الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)} [النساء: 90]، {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [الممتحنة: 8].
ويؤيد ما ذهب إليه بما حدث مع أسامة بن زيد رضي الله عنها، حينما قتل رجلًا بعد أن نطق بالشهادة، ظنًّا منه بأنه قالها خوفًا من القتل، وبآية الأنفال:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] وبآيات سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وبأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرفض يومًا، طلب صلح أو عهد أمان من أعداء محاربين.
وينتهي المطاف بمفسرنا الفاضل إلى قول الله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29] فيقرر أنها حصرت أمر القتال، في الفئات التي لا تدين دين الحق، ولا تحرم ما حرم الله ورسوله من الكتابيين دون سائرهم. فهو إذن يقسم أهل الكتاب إلى قسمين: من يدينون دين الحق، ومن ليسوا كذلك، ومن هنا فهو يرد ويأبى ما قاله المفسرون، من أن المقصود بكلمة (ورسوله): الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن المقصود بقوله:{وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} أي الإسلام، يرد هذا التفسير بحجة أنه لا ينسجم مع المبدأ المحكم الذي قرره.
والأغرب من هذا أن مفسرنا يستدل على مذهبه، بكلمة (مِنْ) في الآية بأنها للتبعيض، وبقوله:{لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} مع أن أناسًا منهم لا ينطبق عليه هذا الوصف كما يدعي، ويستأنس لذلك بقوله تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة.32] معللًا ذلك، بأنهم ليسوا جميعًا قاصدين هذا الإطفاء.
مناقشة تلك الآراء:
هذه خلاصة لآراء الأستاذ دروزة، بثها في أثناء تفسيره، جمعها من هنا وهناك، وهي آراء يستدعي الكثير منهما التوقف ويقتضي المناقشة والرد، ولعله من المستحسن أن أورد -قبل تفنيذ هذه الآراء- مقتطفات من كلام الأئمة.
فهذا ابن قيم الجوزية يعقد فصلًا عن ترتيب سياق هديه هو مع الكفار والمنافقين. يقول فيه: "ثم أذن الله له بالهجرة، وأذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله، ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلحٍ وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة. فأُمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد، وأمر أن يقاتل من نقض عهده، ولما نزلت سورة براءة ببيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمر فيها أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب، حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان. وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عهودهم إليهم. وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسمًا أمره بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم، وقسمًا لهم عهد مؤقت لم ينقضوه، ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم، وقسمًا لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأُمِر أن يؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت قاتلهم"(1).
وقد ذكر ابن جرير الطبري في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)} براءة من المشركين الذين كان لهم عهد يوم نزلت براءة، فجعل مدة من كان له عهد قبل أن تنزل براءة أربعة أشهر، وأمرهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر. وجعل مدة المشركين الذين لم يكن لهم عهد قبل أن تنزل براءة، انسلاخ الأشهر الحرم (2).
(1) زاد المعاد، ج 2، ص 81، طبعة الحلبي.
(2)
الطبري، ج 10، ص 43.
وكم كنا نود أن يلتزم الأستاذ دروزة، بالمنهج الذي أراد أن يسير عليه والذي خالف طرائق المفسرين جميعًا من أجله، وهو السير مع سياق الآيات وظروفها التي نزلت فيها. وهو الذي فسر السور حسب ترتيب نزولها لتمشي مع هذا المنهج ولكنه لسبب أو لآخر لم يلزم نفسه بشيء من هذا. ومنشأ اللبس عنده ناتج من مزج الآيات جميعها، مع قطع النظر إلى متقدمها ومتأخرها، والظرف الذي نزلت فيه الآية أو المجموعة من الآيات، فهو يأتي بآية البقرة {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] فيجعلها الأصل المحكم، الذي ينبغي أن ترد إليه آيات الجهاد جميعها مع أنه يعترف بأنها أول آية نزلت في القتال ومن تلك الآيات آيات سورة براءة، مع أنها آخر آيات أنزلت.
ويحاول الأستاذ أن ينتصر لرأيه هذا، بحجج كثيرة يخالف بها المفسرين تارة، والفقهاء واللغويين تارة أخرى. فهو مثلًا ينكر أن يكون معنى (الفتنة) (الشرك) في قوله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] مع أن كثيرًا من المفسرين، قال به، واستدل له، كما فعل العلّامة الآلوسي. والغريب أنه قد تكلف كل التكلف في تفسير آيات براءة، وفي تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
…
".
والمتدبر لآيات الجهاد في القرآن، يدرك لأول وهلة أنها نزلت في ظروف مرحلية خاصة، ومناسبات متعددة الأسباب. والمستعرض لأقوال العلماء يجد أنهم أدركوا هذا المعنى إدراكًا تامًّا. فإن جمهورهم لم يقل بدخول النسخ في آيات القتال، فلم يقل أحد ممن يعول عليه ويشار إليه، بأن قوله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} منسوخ، أو بأن آية الممتحنة وآية النساء، اللتين مر ذكرهما. منسوختان ومع أن كثيرًا من الآيات التي ذكرها محل نظر، إلا أنه لم يورد هذه الآيات أبدًا. وهذا مذهب المحققين من العلماء كما ذكرت، وكما دل عليه الكلام الذي نقلناه آنفًا.
فكل نص من هذه النصوص القرآنية إذن، محكم غير منسوخ، حتمته ظروف خاصة، أما الأحكام النهائية، فهي الواردة في سورة البراءة، ومعنى هذا أن نصًّا ما، يمكن أن يصلح في حالة من حالات المسلمين شبيهة بالحالة التي نزل فيها، وهذا بالطبع لا يفقد سورة براءة أحكامها النهائية.
هذا ما فهمه المسلمون الأول، حينما انطلقوا في الآفاق مجاهدين في سبيل الله لكن واقع المسلمين الآن، والحملات التي تركز عليهم وعلى دينهم، جعلت الكثيرين من المحدثين، يتراجعون أمام هذه الضغوط، متلمسين الأسباب للدفاع عن مبدأ الجهاد، راكبين متن كل تأويل بعيد، لا لشيء إلا ليثبتوا أن الإسلام دين الإسلام، همه أن يرد عنه سهام الاعتداء فحسب.
العجيب أن المنادين بهذا الرأي المتحمسين له، لم يقولوه في زمن سارت فيه جحافل المسلمين في آفاق الأرض، وداسوا بسنابك خيلهم عروش الطواغيت وحطموا أسوار الباطل، وإنما جاء رأيهم هذا في زمن انتهكت فيه حرماتهم، وديست المقدسات، ولم يستح عدوهم والعالم من ورائه أن يطردهم مغتصبًا، دون حجة أو حكمة أو مداراة.
إن الجهاد الإسلامي لم يشرع من أجل الإكراه في الدين، ولا من أجل استعباد الآخرين وامتصاص دمائهم، وإنما شرعه الله لتحرير الإنسان الذي كرمه من كل ما يحول بينه وبين تلك الحرية والكرامة، وذلك بإخراجه من عبودية العباد حتى لا يكون لأحد سلطان عليه، وبعد هذا الإخراج، لا يرغمه على اعتناق عقيدته حيث لا إكراه في الدين، ولقد كان هذا المعنى واضحًا لدى الفاتحين الأولين. فهم حينما يخرجون، يدركون أنهم ما خرجوا من أجل غارة يغيرونها، بل من أجل نفوس يغيرونها. يقول أحدهم حينما مسألة رستم "ما الذي جاء بكم؟ " فيجيب "الله ابتعثنا لنخرج من شاء كان عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
ولقد تفرع عن رأي الأستاذ دروزة في الجهاد، جزئيات ومسائل كان تكلفه ظاهرًا فيها. ومن هذه المسائل تقريره بأن المشركين إذا انتهى عهدهم، لا يكونون محل براءة من الله ورسوله. وهذا ما يخالف فيه المفسرين كما يقول، ومنها أن التوبة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ليست المخرج الوحيد لعدم قتال المشركين، بل هناك مخارج أخرى، مع أن النص القرآني واضح في الرد على هذا، ومنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرفض يومًا ما طلب صلح أو عهد أمان من أعداء محتربين، ولا أدري كيف يفسر الأستاذ دروزة رفض الرسول صلى الله عليه وسلم تجديد عهد قريش حينما ذهب أبو سفيان لذلك.
ومما أغرب فيه تقسيمه أهل الكتاب إلى قسمين: قسم يدين دين الحق، وقسم ليس كذلك، مستدلًا لهذا بأن حرف الجر (مِنْ) هنا للتبعيض مع أنه لا سياق الآية، ولا أحد المفسرين -حسب ما اطلعت عليه- يؤيد هذا القول، بل صرح بعض المفسرين بأن (من للبيان وليست للتبعيض)، كما فعل النيسابوري. والذين لم يصرحوا منهم اعتمدوا على بدهية هذه المسألة. ومستدلًا أيضًا بقوله تعالى:{لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] وذلك أنهم ليسوا سواء هكذا، بل منهم المؤمنون بالله واليوم الآخر، مع أنه وهو يفسر سورة (الكافرون)، قرر هناك أن العرب وإن اعترفوا بأن الله خلق السموات والأرض وخلقهم، لأنهم أشركوا به لا يسمون مؤمنين، بينما رأيناه هنا يتناقض مع قوله هناك.
ومن أجل ذلك كله، ومن أجل تدعيم رأيه في الجهاد، يرفض أن تكون كلمة (ورسوله) في الآية مقصودًا بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يكون (دين الحق) فيها هو دين الإسلام، بحجة أن هذا يتنافى مع المبدأ المحكم الذي قررته آية {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190]، ولا أدري من أين أتت تلك المنافاة؟
اللهم يا حكيم نسألك أن تؤتينا الحكمة في فهم كتابك {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 296].