الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي كل هذه التعقيبات والتنويهات، يدلل السيد دروزة على أن التشريع القرآني، تشريع عملي عادل متمشٍ مع فطرة الإنسان وطبائع الأمور والأشياء.
رأينا في هذا المنهج:
بعد هذا العرض الذي أَتْهَمَ فيه المؤلف وأَنْجَدَ، وأوجز وأسهب، أجد لزامًا علي أن أقرر ما يلي:
كنا نود أن يكون الأستاذ دروزة رحمه الله أكثر دقة في عرضه لتفسير آيات الأحكام، سواء أكان ذلك من حيث الأسلوب والدقة في التعبير، أم من حيث عرض الأفكار وتسلسلها في فصول كما يقول، أم من حيث تقرير الحقائق العلمية، كما بينها الأئمة. هذا كله فضلًا على ما فيه من اضطراب وتناقض، وعدم دراية تامة في هذه المسائل. ولقد مر معنا طرف من هذا كادعائه الإجماع تارة، ونقضه أخرى، وكتعبيره عن الحديث الصحيح بعبارة توهم التمريض والتضعيف، مثل قوله:"رُوِي حديثٌ نبوي"، وكتقريره لمسائل يزعم أنه لم يرَ فيه رأيًا لأحد -وقد تكون من البدهيات- كما رأينا في حديث أنس السابق. ومثل هذه نسبته أحاديث لمتأخرين، مع أنها وردت في كتب المتقدمين، كحديث السرقة الذي نسبه للبغوي، مع أنه في كتب السنن وغيرها. وأخطر من هذا كله عدم تمييزه بين الأحاديث، وعدم دقته في مسائل الإرث.
6 - الأستاذ دروزة وآيات الجهاد:
كنت أود أن أجعل هذا الفصل مندرجًا في آيات الأحكام، إلا أن أهميته وخطورة البحث فيه، والتركيز الشديد الذي يلفت النظر من المفسر، كل ذلك جعلني أفرد هذا الموضوع عن موضوع آيات الأحكام الأخر. فالمفسر الفاضل لا يدع مناسبة من المناسبات، إلا ويطنب فيها، مبينًا رأيه في الجهاد، مخطئًا أعلام المفسرين، وقد لا تكون المناسبة صالحة للحديث عن الجهاد، قد تكون الآية مكية
مثلًا. كما رأينا ذلك عند قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 6] حيث أسهب في الحديث عن حرية التدين، وانتقل بعد ذلك فبيّن أن الجهاد في الإسلام ضرورة دفاعية فحسب. ولعل من الإنصاف أن نقتطف أولًا عبارات من تفسيره لتوضيح ما ذهب إليه:
1 -
يدعي أن هناك آيات مكية كثيرة، غير سورة (الكافرون) قررت مبدأ حرية التدين. فهو يقول:"ومن الجدير بالذكر، أن هذا المبدأ لم يقرر في هذه السورة فحسب، أو في العهد المكي الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفًا"(1) والمسلمون قلة مستضعفة، بل قررته آيات القرآن المكي في مختلف أدوار التنزيل مرات كثيرة وبأساليب متنوعة. ويستشهد بآيات كثيرة منها {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)} [يونس: 41]، {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس: 108].
{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)} [سبأ: 24 - 25]{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]{وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)} [النمل: 92] مع أن المتدبر لهذه الآيات والمتتبع لسياقها، يدرك لأول وهلة أنها لا تمت بصلة لما قرره الأستاذ، بل إن كثيرًا منها جاء بأسلوب التهديد على العكس مما ذهب إليه المؤلف.
كما استشهد كذلك بآيات مدنية، كآيات آل عمران والمائدة في مخاطبة أهل الكتاب {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ
(1) الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن في دور من أدوار حياته ضعيفًا.
بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64]{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)} [آل عمران: 20]، {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} [المائدة: 19]. كما يستدل بالاستثناءات في آيات القتال، في سورتي، النساء وبراءة، وبآيات الممتحنة وغيرها، مع أن لكل منها سياقها الخاص ومناسبتها الخاصة وظرفها الذي نزلت فيه.
2 -
وبعد أن انتهى من تقريره هذا، أخذ يتكلم عن الجهاد ويدفع ما يرد من اعتراضات، على ما قرره من هذا المبدأ. فهو يقول: "ونحن نعرف أنه يورد على هذا أقوال من جانب المسلمين وغير المسلمين على السواء. فإن كثيرًا من علماء المسلمين ومفسري القرآن، قالوا إن التحفظ الوارد في آية سورة البقرة {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190] قد نسخ بآيات سورة التوبة: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
…
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [التوبة: 1 - 5]، التي تأمر بقتال المشركين بدون هوادة، إلى أن يسلموا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ثم بآيات سورة التوبة التي جاء فيها {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] والتي يصفها بعض العلماء والمفسرين بآية السيف، وقد فسر كثير من مفسري القرآن وعلمائهم، كلمة الفتنة في آية سورة البقرة: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ
…
} [البقرة: 193] بمعنى الشرك، وقالوا إنها توجب قتال المشركين حتى لا يبقى شرك ومشركون ويسود دين الإسلام". ثم أورد شبهات المستشرقين، التي تتلخص في أن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يقف عند مبدأ {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} حسب اصطلاح المؤلف.
وانتهى إلى الرد على هؤلاء وأولئك بقوله: "إن القتال في الإسلام إنما شرع للدفاع عن حرية الدعوة والمسلمين، ومقابلة الأذى والعدوان والصد، إلى أن
تضمن الحرية والسلامة للمسلمين، والحرية والانطلاق للدعوة، ويمتنع الأذى والعدوان على المسلمين والإسلام، وظل هذا المبدأ محكمًا إلى النهاية".
3 -
ويخلص إلى القول بعد إيراده لآيات القتال في سورتي الحج والبقرة، بأن المسلمين لا يحق لهم أن يقاتلوا إلا من اعتدى عليهم وظلمهم، وأن الفتنة في آيات البقرة، يقصد منها إرغام المسلمين على الارتداد عن الإسلام. أما آيات سورة براءة فإن الاستثناءات الواردة فيها، حصر القتال في المشركين المعتدين والناكثين فقط، وليس كما ادعى المفسرون بأنها عامة في جميع المشركين. أما قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
…
} [التوبة: 5] فليس هو المخرج الوحيد لعدم قتالهم كما يتوهم، بل هناك مخارج أخرى، كعدم اعتدائهم علينا أوانتهائهم عن العدوان بعد قتالهم. ويذكر المفسر مسألتين عند تفسيره لهذه الآية الكريمة:
1 -
إن الاستثناء الوارد في الآية: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] محدود بانقضاء مدة العهد. فهل يكون المعاهدون من المشركين، حين انقضاء هذه المدة، موضع براءة الله ورسوله ويجب قتالهم؟ ويقول بأن المفسرين أجابوا على هذا السؤال بالإيجاب، أما هو فلم يطلع على أثر نبوي وثيق في هذا الصدد، مما يجعله يتوقف فيما قاله المفسرون، بل ربما يرجح غير ما ذهبوا إليه. فهو يقسم هؤلاء المعاهدين إلى أعداء قبل المعاهدة، وغير أعداء، وأنه ليس في آيات القتال ما يمنع تجديد العهد مع كلا الفريقين إذا رغبوا، ولم يكن ظهر منهم نقض ولا غدر، وليس للمسلمين أن يرفضوا ذلك، لأنهم أمروا بقتال من يقتلهم ويعتدي عليهم.
ب- ويذكر في المسألة الثانية، أنه ليس هناك ما يمنع من تجديد العهد مع الناكثين بعد الحرب ثانية، إذا كانت مصلحة المسلمين تقتضي ذلك. ثم يذكر أن آيتي سورة النساء والممتحنة، نص صريح حاسم على أن الله لم يجعل للمسلمين سبيلًا على من يسالمهم، فالله يقول: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ