الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويخالف ابن تيمية في قوله: ليس على تارك الصلاة عمدًا قضاء، ويذكر ذلك عند قوله تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} [مريم: 59](1).
ويخالف الإمام أحمد الذي يقول بعدم صحة وقوع الاستثناء المنقطع. ويقول الشيخ بصحة وقوعه وذلك عند قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مريم: 62](2).
ويخالف الظاهرية وابن حزم ويناقشهم في منعهم الاجتهاد في الشرع ومنع التقليد عند قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36](3).
ويرد على أصحاب المذهب الاشتراكي (4).
تاسعا: ملاحظات على القضايا العلمية:
أ- قضايا اللغة:
مع أنّ الشيخ رحمه الله يعد موسوعيًا في قضايا اللغة متنًا ونحوًا وصرفًا ولكن يظهر أنّ طريقة دراسته لهذه العلوم، هي الطريقة القديمة التي كانت تدرَّس عند المشايخ رحمهم الله قبل أن تكون هناك معاهد وكليات، لذا نجده ينفرد فيقرر ما يخالف به جمهور المحققين من العلماء، وهذا أمر كنا نستمع إليه من بعض الشيوخ، ولا زلت أذكر ما حدثنيه بعضهم رحمهم الله من أن شيخه وهو يدرِّس له المبتدأ والخبر من ألفية ابن مالك يقول: وقد قال ابن مالك:
مبتدأٌ زيدٌ وعاذرٌ خَبَرْ
…
إنْ قلتَ: زيدٌ عاذرٌ مَنِ اعْتَذَرْ
(1) المصدر السابق، 3/ 463 - 464.
(2)
المصدر السابق، 3/ 467.
(3)
المصدر السابق، 3/ 146 - 147.
(4)
المصدر السابق، 2/ 259 - 265.
يقول الشيخ في تدريسه: كان الأولى أن يقول ابن مالك:
إن قلتَ: زيدٌ عاذرٌ من اعتذر
…
فالمبتدأ زيدٌ وعاذرٌ خبر
وحينما سمعتُ هذا القول من محدثي رحمه الله كدتُ أقبَلُهُ، وبعدَ أيام وجدتُ أن ابن مالك لم يَعْدُ الصوابَ فيما قال، فلو كان ابن مالك يريدُ إعراب هذه الجملة، أعني: زيدٌ عاذرٌ من اعتذر، لكان قول الشيخ مقبولًا، لكن ابن مالك أراد أن يبين المبتدأ والخبر في هذه الجملة.
وذكرتُ هذه الحادثة لأخلُصَ إلى أن هناك بعضَ الناس قد تكون لهم آراء خاصة يخالفون فيها المحققين من ذلك ما ذهب إليه صاحب (الأضواء) رحمه الله عند بعض الآيات. منها:
- قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]. يذكر أن للعلماء قولين في هذه الواو، وهو خلافٌ معروف، فالذين يرون أنّ الراسخين يعلمون يقولون: إنّ الواو عاطفة، والذين يرون أن الراسخين لا يعلمون المتشابه يقولون: إنها استئنافية. وهذا هو رأي الشيخ رحمه الله ولا أود أن أعرض لهذه القضية فهي معروفة لدى العلماء، لكن الذي يعنينا هنا أن الشيخ يذهب مذهبًا في إعراب قوله تعالى:{يَقُولُونَ} . فالمحققون من العلماء يرون أنّ الجملة حالية، أي في محل نصب على الحال، أو مستأنفة استئنافًا بيانيًا. يقول الزمخشري رحمه الله: "قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} أي: لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله وعبادُه الراسخون في العلم، أي: ثبتوا فيه وتمكنوا، وعضوا فيه بضرسٍ قاطع
…
و {يَقُولُونَ} كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هؤلاء العالمون بالتأويل {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}
…
" (1).
(1) الكشاف، 1/ 338.
ويقول صاحب "الدر المصون" السمين الحلبي رحمه الله: "وقوله {وَالرَّاسِخُونَ} يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه مبتدأ، والوقف على الجلالة المعظمة، وعلى هذا فالجملة من قوله:{يَقُولُونَ} خبر المبتدأ.
الثاني: أنهم منسوقون (معطوفون) على الجلالة المعظمة، فيكونون داخلين في علم التأويل.
وعلى هذا فيجوز في الجملة القولية {يَقُولُونَ} وجهان: أحدهما: أنها حال. أي: يعلمون تأويله حال كونهم قائلين ذلك. والثاني: أن تكون خبر مبتدأ مضمر، أي هم يقولون" (1).
لكن الشيخ رحمه الله لم يرتضِ ما قاله هؤلاء، ويرجح أنّ جملة {يَقُولُونَ} معطوفة بحرف محذوف، ويستدل لذلك بأن: "حذف الحرف المعطوف أجازه ابن مالك وجماعة من علماء العربية، والتحقيق على جوازه، وأنه ليس مختصًا بضرورة الشعر -كما زعمه بعض علماء العربية- والدليل على جواز وقوعه في القرآن قوله {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8)} [الغاشية: 8]، فإنه معطوف بلا شك على قوله:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)} [الغاشية: 2] بالحرف المحذوف الذي هو الواو، ويدلُّ له إثبات الواو في نظيره في قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24)} [القيامة: 22 - 24]. وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)} [عبس: 38 - 40]. وجعل بعضَ العلماء منه قوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ} [التوبة: 92]. يعني: وقلت، بالعطف بواو محذوفة، وهو
(1) الدر المصون، 3/ 29.
أحد احتمالات ذكرها ابن هشام في المغني" (1). وما قاله الشيخ رحمه الله حري به أن يناقش من جهتين: من جهة المعنى ومن جهة الصناعة:
أما من حيثُ المعنى: فلا فائدة لقوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} أي أن تعطف على ما قبلها، فإذا كان الراسخون في العلم يعلمون تأويله، أفليس من البدهي أن يكونوا ممن آمن به؟ ونحن نعلم أن العطف يقتضي التغاير، ولا تغاير هنا.
وأما من حيث الصناعة: فإن المحققين من العلماء لا يجيزون حذف حروف المعاني، لأن الحذف إنما يذكر اختصارًا، فإذا قلت: قام زيد وعمرو، فإن الحرف هنا يغني عن جملة هي: قام عمرو. وإذا قلت: تقدمت الأمم إلا المسلمين، فإن حرف الاستثناء يغني عن جملة وهي قولنا: أستثني المسلمين، وهذا ما ذهب إليه ابن جني وغيره من المحققين (2).
أما ما استشهد به الشيخ من الآيات القرآنية، من حذف حرف العطف في سورة (الغاشية) قياسًا على ما جاء في سورتي (القيامة) و (عبس) فليس الأمر كما ذكر رحمه الله وإلا فما المانع من ذكر حرف العطف في سورة (الغاشية) كما ذكر في السورتين الكريمتين (3).
وقضية الحذف هذه لها أثر سلبي في فهم معاني القرآن الكريم، فقد ذهب بعضهم إلى أن قوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
…
} [البقرة: 180] معطوفة على قوله سبحانه في الآية التي قبلها: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]. وهو غير مقبول، فللقرآن الكريم أسراره البيانية فيما
(1) أضواء البيان، 1/ 195 - 196.
(2)
راجع كتابي: لطائف المنان في دعوى الزيادة والحذف في القرآن. في الحديث عن هذه الآية الكريمة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8)} [الغاشية: 8].
(3)
انظر المرجع السابق.
يتصل بالمعنى فيما يذكر وفيما يحذف، وإذا سرنا على هذا المنهج فسنلغي موضوعًا من أهم الموضوعات في كتاب الله والسنّة النبوية واللغة العربية، وهو موضوع (الفصل والوصل) الذي هو أنف البلاغة الذي تعطس منه، جاء في سورة (ق) قوله:{وَقَال قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)} [ق: 23] ثم بعدها: {قَال قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)} [ق: 27]. أفيمكن أن يُقال: إن في الآية الثانية حرفًا محذوفًا، هذا ما لم يجزه أحد (1). وهناك مواضع كثيرة من الآيات القرآنية المتشابهة ذكرت فيها الواو تارةً وحذفت أخرى مثل قوله:{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71]، وقوله:{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، وقوله:{قَالوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَال هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)} [الشعراء: 153 - 155]. وقوله: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)} [الشعراء: 180 - 186]. وهكذا في هذه الآيات وغيرها أغراض تتصل بالمعنى والبيان والتاريخ وغير ذلك. وليت الشيخ اكتفى بما ذكره المحققون العلماء وارتضاه كما ارتضوه.
- وعند قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)} يغلظ الشيخ غلظةً ما كنا نريدها، ويقسو الشيخُ قسوة كنا نربأ به عنها على إمام من أئمة البيان شَهِدَ له حتى خصومُه، يقول صاحب "أضواء البيان" بعد أن نقل كلام صاحب "الكشاف" الزمخشري في أن العطف بالفاء يفيد ترتيبًا لها في
(1) الكشاف، 4/ 390 - 391.
الفضل، إما أن يكون الفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة وإما على العكس (1)، أي: إما ان يكون الترتيب تصاعديًا أو تنازليًا، وكلٌّ له سره وغرضه، يعقب الشيخ رحمه الله على ذلك فيقول "
…
وكلام صاحب الكشاف هذا نقله عنه أبو حيان والقرطبي وغيرهما ولم يتعقبوه، والظاهر أنه كلامٌ لا تحقيق فيه، ويوضح ذلك اعتراف الزمخشري نفسه بأنه لا يدري ما ذكره، هل هو كذا أو على العكس، وذلك صريح في أنه ليس على علم مما يقوله، لأن من جزم بشيء ثم جوّز فيه النقيضين دلَّ ذلك على أنه ليس على علم مما جزم به" (2).
وإذا كان كلام الزمخشري لا تحقيق فيه، وليس على علمٍ بما قال، فهذا ينسحب كذلك على من نقل عن الزمخشري دون تحقيق وهم كثرٌ. وسامح الله صاحب أضواء البيان ورحمه رحمة واسعة، فما كنا نريد منه مثل هذه الغلظة التي لا تليق بأئمتنا، والحق أن ما ذكره الزمخشري ليس فيه تناقض، فهناك آيات كثيرة في كتاب الله يمكن أن يكون الترتيب فيها تصاعديًا أو تنازليًا، لأن هناك أكثر من جهة في فهم الآية القرآنية، وذلك لا يعد تناقضًا، فإن هنالك اعتبارات واجتهادات تختلف فيها وجهات نظر العلماء. وإذا كان مثل أولئك الأئمة لا يفهمون ما يقولون، وهم النجوم في الظلماء فلمن نُهرع يا ترى؟ !
وما قاله الزمخشري لا غبار عليه من حيث الصناعة ومن حيث المعنى وقد يكون له في القرآن الكريم أمثلة كثيرة. ومن هذه الأمثلة:
ففي سورة النحل يقول تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)} [النحل: 120، 121].
(1) المصدر السابق، 4/ 25.
(2)
أضواء البيان، 6/ 303 - 304.
ثم يقول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)} [النحل: 123].
ففي هذه الآيات الكريمات ذكر الله لخليله عليه السلام أوصافًا كثيرة وفضائل متعددة كان آخرها قوله سبحانه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)} فهذا ترتيب تصاعدي. فإن الصفات الطيبة التي ذكرت لأبي الأنبياء وشيخ الحنفاء عليه السلام من كونه أمة قانتًا كان أفضلها وخيرها وأشرفها وأدلها على الفضل قول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} فالوحي إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملة إبراهيم أعظم شرفًا من كل ما تقدم، فيكفي الخليل فخرًا بعدما ذكره الله من صفاته الشخصية أن يوحي إلى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملة إبراهيم. وقد يكون الترتيب صالحًا للأمرين معًا، وأمثل لذلك بما جاء في سورة الفجر في قوله سبحانه:{كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَال حُبًّا جَمًّا (20)} [الفجر: 17 - 20]، فهذه صفاتهم التي روعوا من أجلها في قوله بعد ذلك {كَلَّا} يمكن أن يكون الترتيب فيها تنازليًا أو تصاعديًا ولا تناقض في هذا. إذا اعتبرنا القلة والكثرة كان تصاعديًا، فإن عدم الحض على طعام المسكين لا شك أعم وأكثر من عدم إكرام اليتيم، فإن المساكين أكثر من اليتامى ثم إن أكل التراث أكثر شيوعًا، ثم إن حب المال لا يكاد يخلو منه أحد.
ويمكن أن يكون الترتيب غير هذا من حيث بشاعة الفعل، فإن أسوأ هذه الصفات إيذاء اليتامى وهكذا حتى تنتهي هذه الصفات. ونرجو الله أن يغفر لصاحب أضواء البيان وأن يجمعه مع الزمخشري في جنات الرضوان، وأن يجمعنا وأحبابنا وقراء هذا الكتاب معهم إن شاء الله.
- وعند تفسير قوله تعالى: {وَقَالوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا} [فصلت: 5] ينقل صاحب "الأضواء" رحمه الله كلام الزمخشري وهو: "فإن قلت: هل لزيادة (من)
في قوله تعالى: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] فائدة؟ قلت: نعم، لأنه لو قيل: وبيننا وبينك حجاب، لكان المعنى: أن حجابًا حاصلٌ وسط الجهتين، وأما بزيادة (من) فالمعنى: أن حجابًا ابتدأ منا وابتدأ منك، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها" (1).
يقول الشيخ بعد أن نقل كلام الزمخشري: "واستحسنَ كلامَه هذا الفخرُ الرازي وتعقبه ابن المنير فأوضح سقوطه، والحق معه في تعقبه عليه"(2).
وإتمامًا للفائدة هنا، أنقل ما قاله ابن المنير تعقيبًا على كلام الزمخشري: "ولا ينفك المعنى بدخول (من) عما كان عليه قبل، ولو كان الأمر كما ذكر لكانت (من) مقدرة مع (بين) الثانية، لأنه جعلها مفيدة للابتداء في الثانية كما هي مفيدة للابتداء في الأولى، فيكون التقدير إذًا {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} وهذا يخل بمعنى (بين) إخلالًا بينًا، فإنها تأبى تكرار العامل معها، حتى لو قال قائل: جلستُ بين زيد وجلست بين عمرو لم يكن مستقيمًا، لأن تكرار العامل يصيرها داخلة على مفرد فقط، ويقطعه من قرينة المتقدم، ومن شأنها الدخول على متعدد، لأنها في ضمن معناها التوسط، وزاد الزمخشري على هذا فجعل (بين) الثانية غير الأولى، لأنه جعل الأولى بجهتهم والثانية بجهته، وليس الأمر كما ظنه، بل (بين) الأولى هي الثانية بعينها، وهي عبارة عن الجهة المتوسطة بين المضافين، وتكرارها إنما كان لأن المعطوف مضمر محفوظ، فوجب تكرار حافظه، وهو (بين) والدليل على هذا: أنه لا تفاوت باتفاق بين أن تقول: جلست بين زيد وعمرو وبين أن تقول: جلستُ بين زيد وبين عمرو، وإنما كان ذكرها مع الظاهر جوازًا ومع المضمر وجوبًا لما بيناه. فالظاهر والله أعلم أن موقع (من) ههنا كموقعها في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
(1) الكشاف، 4/ 145.
(2)
أضواء البيان، 7/ 9.
{سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس: 9]، وذلك للإشعار بأن الجهة المتوسطة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ الحجاب لا غير، ووجود (من) قريب من عدمها" (1).
يعلق د. عبدالفتاح لاشين على كلام ابن المنير فيقول: "الزمخشري قال بأن الحرف (من) في الآية يفيد بأن المسافة المتوسطة بين الجهتين حجاب، فالحجاب مبدؤه من الكفار كما كان مبدؤه من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك مبالغة في تكثيف الحجاب الذي يمنع السماع ويحجب الهداية، لكن ابن المنير وجد في كلام الزمخشري مخالفة لغوية، ولما كان أي حرف في القرآن الكريم لا بد أن يكون لمعنى، جعل ابن المنير حرف (من) في الآية يدل على أن الجهة المتوسطة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ الحجاب ثم يتردد في هذا المعنى ويقول: وجود (من) قريب من عدمها، وابن المنير في هذا خطأ الزمخشري دون أن يجد لحرف (من) معنى في الآية إلا زيادتها، ونحن نستبعد أن يوجد هذا الحرف بدون معنى وننزه القرآن عنه، ووقوف العلماء عن إيجاد معنى لحرف (من) هو من إعجاز القرآن الكريم وسر بلاغته، فالذهن قد قصُر، والعقل نضُب دون الوصول إلى سر هذا، ونحن وهذا الحرف كقول القائل:
نعيبُ زماننا والعيب فينا
…
وما لزماننا عيبٌ سوانا" (2)
وبعد هذا التطواف على ما ذكره هؤلاء العلماء أقدمين ومحدثين ومع أنني لست ممن يحسنون الدلاء، لكن العون من الله وحده، أقول ومن الله وحده التوفيق: إني لا أرتاب في أن ما قاله الزمخشري رحمه الله كلام لا يسقط عليه إلا خبير، ذلكم أن أي حرف ذُكر في كتاب الله لا بد له من سر كما يقول د. لاشين، وما استدل به ابن المنير من أن هناك آية في كتاب الله ليس فيها (من) وهي قوله تعالى:{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)}
(1) انظر: حاشية ابن المنير على الكشاف، 4/ 145.
(2)
انظر: د. عبد الفتاح لاشين، بلاغة القرآن في تعقبات ابن المنير على الزمخشري، ص 233.
[الإسراء: 45]. لا يصلح دليلًا لأن كل آية من كتاب الله جاءت مقدّرًا فيها المعنى المراد بكل دقة وموضوعية، فخلو آية الإسراء من حرف (من) لا يسمح لنا أن نقيس آية (فصلت) على آية (الإسراء) وإليكم بيان هذا:
وقبل أن تستمعوا مني أرجو أن نتدبر الآيتين مرة أخرى. ففي آية الإسراء الله تبارك وتعالى هو الذي جعل بين رسوله صلى الله عليه وسلم وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا مستورًا، وذكر بعد هذا قوله:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الإسراء: 46] أما آية فصلت فإن القوم لشدة جحودهم وفظاعة كفرهم وإنكارهم، هم الذين اعترفوا بأن هذه الأمور التي تحول بينهم وبين الإيمان هي منهم، وهم مجبولون عليها، ولذلك قدمت الأكنة والوقر على الحجاب، ثم إن هذا الحجاب الذي قالوا فيه:{مِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} يريدون منه أنه يستحيل اللقاء بيننا وبينك، والقرآن الكريم الذي قدّر الله فيه الألفاظ والمعاني كما قدّر أمر هذا الكون سماءه وأرضه شمسه وقمره، جاءت فيه كلمة (من) على لسان أولئك الجاحدين المعاندين، ولا يمكن أن يكون هذا الحرف في آية الإسراء، لأن الله تبارك وتعالى إنما بعث نبيه صلى الله عليه وسلم ليؤمن به الناس، وصدق الله {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7].
وخلاصة القول: أن (من) في آية (فصلت) تكشفُ عن الروعة البيانية ومظهر الإعجاز في كتاب الله تعالى الخالد، حيث جاءت كلمة (من) على لسان أولئك الخصوم، أما ما كان حديثًا من الله تعالى في آية الإسراء فلم تذكر فيه كلمة (من) فتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا.
-لقد أكد الشيخ رحمه الله في أكثر من موضع قضية الحروف الزوائد في كتاب الله فمثلًا عند قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25]. يقول: "الباء مزيدة للتوكيد، ويستدل على صحة الزيادة من الآيات ومن الشعر"(1). والأمر ليس
(1) أضواء البيان، 3/ 399 - 400.