الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قضايا العقيدة في التفسير:
التزم الشيخ رحمه الله مذهب أهل السنّة والجماعة، فكان يفسر الآيات على ضوئه، ونجده أحيانًا يفنّد آراء المعتزلة والمرجئة، وغيرهم من المذاهب المخالفة لمذاهب أهل السنّة، وقد قال في هذا الشأن:"يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه،
…
"، إن كل مناقشات أئمة أهل السنّة والجماعة مع بعضهم إنما تدور حول أمور مشتبهات، وكل منهم على بصيرة حاول أن يعطي حكم الله في هذه الأمور، ومن ثم فالأمر واسع، فمهما كان الواحد منا على مذهب إمام في مثل هذه الشؤون فإنه لا حرج عليه، ولكن الخلاف بين أهل السنّة والجماعة، وبين الفِرَق المنشقّة عن جسم الأمة الإسلامية، كالمعتزلة وأنواع المرجئة وطوائف من الشيعة والخوارج ليس فيما ذكرنا، وإنما هو خلاف حيث لا ينبغي أن يكون خلاف لكثرة النصوص ووضوحها، ولذلك في قسم التفسير قد لا نعتني بعرض أدلة الأئمة في اختلافاتهم، ولكننا نعتني بعرض الأدلة في أي خلاف بين أهل السنّة والجماعة ومن خالفهم"(1).
ونرى أنه كان الأوْلَى بالشيخ أن يعتني بالمخالفين الذين ظهروا في هذا العصر، كالحداثيين، والوجوديين، والبابيين، والبهائيين، والقاديانيين، فهؤلاء خطرهم أشدّ في هذه الأيام.
ومن المواضع التي يظهر فيها أن الشيخ على مذهب أهل السنّة ما قاله عند تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] إلى آخر الآية، يقول: "دلّت هذه الآيات على أن مرتكب الكبيرة
(1) الأساس، 1/ 48.
- حتى ولو كانت القتل العمد - مؤمن، للوصف بالإيمان بعد وجود القتل، ولبقاء الأخوة الثابتة بالإيمان، ولاستحقاق التخفيف والرحمة" (1).
ووضّح هذا في موضع آخر، حيث قال:"وفي موضوع القتل العمد، وتفسير الخلود في النار- الذي هُدِّد به صاحبه - قضايا كثيرة، ضل بها من ضلّ، وخلاصة الحق في هذا الموضوع، أن من قتل مؤمنًا قاصدًا لأنه مؤمن، أو قتل مؤمنًا مستحلًا قتله بلا شبهة معتبرة شرعًا، فهو كافر، وجزاؤه الخلود الأبدي في النار، أما من قتل مؤمنًا عمدًا غير مستحل، فهو مؤمن، ويستحق المقام الطويل في جهنم إلا أن يعفوَ الله، وقد قال العلماء: إن في القتل ثلاثة حقوق: حق الله، وحق القتيل، وحق أوليائه، فحق أوليائه الدية أو القصاص، وحق الله يسقط بالتوبة إن قبلها الله، ويبقى حق القتيل يوم القيامة، فإن شاء الله أن يرضي القتيل أرضاه عن قاتله، وإن شاء عذّب القاتل بحق القتيل، وإذا أدخله الله في النار فذلك إليه - سبحانه - ولكن لا يخلّد فيها أبدًا، كالكافرين لقوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج من النار من كان في قلبه ذرة من إيمان"، والخلود في اللغة يطلق على المكث الطويل، وفي آية القتل العمد يدور كلام كثير، وما قلناه مدار كلام أهل الحق"(2). كلامه هذا كما هو معلوم موافق لما جاء في كتب أهل السنّة والجماعة.
وبتتبع تفسير الشيخ آيات الصفات نجد أنه كثيرًا ما ينقل عن ابن كثير في هذا المجال، وغالبًا لا يعقب، فيُعلم أنه يقبل ما ينقل، قال: "وقد ألزمت نفسي في آيات الصفات أن أبقى ضمن الحدود التي ذكرها ابن كثير، لإيماني بأن هذا الموضوع لا يستطيع أحد أن يعرف أبعاد ما يقال فيه إلا إذا كان من الراسخين في العلم، فالكلام
(1) الأساس، 1/ 398.
(2)
الأساس، 2/ 1147.
بتوسع فيه في مثل هذا التفسير قد يُساء فهمه عند أنواع من القراء، فاقتصرت فيه على ما قاله ابن كثير، وكلامه يسع الجميع ويكفي الجميع" (1).
ومن الأمثلة التي وردت في تفسيره، والتي تظهر مذهبه العقدي، قوله في تفسير الاستواء في الآية الكريمة:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]: "قال ابن كثير: وأما قوله تعالى: {أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فللناس فيه هذا مقالات كثيرة جدًّا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح، مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم، من أئمة المسلمين قديمًا وحديثًا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، بل الأمر كما قال الأئمة، منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري، قال: من شبّه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى"(2). وبعد أن نقل هذا الكلام عن ابن كثير لم يعقب عليه، وهذا دليل قبوله.
وفي تفسير اليد في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، أيضًا نقل ما قاله ابن كثير دون تعقيب، حيث قال: "قال ابن كثير: أي هو حاضر معهم يسمع أقوالهم ويرى مكانهم ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، فهو تعالى هو المبايع بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
(1) الأساس، 11/ 6773.
(2)
الأساس، 4/ 1914.
(3)
الأساس، 9/ 5360.
ونجده يفسر الآية الكريمة: {قَال يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، قال:"أي بلا واسطة، أي ما منعك عن السجود امتثالًا لأمري، وإعظامًا لخطابي لمن خلقته بلا واسطة، وفي ذلك دليل على بطلان نظرية التطور في شأن خلق آدم - علية السلام -"(1).
وهو ينكر على المذاهب المخالفة لذهب أهل السنّة والجماعة، فهو يردّ على المعتزلة في قولهم بخلق القرآن، فيقول عند تفسير قوله تعالى:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2]: "مما استدل به المعتزلة على حدوث القرآن هذه الآية، ولا يصح لهم هذا الاستدلال، لأن المراد بالمحدث أنه محدث إتيانه، قريب عهده باستماعهم، مبتدأة تلاوته"(2).
وكذلك يثبت رؤية الله عز وجل يوم القيامة، فعند قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23]، يحشد الأحاديث الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم التي تثبت رؤية الله عز وجل يوم القيامة، منها ما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه:"إنكم سترون ربكم عيانًا"، وغيرها كثير من الأحاديث، كذلك استدل بقوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وأن الزيادة التي وردت في الآية هي النظر إلى وجه الله تعالى كما جاء في الحديث الشريف.
ثم قال: وهذا بحمد الله مُجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة كما هو متفق عليه بين أئمة المسلمين، وهداة الأنام.
ثم ردّ على من أوّل الآية تأويلًا يجعل الرؤية غير مرادة، فقال: ومن تأوّل ذلك المراد بـ (إلى) - مفرد الآلاء - وهي النعم كما قال الثوري عن منصور عن
(1) الأساس، 8/ 4806.
(2)
الأساس، 7/ 3428.