الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن جَماعة الكناني: "أن يتخلق بالزهدِ في الدنيا والتقلُّل منها بقَدرِ الإمكان الذي لا يضرُّ بنفسه أو بعياله؛ فإن ما يحتاج إليه لذلك على الوجه المعتدل من القناعةِ ليس يعد من الدنيا، وأقل درجاتِ العالم أن يستقذرَ التعلقَ بالدنيا؛ لأنهُ أعلمُ الناس بخستها وفتنتها وسرعة زوالها وكثرة تعبها ونصبها؛ فهو أحسن بعدم الالتفات إليها والاشتغال بهمومها"(1).
والخلاصة أن الزهد لا يعني رفض الدنيا والتجافي عنها بالكلية من طيب الطعام، أو الزواج، أو المال، "وليس المراد رفضها من الملك فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء مالهما، وكان نبينا من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة، وكان علي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وعثمان رضي الله عنهم من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال .. ، ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن، أو غيره: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة -إذا أصبت بها- أرغب منك فيها لو لم تصبك فهذا من أجمع كلام في الزهد وأحسنه"(2).
8 -
الإخلاص في التعليم والنصح:
الإخلاص لغة: تنقية الشيء وتهذيبة (3).
(1)"تذكرة السامع والمتكلم"(35).
(2)
"مدارج السالكين"(2/ 15).
(3)
تقدم تعريفه والمصدر.
أما في الاصطلاح: "التبري عن كل ما دون الله تعالى"(1).
قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].
وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
وقال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِن أَولَ النَّاسِ يُقضَى يَومَ القِيَامَةِ عَلَيهِ رَجُلٌ اشتُشهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فعرفه نِعَمَهُ فعرفها. قال: فما عَمِلتَ فِيهَا؟ قال: قَاتَلتُ فِيكَ حتَّى اشتُشهِدتُ. قَالَ: كذبت، وَلَكِنكَ قَاَتلتَ لِأَن يُقَالَ جَرِيءٌ. فقد قِيلَ. ثم أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجهِهِ حتى أُلقِي فِي النَّارِ، ورَجُل تَعَلمَ العِلمَ وَعَلمَهُ وَقرَأَ القُرآنَ. فَأُتِيَ بهِ فَعَرفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفهَا. قال: فَمَا عَمِلتَ فيهَا؟ قال: تعَلمتُ العِلمَ وَعَلَّمتُهُ وَقرَأتُ فِيكَ القُرآنَ. قال: كذبت، وَلَكِنكَ تَعَلمتَ العِلمَ لِيُقَالَ عَالِم. وَقَرَأتَ القُرآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارئٌ. فقد قيلَ. ثم أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجهِهِ حتى أُلقِيَ فِي النارِ"(2).
قال سفيان الثوري: "ما عالجتُ شيئًا أشد عليَّ من نيتي"(3).
وصح عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: وَدِدتُ أن الناسَ انتفعوا بهذا العلمِ وما نُسِبَ إليَّ منه شَيء.
وقال المحدث سفيانُ بن عيينةَ رحمه الله كنتُ قد أوتيتُ فَهمَ القرآنِ، فلما قبلتُ الصُّرةَ من أبي جعفرٍ (أي المنصور) سُلِبتُهُ، نسألُ الله المسامَحَةَ (4).
(1) وانظر أيضاً "مدارج السالكين"(2/ 91)، و"المفردات"(155).
(2)
أخرجه مسلم (1905) في كتاب الإمارة، باب: من قاتل للرياء والسمعة استحق النار.
(3)
"تذكرة السامع والمتكلم"(80).
(4)
"الدر النضيد في أدب المفيد والمستفيد"(118).
وبلغ الإمام أحمد أن الناس يدعون له، فقال:"أسال الله أن لا يجعلنا مرائين"(1).
قال ابن قيم الجوزية: "أي لا يمازج عمله ما يشوبه من شوائب إرادات النفس: إما طلب التزين في قلوب الخلق، وإما طلب مدحهم، والهرب من ذمهم، أو طلب تعظيمهم، أو طلب أموالهم، أو خدمتهم ومحبتهم وقضائهم حوائجه، أو غير ذلك من العلل والشوائب التي عَقدُ متفرقاتها: هو إرادة ما سوى الله بعمله كائناً ما كان"(2).
قلت: فالواجب علي كل معلم، أن يقصد بتعليمه وجه الله سبحانه، مخلصاً لله في تعلمه وتعليمه ونصحه، لا يبتغي بذلك جاهاً، ولا مالًا، ولا منصبا.
"فلا إله إلا الله، كم في النفوس من علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة، وأن تصل إليه، وإن العبد ليعمل العمل حيث لا يراه بشر ألبته، وهو غير خالص لله، ويعمل العمل والعيون قد استدارت عليه نطاقاً، وهو خالص لوجه الله، ولا يميز هذا إلا أهل البصائر وأطباء القلوب العالمون بأدوائها وعللها"(3).
فالنية هي أصل كل عمل، ولا يقبل عمل ما لم يكن خالصاً لله تعالى، فمن أحب الثناء والمدح، والشهوة الخفية، والطمع والشهرة، فقد ارتقى
(1)"سير أعلام النبلاء"(11/ 211).
(2)
"مدارج السالكين"(2/ 93).
(3)
"مدارج السالكين"(1/ 437).
ليهوى في حفر الرياء.
قال بعضُ السَّلَفِ: قُل للمرائي لا تَتعَب!!
ولهذا قال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله:
"لا يجتمعُ الإخلاصُ في القلبِ ومحبةُ المدحِ والثناءِ والطمعُ فيما عِندَ الناس، إلا كما يجتمعُ الماءُ والنارُ، والضب والحوتُ، فإذا حدثتكَ نفسُكَ بطلب الإخلاصِ فأقبِل على الطمع أولًا فاذبحهُ بسِكين اليأسِ، وأقبِل على المدح والثناء، فازهَدْ فيهما زُهدَ عُشاقِ الدنيَا في الآخرة، فإذا استقامَ لك ذَبحُ الطمع والزهدُ في الثناءِ والمدح سَهُلَ عليك الأخلاصُ.
فإن قلت: وما الذي يسهلُ على ذَبحَ الطَّمعِ، والزهدَ في الثناءِ والمدح؟
قلتُ: أما ذَبحُ الطمع فيُسَهِّلُه عليك عِلمُكَ يقينًا أنه ليس من شيءٍ يُطمَعُ فيه إلا وبيد الله وحدَه خزائنُه لا يملكُهَا غيرُه، ولا يُؤتي العبدَ منها شيئًا سواه، فاطلبه من الله، وأما الزهدُ في الثناء والمدح، فيسهلُه عليكَ علمك أئه ليس أحدٌ ينفعُ مدحُه ويزينُ، ويضرُّ ذمُّه وَيشِينُ، إلا الله وحدَه، كما قال ذلك الأعرابي للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ حَمدِي زَينٌ، وإنَّ ذَمِّي شَينٌ. فقال صلى الله عليه وسلم:"ذاكَ اللهُ عز وجل"(1).
فازهد في مدح من لا يَزِينُكَ مَدحُه، وفي ذمِّ من لا يَشنيُك ذمُّه، وارغَب في مدحِ من كل الزين في مدحهِ، وكلُّ الشَّينِ في ذمَّه، ولن يُقدَرَ على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدتَ الصبرَ واليقينَ كنتَ كمن أرادَ السفَر في
(1) صحيح. أخرجه أحمد (3/ 488) من حديث الأقرع بن حابس، والترمذي (3267) من حديث البراء، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(2605).