الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكنا نود أن يلتزم بمبدئه، الذي رسمه في خطته المثلى، وهي الوقوف عند حدود ما وقف عنده القرآن، ولكن هذا يهون حقًّا، أمام اتهام الأنبياء عليهم السلام، وعدم رد ما ينافي عصمتهم، عفا الله عنه، وأرجو أن يكون له من حُسْن نيته ما يوجب مغفرة الله له.
ب- مشاهد الكون ونواميسه:
من خطة التفسير عند الأستاذ الوقوف عند مشاهد الكون ونواميسه كما بينها القرآن، لذلك نجده ينحى باللائمة على المفسرين الذين خرجوا عن هذه الخطة، وتعدوا هذه الحدود، حتى على هؤلاء المحدثين الذين يريدون أن يبينوا عظمة القرآن وإعجازه في الحديث عن تلك النواميس. وإذن، فينبغي ألا يكون في "التفسير الحديث" شيء من هذا أو ذاك. لكن القارئ يفاجأ حينما يجد أنه لم يفعل كما فعل المحدثون، بل كانت تعليقاته منقولة عن تلك الكتب القديمة فيما يتعلق بمشاهد الكون ونواميسه.
فها هو في سورة (ق) عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [ق: 38] يأتي بحديث عن أبي ريرة، وهو أن الله خلق التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد إلى آخر الأيام (1). ثم يأتي ببعض الإصحاحات التي تذكر أن الله استراح يوم السبت ليثبت موافقته للحديث. والغريب أنه يذكر أن الإمام المفسر ابن كثير شك في الحديث (2)، لكنه كما تفهم عبارته نصًّا وروحًا، يريد أن يثبت الحديث بأنه روي في أكثر من كتاب، ولكن لِمَ؟ لا لشيء إلا ليوافق ما جاء في الإصحاحات، ثم يقول: "ولقد ورد في بعض الإصحاحات أن روح الله ترف فوق الماء، وهذا مطابق لآية سورة هود
(1) انظر: مسند الإمام أحمد، 14/ 82، الحديث 8341، وفيه تمام تخريجه وتنقيده. قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: الأصح أن هذا الحديث موقوف على كعب الأحبار، وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
انظر: تفسير ابن كثير، تفسير الآية 54، من سورة الأعراف.
{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} . الروح والعرش إذن شيء واحد في رأي الأستاذ دروزة. سبحان الله لا بد من تصحيح الروايات التي شك فيها بعض الحفاظ ولا بد من قلب مفاهيم اللغة، لا لشيء ولكن من أجل موافقة الإصحاحات فحسب! ! والحديث الذي ذكره أخرجه الإمام مسلم، ولكن الإمام البخاري وكثيرًا من المحدثين أنكروا هذا الحديث، لأنه يتعارض مع أي القرآن الكريم (1).
لم يتعرض المفسر لكثير من مبهمات القرآن، ولعل سبب ذلك يرجع إلى اعتماده على أسفار أهل الكتاب، فإذا وجد في هذه الأسفار ما يفسر تلك المبهمات ذكر ذلك، وإن لم يجد، فإنه يترك هذه المبهمات دون التعرض لها.
يظهر هذا عند تفسيره لقوله تعالى: {قَال الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل: . 40]، فمع أنه لم يذكر شيئًا عن تفسير الآيات إلا أنه بيَّن أن هذه لم ترد في الكتب السابقة.
لكن الذي يلفت الانتباه، ما ذكره عند تفسيره لقوله تعالى:{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)} [النمل: 82] فمع أنه يذكر أولًا بأن هذا سيكون بين يدي الساعة، إلا أنه يخلص إلى القول بأن ذكر الدابة يحتمل أن يكون مما عرف في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم، أي مما كان متداولًا بين العرب قبل القرآن، ولعل هذا إنما عُرف من اليهود الذين نقله العرب عنهم.
وليت الأستاذ دروزة وقف عند هذا الحد، لكنه ناقض ما قاله أولًا، من أن هذا سيكون بين يدي الساعة، فيقرر أن الضمير في قوله:{عَلَيْهِمْ} هو في الآية يرجع إلى كفار العرب في عهده صلى الله عليه وسلم، وأن كثيرين منهم قد أسلموا، وأن الذين لم يسلموا قد ماتوا، فإذا لا يمكن أن يحييهم الله لتكلمهم هذه الدابة.
(1) انظر: مسند الإمام أحمد، 14/ 83، وما ذكره الشيخ شعيب حول نقد الحديث الذي رواه مسلم، 2789 (27) عن أبي هريرة. و"مجمع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية، 17/ 236. و"صحيح مسلم"، طبعة مؤسسة الرسالة ناشرون، ص 1152، والتعليق على حديث مسلم.