الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منسجم مع ما قرره من قبل من أن العرب كانوا يعرفون كلّ شيء. فالحديث عن الآخرة كغيرها من القصص والمشاهدات والجن، أمور معلومة عند العرب ومعروفة لديهم. ويزيد هنا بأنها جاءت على سبيل التقريب والتشبيه، والأغرب من هذا أنه يعدّها من الوسائل التدعيمية، وذلك لأنه يقسم القرآن كما علمنا إلى أسس ووسائل، مع أن الحياة الآخرة من أهم الأسس التي جاء القرآن، ليثبت في القلوب الإيمان بها، وأن الدنيا بكل ما فيها ليست شيئًا يذكر بالنسبة للَاخرة، بقي أن يقال إن أخبار القرآن عن الآخرة، إنما هي حقائق، لا على سبيل التقريب والتشبيه كما توهّم.
9 - ذات الله في القرآن:
يرى المؤلف أن ما ورد في القرآن من حديث عن الله وصفاته، منه ما جاء على سبيل التقريب، كاليد والنفخ والاستواء والقبض والطي، ومنه ما جاء ضوابط لمنع إرادة المماثلة، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] وملاحظة هذا بالنسبة للمفسر، وبالنسبة لكون هذه من خطة التفسير، مهمة كما يقول:"وتجعله يقف - أي المفسر - من هذه التعابير والأسماء والصفات، عند الحد الذي وقف عنده القرآن، ويفهم منها الأهداف التي استهدف تقريرها بها دون تزيد ولا تكلف ولا تمحّل"(1) وسنعلق على هذا حينما نتعرض للتفسير.
10 - تسلسل الفصول القرآنية وسياقها:
يقول: "إن أكثر الفصول والمجموعات في السور القرآنية، متصلة بالسياق ترتيبًا أو موضوعًا، أو سبكًا أو نزولًا وأن فهم مداها ومعانيها وظروفها الزمنية والموضوعية وخصوصيتها وعموميتها وتلقينها وتوجيهها وأحكامها، فهمًا صحيحًا
(1) القرآن المجيد، ص 198.
لا يتيسر إلا بملاحظة تسلسل السياق والتناسب
…
" (1). ويحاول المؤلف هنا أن يطبق هذا تطبيقًا عمليًا من نواحٍ ثلاث:
تفسير الآيات القرآنية - روايات أسباب النزول - ومسائل الهداية والإضلال.
أ - تفسير الآيات القرآنية:
إن بتر الآية في رأيه لا يجوز، ويمثل ذلك بآيات كثيرة نورد منها ثلاثًا:
1 -
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96].
2 -
{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36].
3 -
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3].
"أما الآية الأولى، فقد استدل بها مذهب كلامي معين على خلق الأفعال، (2) ولو أن الآية أخذت كمفصل متصل بالسياق، ما كانت لتحصل تلك المشادة الكلامية في تفسير تلك الآية، فالآية واضحة في النهي عن عبادة الأصنام التي ينحتونها ويعملونها كما يبينه السياق، {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَال أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 94 - 96].
وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} ، فإنه يقول فيها: "إن أكثر المفسرين قالوا إنها آية السيف، ونسخوا بها آيات محكمات، وبتروها عما بعدها، فنظروا إلى قوله تعالى:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} ، دون النظر إلى قوله:{كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} . ولا أعلم أن أكثر المفسرين - كما
(1) القرآن المجيد، ص 199.
(2)
يعني الأشاعرة.
ذكر المؤلف - قالوا: إنها آية السيف، أو نسخوا بها محكمًا، كما لا أعرف مفسرًا واحدًا بتر هذه الجملة القرآنية وحدها، دون النظر إلى ما بعدها، والعجيب من المؤلف كيف ينقل هذا القول متهمًا المفسرين بعدم الدقة والموضوعية وفهم السياق القرآني.
وفي الآية الثالثة: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} ، يقول المؤلف: "فكثير من المفسرين ينظرون إلى هذه الآية مستقلة عن سابقتها، ويحارون في تأويل جملة {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالوا} حتى قال غير واحد منهم: إن الجملة من مشكلات القرآن، واضطروا إلى اعتبار (لما) بمعنى (عن ما)، وقالوا إن الجملة تعني: ثم يرجعون عما قالوا عنه ويرغبون في معاشرة أزواجهم، أو إلى تأويلات أخرى، هذا مع أن الآية متصلة كلّ الاتصال بسابقتها، فلو لوحظ ذلك لما كان هناك محل لهذه الحيرة والإشكال والتأويل.
فالآية الأولى نددت بالمظاهرين والظهار، عَدَّته عملًا منكرًا، ثم انتهت بمقطع {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)} [المجادلة: 2]. فكأنما تقدمت باستنكار الظهار من حيث المبدأ، وتقرير أن الله يعفو ويغفر للمظاهرين، قبل نزول هذا الاستنكار، وبالتالي قبل نزول الآيتين على اعتبار أنه لم يكن مستنكرًا ومنهيًا عنه.
ثم أعقبتها الثانية لتقرر الحكم الإسلامي، فالذين يعودون إلى ما نهوا عنه واستنكروا، أي: الظهار، بعد ذلك الاستنكار والوصف، تجب عليهم الكفارة قبل معاشرة أزواجهم؛ لأنهم يكونون قد أتوا بعمل عده القرآن منكرًا وزورًا" (1).
وهذا القول لا يحل الإشكال الذي نقله المؤلف عن كثير من المفسرين، بل لقد زاد المسألة تعقيدًا، فإن هذا القول لا يتفق مع السياق ولا مع المأثور، أما أنه لا
(1) القرآن المجيد، ص 201.
يتفق مع السياق فذلك أمر ظاهر، وأما أنه لا يتفق مع المأثور فلأن السنّة الصحيحة طلبت من زوج خولة الكفّارة مع أنه ظاهَرَ قبل نزول الآيات (1).
ب - روايات أسباب النزول:
ومما يتعلق بهذا الموضوع، ومن المآخذ التي يأخذها المؤلف على المفسرين، رواياتهم لأسباب النزول، وتعدد هذه الروايات حينًا، ومخالفتها للسياق حينًا آخر، ونكتفي بذكر مثالين مما ذكر المؤلف:
الأول: ما روي عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة كنا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء فنزلت:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)} [التوبة: 79].
الثاني: روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رجلين من قريش وختنًا لهما من ثقيف، كانوا في بيت، فقال بعضهم لبعض: أترون أن الله يسمع حديثنا؟ قال بعضهم: يسمع بعضه، وقال بعضهم: لئن كان يسمع بعضه، لقد يسمع كله. فنزلت الآية:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)} [فصلت: 22](2).
(1) رأينا المفسر عند تفسيره لهذه الآيات، يفسر اللام بمعنى (عن) ويقول: إنه مضطر لهذا التفسير وإن كان قلقًا مضطربًا، مستدلًا بما ورد في آية النجوى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة: 8]، فإن اللام هنا لا يمكن أن تكون بمعنى (عن) فلا يمكن أن تكون في آية الظهار كذلك - كما يقول - مع أن أدنى معرفة بأساليب اللغة وفن التعبير، تمكن القارئ أو الدارس من إدراك الفرق من حيث المعنى بين الموضوعين.
(2)
صحيح البخاري، 4816. مسلم، 2775.
ومنشأ الخطأ كما يصوره المؤلف أن الآية الأولى نزلت في سياق غزوة تبوك، فكيف تأتي تلك الرواية التي تمزق السياق، وتقطع الصلة بين الآيات، وتوهم أن الآية نزلت منفردة.
والحق الذي يجب تقريره أن سورة براءة نزل جلّ آياتها في غزوة تبوك، وقد جاءت هذه الآية الكريمة:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ .... } في أثناء الحديث عن غزوة تبوك، فليس هناك تمزيق للسياق، وقطع للصلة، ولا إبهام أنَّها نزلت منفردة، والمتأمل لسورة براءة يجد حديثها عن أقسام المنافقين في مواضع متعددة {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ} [التوبة: 61]، {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} [التوبة: 64]، {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75]، {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ} [التوبة: 79]، إلى آخر السورة تقريبًا.
ومنشأ الخطأ في الرواية الثانية أن الآيات جاءت في مشهد من مشاهد يوم القيامة، لكن الرواية أفهمت غير ذلك.
وقد أوافق الأستاذ رحمه الله فيما ذهب إليه، وقد تكون الآية استُشهد بها على ما ذهب إليه هؤلاء، وليست سببًا للنزول (1).
3 -
مسائل الهداية والضلال:
وملاحظة السياق وتسلسل الفصول القرآنية كما يقول المؤلف، يزيل وهم التعارض والتناقض بين الآيات، وبخاصة تلك التي تتعلق بمجمل الهداية والإضلال والكفر والإيمان. ويأتي بأمثلة كثيرة لذلك، ليبين هذا الإشكال، مع أنه لا إشكال ولا لبس.
(1) راجع كتابنا: إتقان البرهان في علوم القرآن، فضل أسباب النزول.