أشهدُ أَن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله"(1).
قلت: ما الذي حمل ثُمامة على الإسلام وقد وقع في الأسر؟ لماذا لم يذهب إلى أهلهِ بعد أن أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم من الأسر؟ لماذا لم يقل: إنَّ المسلمين أسروني وقيدوني في المسجد، وأنا سيد قومي، ولي مكانة رفيعة، وشأن عظيم؟! ولكن ثُمامة أبصر الدعوة العملية، فالدعوة إلى الله عملية وقولية، وقد سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم في المسجد عن الإسلام، وشاهد تعامل الصحابة وتطبيقهم العملي لهذا الدين وحسن أخلاقهم، وهنا أدرك حقيقة الإسلام، فأسلم سريعا، ورب عملٍ واحد أبلغ من ألف قول.
الثمرة الثالثة:
تقوية إرادة الإنسان، وتمرين النفس على فعل الخير وترك الشر، حتى
(1) أخرجه البخاري (5/ 75، 8/ 87 - فتح)، ومسلم (1764) في كتاب الجهاد.
تصبح سجية في النفس نحو الفضيلة حتى تتحقق السعادة، ولكن كم من الناس عن سعادتهم غافلون! وقد يحرمون نفوسهم من خير كثير بسبب قلة أدبهم.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "وانظر قلة أدب عوف مع خالد: كيف حرمه السَّلَب بعد أن بَرَد بيديه؟ "(1).
أي عندما غضب عوف ولم يملك نفسه، حرم الخير.
عن عوف بن مالك، قال: قَتَلَ رَجُلٌ مِن حِميَرَ رَجُلًا مِنَ العَدوِّ، فأَرَادَ سَلَبَهُ، فَمَنَعَهُ خَالِدُ بنُ الوليدِ، وَكَانَ وَالِيًا عَلَيهِم، فَأتَى رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَوفُ بنُ مَالِكٍ، فَأخبَرَهُ، فقال لِخَالِدٍ:"مَا مَنَعَكَ أَن تُعطِيَهُ سَلَبَهُ؟ " قال: استَكثَرتُهُ، يَا رَسُولَ اللهِ! قال:"ادفَعهُ إلَيهِ"، فَمَرَّ خَالِدٌ بِعَوفٍ فَجَرَّ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قال: هَلْ أَنجَزتُ لَكَ مَا ذَكَرتُ لَكَ مِن رَسُولِ اللهِ؟ فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاستُغضِبَ. فقال: "لَا تُعطِهِ يَا خَالِدُ، لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ، هَلْ أَنتُم تَارِكُونَ لِي أُمَرَائِي؟ إنَّمَا مَثَلُكُم وَمَثَلُهُم كَمَثَلِ رَجُلٍ استُرعىَ إِبِلًا أَو غَنَمًا فَرَعَاهَا، ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَهَا، فَأوَردَهَا حَوْضًا، فشَرَعَت فِيهِ فشَرِبَت صَفوَهُ وَتَرَكَتْ كَدرَهُ، فَصَفوُهُ لَكُم وَكَدرُهُ عَلَيهِم"(2).
ما أجمل الأدب بالأفعال! وهكذا يصنع العقلاء، فقد خاصم رجل الأحنف فقال الرجل: لئن قلتَ واحدة لتسمعنَّ عشرًا، فقال الأحنف: لكنَّك إن قلتَ عشرًا، لم تسمع واحدة (3).
(1)"مدارج السالكين"(2/ 369).
(2)
أخرجه مسلم (1753) في كتاب الجهاد، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل.
(3)
"سير أعلام النبلاء"(4/ 93).
فالواجب على العاقل أن يحرص على تقوية أرادته، ويؤدب نفسه على الأخلاق الحسنة، ويحملها على العدل، ولا يكن أول الظالمين لها.
فالظالم لنفسه هو المقصر في عمله تجاه ربه الذي أحسن إليه، أو نبيه، أو أحدًا ممن يجب عليه بره، والمقتصد هو العامل في أغلب الأوقات، وأما السابق بالخيرات فهو العامل والمعلم لغيره والمجاهد لدينه.
فالواجب أن يكون لنفسه من أعدل الناس، فمن عدل مع نفسه، فهو العاقل السابق بالخيرات، ومن دساها فهو الظالم لنفسه.
قال الماوردي: "فأَمَّا عدلُهُ في نفسهِ فيكُونُ بحملها على المصالح، وكفَّها عن القبائحِ، ثُمَّ بالوُقُوفِ فِي أَحوالها على أَعدل الأمرين من تجاوُزِ أَو تقصيرِ. فإِنَّ التجاوُزَ فيها جورٌ، والتقصيرَ فيها ظُلمٌ، ومن ظلم نفسهُ فهو لغيره أَظلمُ، ومن جار عليها فهو على غيرهِ أَجوَرُ"(1).
ولهذا قال بعض الحُكماء: لا ينبغي للعاقلِ أَن يطْلُبَ طاعة غيره، ونفسهُ مُمتنعةً عليه.
…
(1)"أدب الدنيا والدين"(226).