الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخلاق العالم
قلت: وللعالم أخلاق وآداب يجب أن يتصف بها، وهي ما يعرف بسمت العالم وشمائله، وأخلاقه التي بنبغي أن يتصف بها، فالسمت الحسن في جميع الأحوال هو المسلك الشريف والمروءة العالية.
ومنها:
1 -
التواضع:
التواضع لغةً:
مصدر تواضع أي أظهر الضَّعةَ، وهو مأخوذ من مادة (وض ع) التي تدل على الخفض، والتوَاضُعُ: التذَلُّلُ.
أما في الاصطلاح:
إظهارُ التنَزُّلِ عن المرتبة لمن يُرادُ تعظيمُةُ، وقيل: هو تعظيمُ مَن فوقَهُ لفضله (1).
قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)} [الشعراء: 215]. وقال تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)} [الإسراء: 37].
وعن أَبي هريرة رضي الله عنه عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "مَا نَقَصَت صَدَقَة من مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبداً بِعَفوٍ إِلا عِزاً، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَد لِلهِ إِلا رَفَعَهُ الله"(2).
(1)"فتح الباري"(11/ 341) للحافظ ابن حجر.
(2)
أخرجه مسلم (2588) في كتاب البر والصلة، باب: استحباب العفو والتواضع.
عن عِيَاضِ بنِ حِمَارٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اللهَ أَوحَى إِلَيَّ أَن تَوَاضَعُوا حَتى لا يَفخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلا يَبغ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ"(1).
وعن الرَّبيعِ بن أنسٍ في قول الله: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] قال: "يكونُ الغنيُّ والفقيرُ عندكَ في العلم سواء"(2).
وعن السلفِ: "حق على العالمِ أن يتواضَعَ لله في سرِّه وعلانيته، ويحترسَ من نفسه، ويقف عما أشكلَ عليه"(3).
قال الشاعر:
تَوَاضَعْ تَكُن كالنجمِ لاحَ لِنَاظِرٍ
…
على صَفَحَاتِ الماءِ وهو رَفيعُ
ولا تكُ كالدُّخانِ يعلُو بنفسهِ
…
إلى طَبَقَاتِ الجوِّ وهو وَضيعُ
ومن روائع ما يكتب من التواضع في السيرة النبوية ما أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَجلِسُ على الأرضِ، ويأكلُ على الأرضِ، ويَعتَقِلُ الشاةَ، وُيجيبُ دَعوةَ المملوكِ على خُبزِ الشَّعيرِ" (4).
قال الماوردي: "فَأما ما يجبُ أن يكُونَ عليه العلماءُ من الأخلاق التي بهم أَليقُ، ولهم أَلزمُ، فالتواضع ومُجانبةُ العُجبِ؛ لأن التواضعَ عطُوفٌ، والعُجبَ مُنفرٌ، وهو بكلِّ أَحدٍ قبيحٌ وبالعُلماءِ أَقبحُ؛ لأن النَّاسَ بهم يقتدُونَ
(1) أخرجه مسلم (2865) في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب: الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة.
(2)
أخرجه الآجري في "أخلاق حملة القرآن"(45) بسند لا بأس به.
(3)
"تذكرة السامع والمتكلم"(34).
(4)
صحيح بطرقه. أخرجه الطبراني في الكبير وغيره، وانظر "الصحيحة"(2125).
وكثيرًا ما يُداخلهم الإعجَابُ لتوحدهم بفضيلة العلم، ولو أَنهم نظرُوا حقّ النظرِ، وعملُوا بمُوجب العلم، لكَان التواضعُ بهم أَولى، ومُجانبةُ العُجبِ بهم أَحرى؛ لأن العُجب نقص يُنافي الفضل.
قال بعضُ السلف: من تكبر بعلمه وترفع، وضعهُ اللهُ به، ومن تواضع بعلمه، رفعهُ به. وعلَّةُ إعجابهم انصرافُ نظرهم إلى كثرة من دُونهم من الجُهَّال، وانصرافُ نظرهم عمن فوقهم من العُلماء؛ فإنه ليس مُتناهِ في العلم إلا وسيجدُ من هو أَعلمُ منه؛ إذ العلم أكثر من أَن يُحيط به بشر؛ قال اللهُ تعالى:{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] يعني في العلم: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] قال أَهلُ التأويل: فوق كُل ذي علمٍ من هو أعلم مِنهُ، حتى ينتهيَ ذلك إلى الله تعالى.
فينبغي لمن علم أَن ينظر إلى نفسه بتقصير ما قصر فيه ليسلم من عجب ما أدرك منه.
وقلَّما تجد بالعلم مُعجبًا، وبما أَدرك مُفتخرًا، إلا من كان فيه مقلًا ومقَصرًا؛ لأنهُ قد يجهلُ قدره، ويحسبُ أَنه نال بالدخول فيه أَكثره، فأما من كان فيه متوجهًا، ومِنه مستكثِرًا، فهو يعلم من بعد غايته، والعجز عن إدراك نهايته، ما يَصده عن العجب به.
وقد قال الشعبيّ: العلمُ ثلاثةُ أَشبارٍ فمن نال منهُ شبرًا شمخ بأنفه وظن أَنه نالهُ. ومن نال الشبرَ الثانيَ صغرت إليهِ نفسهُ وعلِمَ أَنه لم ينله، وأَما الشبر الثالثُ فهيهَات لا يناله أَحدٌ أبداَ" (1).
(1)"أدب الدنيا والدين"(113).
قلت: ومن فضل الله سبحانه على كثيرِ من العلماء تحليتهم بالفهم، والفقه في الدين، وشهرتهم بذلك بين الناس، حتى قيل في منثور الكلام: أنت ملك نفسك ما لم تُعرف، فإذا عُرفت أصبحتَ مِلكًا للناس.
قال الآجري رحمه الله: "فإذا نَشَر الله له الذِّكرَ عند المؤمنين أنه من أهل العلم، واحتاج الناسُ إلى ما عنده من العلم، ألزم نفسَه التواضعَ للعالِم وغير العالم، فأما تواضعُه لمَن هو مثلُه في العلم فإنها محبة تنبت له في قلوبهم، وأحبُّوا قُربَه، وإذا غاب عنهم حَنَّت إليه قلوبهم، وأمَّا تواضعُه للعلماء فواجب عليه؛ إذ أراه العلمَ ذلك، وأما تواضعُه لمَن هو دونَه في العلم فشَرَفُ العلمِ له عند الله وعند أولي الألباب، وكان من صفته في علمه وصِدقه وحُسنِ إرادته، يريد الله بعلمه"(1).
وقال الإمام الآجري رحمه الله: "فإذا أحبَّ مجالسةَ العلماء جالسهم بأدب، وتواضع في نفسه، وخَفَض صوتَه عند صوتهم، وساءلهم بخضوع، ويكون أكثرُ سؤاله عن علمِ ما تعبده الله به، ويخبرهم أنه فقير إلى علم ما يُسأل عنه، فإذا استفاد منهم علمًا أعلمهم أني قد أَفَدتُ خيرًا كثيرًا، ثم شكرهم على ذلك، وإن غضبوا عليه لم يَغضَب عليهم، ونظر إلى السبب الذي من أجله غضبوا عليه فرجعَ عنه واعتذر إليهم، لا يُضجرهم في السؤال، رفيق في جميع أموره، لا يناظرُهم مناظرةَ من يُريهم أني أعلمُ منكم، وإنما هِمتهُ البحثُ لطلب الفائدة منهم، مع حُسنِ التلطف لهم، لا يُجادل العلماء، ولا يُماري السفهاءَ، يُحسنُ التأني للعلماء مع توقيره لهم؛ حتى يتعلمَ ما يزداد به
(1)"أخلاق العلماء"(52).