الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسه، ولم يسترسل في الكلام عن نفسه، ولم يتسخط، أو يشك، أو يعترض، وإنما أشار إلى أن هذا الضر مسه، ولم يقل:(فاعفني واشفني) بصورة الأمر، وفي هذا غاية الأدب مع الله عز وجل والرضا بقدره.
*
من أدب عيسى صلى الله عليه وسلم
-:
قال الله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)} [المائدة: 116]. فمن كمال أدب المسيح عليه السلام في خطابه لربه، أنه لم يقل عليه السلام:"لم أقل شيئًا من ذلك"، وإنما أخبر بكلام ينفي عن نفسه أن يقول أي مقالة تنافي منصبه الشريف، وأن هذا من الأمور المحالة، ونزه ربه عن ذلك أتم تنزيه، ورد العلم إلى عالم الغيب والشهادة.
وهذا من أَبلَغ الأدَب مع الله سبحانه في مثل هذا المقام، فقوله:{قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116].
هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل من عيسى عليه السلام، تنزيها وتعظيماً لربه سبحانه عن الشريك، ومما لا يليق، وأنه ليس من حقوقه القول على الله بغير حق.
وذكر لي بعض الفضلاء فائدة عن أدب عيسى عليه السلام فقال: يظهر أدب عيسى عليه السلام مع ربه في قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118].
لم يقل: (الغفور الرحيم) لسببين:
الأول: لأنه خطاب في وقت غضب الرب عليهم، والأمر بهم إلى النار، فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة، بل مقام براءة منهم، فلو قال:"فإنك أنت الغفور الرحيم"، لأشعر باستعطافه ربَّه على أعدائه الذين قد اشتد غضبه عليهم، فالمقام مقام موافقة للرب في غضبه على مَن غضب الرب عليهم، فعدل عن ذكر الصفتين اللتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته إلى ذكر العزة والحكمة، المتضمنتين كمال القدرة وكمال العلم.
الثاني: فيها إشعار بأن الله لو غفر لهم، فليس ذلك عن عجزه عن الانتقام منهم ولا عن خفاء جرائمهم عليه، لا، بل هو عزيز حكيم، فالصفة الأولى تتضمن كمال القدرة، والثانية كمال العلم (1).
أخي القارئ:
الأدب مع الله سبحانه يعني القيام بدينه، والتأدب بآدابه، ولا يستقيم لأحدٍ قط الأدب مع الله تعالى إلا بثلاثة أشياء:
1 -
المعرفة بأسمائه وصفاته.
2 -
المعرفة بدينه وشرعه، وما يحب وما يكرَه.
3 -
أن تكون له النفس مستعدة ومتهيئة لقبول الحق علمًا وعملًا وحالًا.
*****
(1) تنبيه، تبين لي بعد النظر في هذه الفائدة أن هذا الكلام النفيس للإمام ابن القيم رحمه الله في "مدارج السالكين"(358) بتصرف، فالحمد لله رب العالمين.