الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[قال مُعِدُّه للشاملة: لم يكتب المؤلف (د فضل عباس) رحمه الله، هذا الفصل، ولم يقرأه، كما هو مبين في المقدمة جـ3/ 5]
وعلى كلٍّ فليس في هذه الآية ما يؤيد أن (الباء) بمعنى (عن)، قال شيخ شيوخنا الدكتور فضل حسن عباس -رحمه الله تعالى- موضحًا ذلك: ونحن نعلم أن السؤال يتعدى بـ (عن)، قال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [النازعات: 42]، فلماذا عُدل عن هذا الحرف ولم يقل: سأل سائل عن عذاب واقع؟
ومعرفة السياق تطلعنا على ذلك السر، وتلك الروعة؛ إن السؤال عن الساعة كان عن زمانها، وهكذا السؤال عن الأهلّة كان عن سبب صغرها وكبرها، أما السؤال في الآية التي معنا فلم يكن سؤالًا عن نوع العذاب، ولا عن زمانه، وإنما كان طلبًا لهذا العذاب ودعاءً لإتيانه، وسبب النزول يؤيد هذا، فالسائل هو النضر بن الحارث كما روى النسائي وجماعة، وصححه الحاكم عن ابن عباس، وروي ذلك عن ابن جريج، والسُّدّي والجمهور حيث قال إنكارًا واستهزاءً:{وَإِذْ قَالوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)} [الأنفال: 32].
عناية الشيخ بالقضايا البلاغية:
عرض الشيخ لكثير من مسائل علم المعاني وعلم البيان، وسنقتصر على ذكر بعض الأمثلة مما عني به الشيخ.
فقد تحدث عن اختيار الكلمة في القرآن الكريم، وذلك لصلاحيتها لأكثر من معنى يتأدى بها.
فمن ذلك اختيار لفظة الصريم في قوله تعالى: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)} [القلم: 20]، قال: "والصريم قيل: هو الليل، والصريم من أسماء الليل، ومن أسماء النهار؛ لأن كل واحد منهما ينصرم عن الآخر، كما سمي كل من الليل والنهار مَلْوًا، فيقال: المَلَوَان، وعلى هذا ففي الجمع بين (أصبحت) و (الصريم) مُحَسِّنُ الطباق، وقيل الصريم: الرماد الأسود بلغة جَذِيمة أو خُزَيمة، وقيل الصريم: اسم رَمْلَة
[قال مُعِدُّه للشاملة: لم يكتب المؤلف (د فضل عباس) رحمه الله، هذا الفصل، ولم يقرأه، كما هو مبين في المقدمة جـ3/ 5]
معروفة باليمن لا تُنبِت شيئًا، والإتيان بكلمة الصريم هنا لكثرة معانيها وصلاحية جميع تلك المعاني لأن تراد في الآية" (1).
وقد يختار القرآن الفعل على غيره؛ لأن هذا الفعل أوعب، ويحتمل ما لا يحتمل غيره من المعاني، ومتعلقاتها، ومن ذلك قوله تعالى:{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ} [فصلت: 25]، قال:"وقيض: (أتاح وهيأ شيئًا للعمل في شيء) ومعنى تقييضنا لهم، تقديرنا لهم، أي: خلق المناسبات التي يتسبب عليها تَقارُنُ بعضهم مع بعض لتناسب أفكارِ الدعاة والقابلين، كما يقول الحكماء: (استفادَةُ القابل من المبدأ تتوقف على المناسبة بينهما)، فالتقييض بمعنى التقدير عبارة جامعة لمختلف المؤثرات والتجمعات التي توجب التآلف والتحابَّ بين الجماعات، ولمختلف الطبائع المكوَّنة في نفوس بعض الناس، فيقتضي بعضها جاذبيةَ الشياطين إليها، وحدوث الخواطر السيئة فيها، وللإحاطة بهذا المقصود أوثر التعبير هنا بـ (قيضنا) دون غيره من نحو: بعثنا وأرسلنا"(2).
وقد يُختار في القرآن الحرف لدواعٍ معينة وقد يُختار في القرآن التعبير بالفعل دون المصدر، كما في قوله تعالى:{أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ} . بعد قوله: {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} [يونس: 41]، قال: "وإنما عدل عن الإتيان بالعمل مصدرًا كما أُتي به في قوله: {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} إلى الإتيان به فعلًا صلة لـ (ما) الموصولة للدَّلالةِ على البراءة من كل عمل يحدث في الحال والاستقبال، وأما العمل الماضي فلكونه قد انقضى، لا يتعلق بالغرض بذكر البراءة منه، ولو عُبِّر بالعمل لربما تُوُهِّمَ أن المراد عمل خاص، لأن المصدر المضاف لا يَعُمُّ، ولتجنب إعادة اللفظ بعينه في الكلام الواحد، لأن جملةَ البيان من تمام المُبَيَّن، ولأن هذا اللفظ أنسبُ بسلاسة النظم، لأن
(1) 29/ 82. وانظر: 29/ 117، 29/ 262.
(2)
24/ 274 - 275. وانظر: 22/ 328.
[قال مُعِدُّه للشاملة: لم يكتب المؤلف (د فضل عباس) رحمه الله، هذا الفصل، ولم يقرأه، كما هو مبين في المقدمة جـ3/ 5]
في (ما) في قوله: {مِمَّا أَعْمَلُ} من المد ما يجعله أسعدَ بمد النَّفَسِ في آخر الآية، والتهيئة للوقف على قوله:{مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)} ، ولما في {تَعْمَلُونَ} من المد أيضًا، ولأنه يراعي الفاصلة، وهذا من دقائق فصاحة القرآن الخارجة عن الفصاحة المتعارفة بين الفصحاء (1).
وقد تأتي الكلمة في القرآن مفردة أو مجموعة، وذلك بحسب الدواعي البلاغية المقتضية لذلك (2)، والشيخ رحمه الله تعالى في كثير من الوقفات عند هذا الجانب يفسره لك (بالتفنن) وهو يعني لئلا ينحصر القرآن في نمط واحد من أنماط الكلام، والتعليل بمثل هذا لا ينبغي الوقوف عنده (3)، وقد يقف وقفات يعلل بها بغير ذلك، ولكن في تعليله قصور واضح، وهناك بعض الأمثلة لتدرك سر الروعة القرآنية في اختيار الكلمات في مواقعها المناسبة:
خذ مثلًا (السمع والبصر) فإن لفظ (السمع) لم يأت في القرآن مجموعًا البتة بخلاف (البصر) فإنه جاء في القرآن بلفظ الجمع دائمًا (4) ولا بد لهذا من داع يقتضيه، وقد وقف الشيخ عند بعض الآيات القرآنية في ذلك فعلل سِرَّ الجمع والإفراد بخفة أحد اللفظين مفردًا والآخر مجموعًا وذلك عند قوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام: 46]، قال: "والأبصار جمع بصر، وهو في اللغة العين على التحقيق، وقيل: يُطلَق البصر على حاسة الإبصار، ولذلك جمع ليَعُمَّ بالإضافة جميع أبصار المخاطبين، ولعل إفراد السمع وجمع الأبصار جَرَى على ما يقتضيه تمام
(1) 11/ 176. انظر: 11/ 72.
(2)
انظر: أسباب الإفراد والجمع للأستاذ فضل عباس، ص 79، من بحثه بعنوان المفردات القرآنية مظهر من مظاهر الإعجاز.
(3)
سيأتي لهذا مبحثه الخاص به.
(4)
انظر: صفاء الكلمة، ص 137، سوى أن الأبصار جاءت مفردة في موضع واحد وذلك في الإسراء الآية 36. انتهى منه.
[قال مُعِدُّه للشاملة: لم يكتب المؤلف (د فضل عباس) رحمه الله، هذا الفصل، ولم يقرأه، كما هو مبين في المقدمة جـ3/ 5]
الفصاحة من خفةِ أحدِ اللفظين مفردًا والآخر مجموعًا عند اقترانهما، فإن في انتظام الحروف والحركات والسكنات في تَنَقُّل اللسان سرًّا عجيبًا من فصاحة كلام القرآن المعبر عنها بالنظم، وكذلك نرى مواقعها في القرآن" (1).
واقتصر في سورة يونس (الآية 31) على تعليل ذلك بأن إفراد (السمع) لأنه مصدر دال على الجنس الموجود في جميع حواس الناس، وأما (الأبصار) فجيء به جمعًا؛ لأنه اسم فليس نصًّا في إفادة العموم لاحتمال توهم بصر مخصوص فكان الجمع أدل على قصد العموم، وأنفى لاحتمال العهد ونحوه (2)، وذكر عند تفسيره سورة السجدة (الآية 9) أن إفراد (السمع) لأنه مصدر لا يُجْمَع، وجمع (الأبصار والأفئدة) باعتبار تعدد الناس (3).
وقال في تعليل ذلك في سورة الملك (آية 23) إن إفراد السمع لأن أصله مصدر، أي: جعل لكم حاسة السمع، وأما الإبصار فهو جمع بصر بمعنى العين (4).
وهذه الملاحظ اللفظية غير كافية في الوقوف على هذا السر البياني الرائع والعجيب، يقول الدكتور عبد الفتاح لاشين: يقال في أسباب ذلك أن استقبال الأذن للمسموع لا خيار للإنسان فيه، فلا يمكن أن يمنع أذنه أن تسمع شيئًا وصل إليها، أو وقع عليها، أما العين فلها الخيار في ذلك لها أن ترى المنظر الذي أمامها فتحملق فيه، ولها أن تغمض فلا ترى مما أمامها شيئًا، بخلاف الأذن، فما صدر من صوت ووقع على الأذن فلا بد أن تسمعه، فإذا جاء إنسان وصرخ في جمع من الناس سمعه الناس جميعًا، فلا خيار للإنسان في قبول المسموع إذا كان المسموع في الجماعة واحدًا، إذن فالسمع واحد لكن الأبصار قد تتعد مرائيها، هذا يبصر ذلك، وذلك لا يبصر؛
(1) 7/ 234.
(2)
11/ 156.
(3)
21/ 217.
(4)
29/ 47.
[قال مُعِدُّه للشاملة: لم يكتب المؤلف (د فضل عباس) رحمه الله، هذا الفصل، ولم يقرأه، كما هو مبين في المقدمة جـ3/ 5]
لأن هناك تحكم في العضو بحيث يرى أو لا يرى، أما السمع فلا خيار لأحد فيه، لذلك جاء (السمع) مفردًا دائمًا و (الإبصار) مجموعة دائمًا (1).
وأما إفراد (البصر) في قوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ} [الإسراء: 36]، فذلك لأن الكلام عن المسؤولية الذاتية وهي مسؤولية الفرد، فكل إنسان مسؤول عن نفسه، وليس مسؤولًا عن إبصار غيره، ولهذا أفرد لفظ البصر هنا (2).
وعرض الشيخ للاستفهام، وذكر أن الاستفهام يخرج من معناه الحقيقي إلى معانٍ جديدة متنوعة، وهذه المعاني التي خرج إليها الاستفهام قد تكون حقيقة وقد تكون مجازًا.
والظاهر أن الشيخ يرى أن المعاني المفادة من أحرف الاستفهام في جملها، هي معانٍ مجازية، وهي على التحديد من قبيل المجاز المرسل، ومثل هذه المسألة لم يطرقها مدونو البلاغة من مثل عبد القاهر والزمخشري -رحمهما الله- وإنما هي من صنيع أصحاب الحواشي والمتأخرين.
ونقف عند مثال واحد للشيخ رحمه الله، وهو ما ذكره الشيخ عند تفسيره قوله تعالى:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [الماندة: 91]، ولابد من ذكر النص الذي قاله كاملًا حتى يحسن توضيح ما فيه، قال الشيخ: "الفاء تفريع عن قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ} الآية، فإن ما ظهر من مفاسد الخمر والميسر كافٍ في أنتهاء الناس عنهما فلَمْ يبق حاجة لإعادة نهيهم عنهما، ولكن يستغنى عن ذلك باستفهامهم عن مبلغ أثر هذا البيان في نفوسهم ترفيعًا بهم إلى مقام الفَطِنِ الخبير، ولو كان بعد هذا البيان كلِّه نهاهم عن تعاطيها لكان قد أنزلهم منزلة الغبيِّ، ففي هذا الاستفهام من بديع لطف الخطاب ما بلغ به حدَّ الإعجاز، ولذلك اختير الاستفهام بـ {هَلْ} التي أصل معناها
(1) صفاء الكلمة، ص 137. وانظر: المفردات القرآنية، ص 89. وانظر: البرهان، 4/ 19.
(2)
صفاء الكلمة للدكتور لاشين، ص 138.
[قال مُعِدُّه للشاملة: لم يكتب المؤلف (د فضل عباس) رحمه الله، هذا الفصل، ولم يقرأه، كما هو مبين في المقدمة جـ3/ 5]
(قد)، وكَثُر وقوعها في حيز الاستفهام، فاستغنوا بـ {هَلْ} عن ذكر الهمزة، فهي لاستفهام مُضَمَّنٍ تحقيقَ الإسنادِ المستفهَمِ عنه وهو {أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} ، دون الهمزة، إذ لم يقل: أتنتهون، بخلاف مقام قوله:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20]، وجعلت الجملة بعد {هَلْ} اسمية لدلالتها على ثبات الخبر زيادة في تحقيق حصول المستفهم عنه، فالاستفهام هنا مستعمل في حقيقته، وأُريد معها معناه الكنائيُّ، وهو التحذير من انتفاء وقوع المستفهم عنه
…
ومن المعلوم للسامعين من أهل البلاغة أن الاستفهام في مثل هذا المقام ليس مجردًا عن الكناية" (1).
وكلامه هنا ينحصر في أمرين اثنين الأول منهما: هو استعمال {هَلْ} بدلًا من (الهمزة)، والثاني: هل وقع الاستفهام الحقيقي في القرآن الكريم، فأما الأمر الأول، فلا يبدو واضحًا تمام الوضوح هنا، والبلاغيون فعلًا يتساءلون عن سر وضع {هَلْ} مكان (الهمزة)، إذ من البيِّن لديهم أن الهمزة دخولها على الجملة الفعلية والاسمية سواء، وأما (هل) فيكاد دخولها يقتصر على الجمل الفعلية (2)، وفي الآية توجد {هَلْ} وجملة اسمية، ومن المعلوم أيضًا أن الجملة الاسمية يؤتى بها لإفادة الثبوت والاستقرار والدوام من غير تقييد بزمن، وعلى هذا الكلام يمكننا أن نفهم السر البلاغي في الآية الكريمة على أنه أراد منهم فورية الانتهاء عن الخمر والميسر، ثم الثبات على ذلك وعدم الرجوع إليه مرة أخرى، ولا يمكن لهذا الملحظ أن يكون لو لم يؤت بـ {هَلْ} والجملة الاسمية (3).
والأمر الثاني في هذه الآية والذي يجدر بنا أن نتوقف عنده هو وقوع الاستفهام الحقيقي في القرآن الكريم ولا شك أن عبارة الشيخ في هذا الموضع مفضية إلى
(1) 7/ 28.
(2)
البلاغة فنونها، وأفنانها، 1/ 185 بتصرف.
(3)
المصدر السابق، ص 186 بتصرف.
[قال مُعِدُّه للشاملة: لم يكتب المؤلف (د فضل عباس) رحمه الله، هذا الفصل، ولم يقرأه، كما هو مبين في المقدمة جـ3/ 5]
وقوعه، وإن حاول إخراج الأمر إلى المعنى الكنائي، لكنه لم ينفِ المعنى الحقيقي، بدليل جعله المعنى الكنائي ليس أصلًا وإنما مضافًا إلى الحقيقة كما مر ذكره.
ومن الواضح جدًّا أن الاستفهام بمعناه الأصلي -الحقيقي- لا يقع في كلام رب العالمين لأن إحاطة علمه شاملة، ولكن قد يقع ذلك في القرآن حين يحكي مواقف أو يفصل مقاولات (1).
وقد عرض في تفسيره لأحرف العطف، وللحذف والذكر، والفصل والوصل، والفاصلة القرآنية والتفنن، ويعرف التفنن بقوله:
"ومن أساليبه -أي: القرآن- ما أُسميه بالتفنن وهو بداعة تنقلاته من فن إلى فن بطرائق الاعتراض والتنظير والتذييل والإتيان بالمترادفات عند التكرير تجنبًا لثقل تكرير الكَلِم، وكذلك الإكثار من أسلوب الالتفات المعدود من أعظم أساليب التفنن، عند بلغاء العربية، فهو في القرآن كثير، ثم الرجوع إلى المقصود، فيكون السامعون في نشاط متجدد بسماعه وإقبالهم عليه
…
وفي هذا التفنن والتنقل مناسبات بين المُنْتَقَلِ منه والمُنْتَقَلِ إليه في منتهى الرقة والبداعة بحيث لا يشعر سامعه وقارئه بانتقاله إلا عند حصوله، وذلك التفنن مما يعين على استماع السامعين، ويدفع سآمة الإطالة عنهم، فإن من أغراض القرآن استكثار أزمان قراءته، كما قال تعالى:{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]، فقوله:(ما تيسر) يقتضي الاستكثار بقدر التَّيَسُّرِ وفي تناسب أقواله، وتفنن أغراضه مَجْلَبَةٌ لذلك التيسير وعونٌ على ذلك التكثير" (2).
وهو ناحية لفظية بحتة كما ترى، وهذا الذي يقوله لا ينكره أحد، ولكن لما طبق ابن عاشور هذا الكلام على آيات القرآن تجده مثلًا يقول: إن الفرق بين أنزل
(1) البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري، ص 294 بتصرف.
(2)
1/ 116.
[قال مُعِدُّه للشاملة: لم يكتب المؤلف (د فضل عباس) رحمه الله، هذا الفصل، ولم يقرأه، كما هو مبين في المقدمة جـ3/ 5]
إليه وأنزل عليه أن المعدّى بـ (إلى) يفيد الغاية، والمعدى بـ (على) يفيد التمكن والاستقرار، وإن القرآن يُختار فيه إحدى التعديتين تفننًا" (1). فأين هي بداعة الأسلوب بمثل هذا التعليل.
ومن ذلك ما ذكره في تقديم (هارون على موسى) في سورة طه وحدها من بين السور التي تحدثت عن قصة موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون، ولعل هذا الموضع في سورة [طه: 70]، كان تكأة لمثبتي السجع في القرآن الكريم (2)، هذا الموضع لا يكاد يختلف فيه المتقدمون على أن سبب التقديم فيه إنما هو للرعي على الفاصلة (3).
وقال ابن عاشور في تفسيره: "وتقديم هارون على موسى هنا، وتقديم موسى على هارون في قوله تعالى في سورة الأعراف:{قَالوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)} [الأعراف: 121 - 122] لا دلالة فيه على تفضيل ولا غيره؛ لأن الواو العاطفة لا تفيد أكثر من مطلق الجمع في الحكم المعطوف فيه، فهم عرفوا الله بأنه ربُّ هذين الرجلين، فحُكِي كلامُهم بما يدل على ذلك، ألا ترى أنه حُكِي في سورة الأعراف قولُ السحرة:{قَالوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالمِينَ (121)} [الأعراف: 121]، ولم يحك ذلك هنا؛ لأن حكاية الأخبار لا تقتضي الإحاطة بجميع المحكِيِّ، وإنما المقصود موضع العبرة في ذلك المقام بحسب الحاجة. ووجه تقديم هارون هنا الرعايةُ على الفاصلة، فالتقديم في الحكاية لا في المحكِيِّ
…
ويجوز أيضًا أن يكون هذا من كلام السحرة وأنه وقع منهم قولان، قدموا هارون في أحدها باعتبار كبر سنه، وقدموا موسى في الثاني اعتبارًا بفضله" (4).
(1) 1/ 239.
(2)
المفردات القرآنية مظهر من مظاهر الإعجاز، د. فضل حسن عباس، ص 45. الفاصلة القرآنية للحسناوي، ص 137 - 140.
(3)
البحر، 6/ 261.
(4)
16/ 262 - 263.
[قال مُعِدُّه للشاملة: لم يكتب المؤلف (د فضل عباس) رحمه الله، هذا الفصل، ولم يقرأه، كما هو مبين في المقدمة جـ3/ 5]
وعلى كل حال فهذا القول الثاني الذي شفع به ابن عاشور القول الأول لا يغني في فتيل ولا قطمير، والأرجح في هذه الآية ما ذكره شيخ شيوخنا الدكتور فضل حسن عباس رحمه الله في تفسيرها حيث قال سورة طه هي السورة الوحيدة التي حدثتنا عما حصل لموسى عليه السلام من خوف، وكان حريًا به أن لا يكون منه ذلك، فهارون أولى به منه، لأنه لم يشاهد ما شاهده موسى، ولم يشرف بمناجاة الحق قال تعالى:{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)} [طه: 67]، فكان حريًا به أن يكون رابط الجأش، ثابت الجنان، من أجل ذلك يلوح لي أن هارون عليه السلام قُدِّم في هذه السورة، وهي قيمة قرآنية عظيمة حري بنا أن نقف عندها ونتدبرها، وهي تقدير كل عامل بعمله (1).
وإذ وقع الإغراب في تأويل هذه الآية بما سمعت قبلًا، فلا أعجب من احتفال السيد الحسناوي برأي ظنه راجحًا وهو قوله: إن هناك وجهًا بيانيًا بعيدًا، يصور الحال النفسية التي كان عليه السحرة، لما ظهرت معجزة موسى فألقوا سجدًا يتلعثمون بالشهادة كحال العبد الذي فرح بلقاء راحلته بعد ضياعها
…
وذكر الحديث (2).
وهذا التأويل غريب كل الغرابة، وهو يناقض الآيات بعد، التي ذكرت أن السحرة ثبتوا على إيمانهم مع تهديد فرعون لهم بالصلب فكيف يكون حال المتلعثم بالكلام لا يدري ما يقول؟ هل يثبت بإيمان يزلزل كيان فرعون أم حين يحس بالخطر يتراجع؟ !
ومما عرض له الشيخ ما سماه بمبتكرات القرآن الكريم، ويعني بها ما جاء في الألفاظ والأساليب التي لم تكن معهودة لدى العرب قبل نزوله، وقد عرض الشيخ لهذه المبتكرات في المقدمة العاشرة؛ ومن هذه المبتكرات: أنه جاء على أسلوب يخالف
(1) المفردات القرآنية، ص 45.
(2)
المصدر السابق، ص 140.
[قال مُعِدُّه للشاملة: لم يكتب المؤلف (د فضل عباس) رحمه الله، هذا الفصل، ولم يقرأه، كما هو مبين في المقدمة جـ3/ 5]
الشعر لا محالة، وأنه جاء بالجمل الدالة على معانٍ مفيدة محررة، ومنها أنه جاء على أسلوب التقسيم والتسوير، وجاء بأسلوب التمثيل وإيضاح الأمثال، ومنها أن القرآن الكريم لم يلتزم أسلوبًا واحدًا وغير ذلك.
وأما مسائل علم البيان، فقد أكثر منها في تفسيره.
وقد عرض الشيخ إلى الاستعارة التبعية في الحرف مبينًا معناها وموضحًا صورتها فقال عند تفسيره قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]: "واللام في {لِيَكُونَ} لام التعليل وهي المعروفة عند النحاة بلام كي، وهي لام جارة مثل كي، وهي هنا متعلقة بـ {فَالْتَقَطَهُ} .
وحق لام كي أن تكون جارَّةً لمصدر منسبك من (أنْ) المقدرة بعد اللام ومن الفعل المنصوب بها، فذلك المصدر هو العلة الباعثة على صدور ذلك الفعل من فاعله. وقد استعملت في الآية استعمالًا واردًا على طريقة الاستعارة دون الحقيقة؛ لظهور أنهم لم يكن داعيهم إلى التقاطه أن يكون لهم عدوًا وحزنًا، ولكنهم التقطوه رأفةً به وحبًا له، لما أُلقي في نفوسهم من شفقة عليه، ولكن لما كانت عاقبة التقاطهم إياه أن كان لهم عدوًا في الله، وموجبَ حزن لهم، شُبِّهَت العاقبة بالعلة في كونها نتيجة للفعل كشأن العلة غالبًا، فاستعير لترتب العاقبة المشبهة الحرف الذي يدل على ترتب العلة تبعًا لاستعارة معنى الحرف إلى معنى آخرَ استعارةً تبعية، أي استعير الحرف تبعًا لاستعارة معناه؛ لأن الحروف بمعزل عن الاستعارة؛ لأن الحرف لا يقع موصوفًا، فالاستعارة تكون في معناه ثم تسري من المعنى إلى الحرف فلذلك سميت استعارة تبعية عند جمهور علماء المعاني خلافًا للسكاكي" (1).
ومن الاستعارة التصريحية وهي التي صرح فيها بلفظ المشبه به ما ذكره عند تفسيره قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} [الملك: 15]، حيث قال:
(1) 20/ 75 - 76.
[قال مُعِدُّه للشاملة: لم يكتب المؤلف (د فضل عباس) رحمه الله، هذا الفصل، ولم يقرأه، كما هو مبين في المقدمة جـ3/ 5]
" فاستعير الذلول للأرض في تذليل الانتفاع بها مع صلابة خلقتها، تشبيهًا بالدابة المسوسة المرتاضة بعد الصعوبة على طريقة المصرحة"(1).
ومن الاستعارة المكنية وهي التي طُوِيَ فيها ذكر المشبه به ما ذكره عند تفسيره قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، حيث قال:"إن القصر هنا ادعائي بتنزيل الإيمان الذي عُدِمَ الواجبات العظيمة منزلة العدم، وهو قصر مجازي لابتنائه على التشبيه، فهو استعارة مكنية، شبه الجانب المنفي في صيغة القصر بمن ليس بمؤمن. وطُوِيَ ذكرُ المشبه به ورُمِزَ إليه بذكر لازمه وهو حَصْرُ الإيمان فيمن اتصف بالصفات التي لم يتصف بها المشبه به، ويؤول هذا إلى معنى: إنما المؤمنون الكاملو الإيمان"(2).
وهذا تحليل ظاهر عليه التكلف كما هو واضح، وليست هذه الاستعارة بلازمة هنا.
وقد يجد الباحث في أثناء هذا التفسير، بعضًا من الأمور اللغوية والبلاغية التي ذكر ابن عاشور أنه لم يسبق إليها، تجد الشيخ ينص على ذلك صراحة، وأحيانًا تجد الكلام ظاهرًا بدون تصريح. ومن الأمثلة على ذلك:
قال الشيخ عند تفسيره قوله تعالى: {قَالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]: "هذا جواب الملائكة عن قول الله لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فالتقدير فقالوا على وزان قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا}
(1) 29/ 32. وهذا عجيب عند الشيخ فإن هذا التحليل للتشبيه وليس للاستعارة إذ إن الطرفين هنا موجودان.
(2)
9/ 255. وانظر لمزيد من الأمثلة: 11/ 143، 12/ 57، 14/ 154، 15/ 70، 16/ 71، 18/ 178، 23/ 216.
[قال مُعِدُّه للشاملة: لم يكتب المؤلف (د فضل عباس) رحمه الله، هذا الفصل، ولم يقرأه، كما هو مبين في المقدمة جـ3/ 5]
[البقرة: 34]. وفُصِل الجواب ولم يُعطَف بالفاء أو الواو جريًا على طريقة مُتَّبعةٍ في القرآن في حكاية المحاورات هي طريقة عربية، قال زهير:
قيل لهم ألا اركبوا ألا تا
…
قالوا جميعًا كلهم ألا فا (1)
أي فاركبوا ولم يقل فقالوا. وقال رؤبة بن العجاج:
قالتْ بناتُ العَمِّ يا سَلْمَى وإنْ
…
كان فقيرًا مُعدمًا قالتْ وإنْ (2)
وإنما حذفوا العاطف في أمثاله كراهية تكرير العاطف بتكرير أفعال القول. فإن المحاورة تقتضي الإعادةَ في الغالب، فطردوا الباب، فحذفوا العاطف في الجميع، وهو كثير في التنزيل، وربما عطفوا ذلك بالفاء لنكتة تقتضي مخالفة الاستعمال. وإن كان العطف بالفاء هو الظاهر والأصل، وهذا مما لم أُسبق إلى كشفه من أساليب الاستعمال العربي (3).
قلت: وهذا الذي ذكره ابن عاشور أحد وجهين في مثل هذا الأسلوب، فأما الذي عليه جمهور المفسرين فهو أن هذا من قبيل الاستئناف البياني الناشئ عن سؤال مقدّر تقرره أساليب المحاورة في الكلام، وقد قرر الشيخ عبد القاهر الجرجاني هذا القول في كتابه الدلائل أحسن تقرير، فقال عليه الرحمة: "واعلم أن الذي تراه
(1) الشاهد نسبه ابن عاشور لزهير، وقد أعياني البحث عنه في ديوانه.
وقد ورد البيت في "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج، 1/ 62:
نادَوْهُمو أن ألجموا، ألا تا
…
قالوا جميعًا كلهم: ألا فا
وتفسيره: نادوهموا أن ألجموا، ألا تركبون، قالوا جميعأ: ألا فاركبوا، وعزاه محقق الكتاب للقيم بن أوس كما في شرح شواهد الشافية، 4/ 264، ولكن ما ورد للقيم بن أوس هو البيت التالي:
بالخير خيرات وإن شرًّا فا
…
ولا أريد الشر إلا أنْ تا
وليس البيت المذكور أعلاه، الذي ورد في لسان العرب 1/ 11 بدون نسبة.
(2)
هو من شواهد النحو على حذف الشرط والجزاء معًا لضرورة الشعر، انظر: الخزانة: 9/ 15، وهو من شواهد المغني، 2/ 724.
(3)
1/ 401.
[قال مُعِدُّه للشاملة: لم يكتب المؤلف (د فضل عباس) رحمه الله، هذا الفصل، ولم يقرأه، كما هو مبين في المقدمة جـ3/ 5]
في التنزيل من لفظ (قال) مفصولًا غير معطوف، هذا هو التقدير فيه، والله أعلم.
أعني مثل قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالوا سَلَامًا قَال سَلَامٌ
…
} [الذاربات: 24 - 28]. جاء على ما يقع في أنفس المخلوقين من السؤال. فلما كان في العُرف والعادة فيما بين المخلوقين إذا قيل لهم: "دخل قوم على فلان فقالوا كذا"، أن يقولوا:"فما قال هو؟ " ويقول المجيب: "قال كذا" أُخرج الكلام ذلك المُخْرَج، لأن الناس خوطبوا بما يتعارفونه، وسُلِك باللفظ معهم المسلك الذي يسلكونه
…
وذلك، والله أعلم المعنى في جميع ما يجيء منه على كثرته كالذي يحبيء في قصة فرعون عليه اللعنة، وفي رد موسى عليه السلام عليه كقوله: {قَال فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالمِينَ (23) قَال رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
…
} [الشعراء: 23 - 24] جاء ذلك كله -والله أعلم- على تقدير السؤال والجواب كالذي جرت به العادة فيما بين المخلوقين، فلما كان السامع منا إذا سمع الخبر عن فرعون بأنه قال:{وَمَا رَبُّ الْعَالمِينَ (23)} وقع في نفسه أن يقول: فما قال موسى له؟ أتى قوله: {قَال رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مأتى الجواب مبتدأ مفصولًا غير معطوف، وهكذا التقدير والتفسير أبدًا في كل ما جاء فيه لفظ {قَال} هذا المجيء وقد يكون الأمر في بعض ذلك أشد وضوحًا
…
" (1).
وصحيح أن علماء المعاني لم يذكروا هذا النوع، لأنه غير موجود، والقصر الحقيقي المقيد هو نوع من القصر الإضافي، وليس مغايرًا كما ذهب إليه الشيخ، ولذلك فإن في تقسيم علماء المعاني للقصر من هذه الناحية بالقصر الحقيقي والقصر الإضافي غنية عن هذا.
(1) دلائل الإعجاز، 240 - 241.