الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طرق تحصيل الأخلاق الحسنة
تحصيل الأخلاق يكون بطريقين:
الطريق الأول:
طريقٌ موهوب، وهو عطاء من الله سبحانه، وهذا الخُلق الحسن ليس لنا سبب إليه إلا الهبة من الله سبحانه كما زكى الله سبحانه عيسى عليه السلام:{قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)} [مريم: 19]، وهذا يسمى الطبع الذي جُبِلَ الإنسان على التحلي به.
الطريق الثاني:
طريقٌ مكسوب، وهو من فعل الإنسان حسنه وقبيحه، وهذا يعرف أيضاً بالتطبع.
والدليل على أن الأخلاق تنقسم إلى هذين القسمين حديث أشجَّ عبد القيس (1) قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن فِيكَ لخلقينِ يُحِبُّهُمَا اللهُ" قُلتُ: وما هما يا رسول الله؟ قال: "الحِلمُ وَالحَيَاءُ".
قلت: قَديمًا كان أو حَديثًا؟ قال: "قديِمًا". قُلتُ: الحَمدُ للهِ الذي جَبَلَنِي على خُلقينِ أحبهما الله" (2).
(1) هو: المنذرُ بن عَائِذ بن المنذر بن الحارث العبديَ العَصْريَ، المعروف بالأشج، أشج عبد القيس. سيد قومه، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له الحديث، ولما أسلم رجع إلى البحرين مع قومه، ثم نزل البصرة بعد ذلك. ينظر ترجمته "طبقات ابن سعد"(5/ 557)، و"تهذيب التهذيب"، (10/ 267)، و"الإصابة في تمييز الصحابة"(3/ 8 و5/ 203)، و"أسد الغابة"(5/ 267).
(2)
صحيح. أخرجه أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد"(584)، وأبو يعلى (12/ 242).
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "فهذا دليل على أن الأخلاق الحميدة الفاضلة تكون طبعًا وتكون تطبعاً، ولكن الطبع -بلا شك- أحسنُ من التطَبُّع؛ لأن الخلق الحسن إذا كان طبيعيًا صار سجيَّة للإنسان وطبيعة له، لا يحتاج في ممارسته إلى تكلُّف، ولا يحتاج في استدعائه إلى عناء ومشقة، ولكن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ومن حُرم -أي حُرم الخلق عن سبيل الطبع- فإنه يمكنه أن يناله عن سبيل التطبع، وذلك بالمرونة والممارسة"(1).
فالأخلاق منها ما هو موهوب، ومنها ما هو مكتسب، والموهوب من الله سبحانه.
ونحن لا نطيل في هذه المسألة، لأنَّها عطاء من الله سبحانه، وهي الخُلُق الموهوب، والتي لا دخل لنا في كسبها.
أما القسم الثاني فالدليل على ذلك من السنة النبوية في قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"العِلمُ بِالتَّعَلمِ، وَالحِلمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَن يَتَحَرَّ الخَيرَ يُعطَهُ، وَمَن يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ"(2).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّديدُ الذِي يَملِكُ نَفسَهُ عِندَ الغَضَبِ"(3).
(1)"مكارم الأخلاق"(272).
(2)
حسن. أخرجه ابن أبي الدنيا في "الحلم"(2)، والخطيب في "التاريخ"(9/ 127)، وحسنه شيخنا الألباني في "الصحيحة"(342).
(3)
أخرجه أحمد (2/ 236، 517)، والبخاري (10/ 518 - فتح)، ومسلم (2609).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلَا قال للنبى صلى الله عليه وسلم: أوصِني. قال:" لا تَغضَب". فرددَ مرارًا قال: "لا تَغضَب"(1).
وهذا الغضب هو المذموم، فقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تغضب" أي عود نفسك الصبر، وكظم الغيظ، فإذا جاء ما يثير حفيظتك ويثير أعصابك، فلا بد من أن تهدأ وتتصبر، وكما قال:"الحلم بالتحلم"(2).
والشاهد من كل هذا أن الطريق الثاني لتحصيل الأخلاق هو المكتسب بفعلنا وأخلاقنا الكريمة والمعروف (بالتطبع) الكسبي المعروف.
قال الشاعر منقر بن فروة:
ومَا المَرءُ إلا حيثُ يجعلُ نَفسَهُ
…
ففى صَالحِ الأخلاقِ نَفسَكَ فَاجعَلِ
وقال أبو تمام:
فلم أَجدِ الأَخلاقَ إلا تَخَلْقًا
…
ولم أَجِدِ الإفضَالَ إلا تَفَضُّلا
قال الماوردي رحمه الله: "اتباعُ الدِّين، والرجوع إلى الله عز وجل في نَدْبه وآدابه، فيقهَر نفسَه على مذموم خُلُقها، وينقلها عن لئيم طبعها، وإن كان نقلُ الطباع عَسِرًا، لكنْ بالرياضة والتدرج يسهل منها ما استصعَب وُيحَبّب منها ما أَتعب، وإن تقدم قولُ القائل: مَن رَبُّه خَلَقَه كيف يُخَلّي خُلقه! غير أنه إذا عانى تهذيبَ نفسه، تظاهر بالتخلُّق دون الخلُق، ثم بالعاده يصير كالخلُق"(3).
(1) أخرجه أحمد (2/ 466)، والبخاري (6116 - فتح)، والترمذي (2020).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
"أدب الدنيا والدين"(428).
قلت: والخلاصة أن الأخلاق ما هو جبلي فطري وبقدر ما هو ثابت عليه من الخير ابتعد عنه الآخر، ومنها ما هو مكتسب ينبغي للعبد أن يجتهد في تربية نفسه، ولهذا جاءت الخطب والمواعظ والوصايا لتزكية النفوس، فتغير الطباع وتهذيب القلوب أمر يسير على من يسره الله سبحانه، فالإنسان إذا أراد تغير أخلاقه عود نفسه بالاعتياد والألفة عادات الخير فصعب عليه طرق الشر والهلكة ونفر منها، أما إذا سبق إلى الشر فالهلاك على بابه.
***